نصُّ «حقائق مبهمة» للشاعرة سامية خليفة نصٌّ شعريّ ميتافيزيقي عميق، يُجاور بين الجرح الإنساني والبحث الكوني عن الحقيقة، فينقل الذات من عذابها الفردي إلى تجربة الوجود الكليّ، حيث الحقيقة تتجلّى ككائنٍ متحوِّل بين النور والظل، بين الأمل واليأس، بين الحب والموت.
وفيما يلي قراءة نقدية كونية إنسانية شاملة، تحاول كشف الطبقات الفلسفية والروحية والجمالية في هذا العمل:
أولاً: البعد الكوني — الإنسان في مواجهة الحقيقة
في هذا النص، الحقيقة ليست مفهومًا معرفيًا مجرّدًا، بل كائن حيّ، أنثويّ، متمرّد، جريح، وساطع.
تبدأ القصيدة بإيقاع عنيف:
صريرُ القلمِ / أنينُ المِدادِ يحاكي الألمَ
القلمُ هنا ليس أداة بل كائن يصرخ، والمداد يئنّ كما يئنّ الكوكب في دورانٍ أبديّ حول سرّه.
إنه صرير الكلمة في الكون، حين تكتبُ ذاتُ الإنسان على جدار العدم.
ثم تتكشّف الحقيقة في صورة نورٍ مجروحٍ بالشّك:
ساطعةٌ كالشمسِ / حقيقةٌ جرحَتْها ألسنةُ الشكّ
هنا تلتقي الشمس (رمز الوجود) والشك (رمز العدم) في صراع دائم، هو الصراع الكوني بين الإشراق والظلمة — وهو صراع الإنسان منذ بدء الخليقة: الإنسان الذي يريد أن يرى، لكنه يحترق برؤيته.
ثانيًا: البعد الإنساني — الإنسان كظلٍّ يبحث عن ذاته
تقول الشاعرة:
حقيقتُكَ ظلٌّ / يلوحُ لكَ من بعيدٍ / يذكّرك بمواعيدَ اختزلها الزمنُ
هنا تتحوّل الحقيقة إلى مرآةٍ زمنية. الإنسان ليس سوى ظلٍّ يبحث عن ذاته الأصلية التي اختزلها الزمن.
إنها رؤية وجودية عميقة؛ فـ"الظلّ" هو الذات المنفية في عالم الأشياء، والبحث عن الحقيقة هو محاولة الإنسان لاستعادة نوره المفقود.
وفي بيت آخر تقول:
الأمل المتكئ على عصا / ظنّها يومًا سحريةً / اليوم أمسى كحرباءَ / لا تتلوّنُ إلا بالأصفرِ
هذا مقطع إنسانيّ حادّ، يختصر التحوّل النفسي للإنسان المعاصر: من الإيمان بالمعجزة إلى سقوط الأمل في العبث.
اللون الأصفر هنا ليس مجرّد لون، بل رمزٌ للذبول والخذلان، في مقابل "الأخضر في انقراض" — أي انقراض الحياة والرجاء.
ثالثًا: البعد الجمالي — القصيدة بوصفها كونًا لغويًّا
القصيدة تتّخذ بنية انسيابية مفتوحة، تجمع بين الصورة الرمزية والتجريد الفلسفي، في لغةٍ مشبعة بالإيقاع الداخلي، من دون وزنٍ تقليديّ.
التكرار، كأداة موسيقية (مثل كن لي... لأكون لكَ...)، يُحدث دورة طاقوية تشبه نبض الكواكب في مدار العشق الكوني.
وهذا الحوار بين الـ"أنا" والـ"أنت" — بين الذات والحقيقة، بين الأنثى والكون — يشكّل محور القصيدة الجمالي.
كن لي حقيقةً كي أكون لك شمسًا / فنكتمل
هنا اكتمال الكينونة عبر الحب: فالحقيقة لا تُدرك بالعقل وحده، بل بالمحبة التي توحّد الكائنين.
رابعًا: البعد الفلسفي — من الاغتراب إلى التجلّي
القصيدة تسلك مسارًا صوفيًا واضحًا:
تبدأ بـالاغتراب: ضياع الحقيقة، الألم، الظلّ، الغياب.
ثم التجلّي: انبثاق الحقيقة الساطعة، وإن كانت موجعة.
وتنتهي بـالوصال الجمالي: الحبّ كطريقٍ نحو التكامُل الكوني.
وهذا المسار يذكّرنا بفلسفة المتصوفة من ابن عربي إلى الحلاج، حيث يقول الأخير:
«قتلتني الحقيقة حين تجلّت».
وهو ما نلمسه في قول الشاعرة:
ليتَها بقيَت مستترةً / وأخفت عن العيون الدملَ
فالحقيقة حين تُكشف كلّها، تصبح موجعة كجرحٍ لا يُحتمل.
خامسًا: القراءة الكونية — الشعر كرسالة وجودية
هذا النص ليس محليًا ولا ذاتيًا فحسب؛ إنه رسالة كونية عن الإنسان الحديث، الذي يعيش في مفارقة رهيبة:
يعرف أكثر مما يجب، لكنه لا يعيش ما يعرف.
يرى الحقيقة، لكنها تُفزعه وتؤلمه.
يكتب الشعر كي يُعيد توازن الكون في داخله.
فالشاعرة اللبنانية سامية خليفة تقدّم في هذا العمل صوتًا أنثويًا كونيًا، يعبّر عن الإنسان كلّه، لا عن ذاتٍ نسوية فقط.
إنها تكتب من أجل استعادة الضوء، لا من أجل البوح الشخصي وحده.
خلاصة القراءة
«حقائق مبهمة» هي قصيدة في الفلسفة الوجدانية للإنسان:
رحلة من الظلام إلى النور، ومن المعرفة إلى الجرح، ومن الاغتراب إلى التجلّي.
إنها تحفر في الوعي الإنساني سؤالًا أبديًا:
هل نحتمل الحقيقة حين تتجلّى؟
أم أن الغموض — في النهاية — هو رحمة الوجود؟
بقلم ابراهيم عثمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق