التصابي
أصبح التقليد أوسع انتشارًا من الأصالة، وهي ظواهر غريبة عن قيم الرجولة والشهامة والمروءة، من أبرز تلك الظواهر ما نراه من تصابي بعض الرجال وتقليدهم للشباب، أو حتى تشبههم بالنساء في اللباس والحركات والتصرفات، وكأنهم يتنكرون لهويتهم الأصلية ويتخلون عن الهيبة التي وهبها الله لهم، وهنا تعتبر الرجولة أكبر مجرد مرحلة عمرية أو صفات جسدية، و هي مبدأ وسلوك وشخصية متزنة تحمل على عاتقها مسؤولية الكلمة والموقف، وحين يعبث الإنسان بهذه الهوية فذلك إيذان بانهيار القيم التي تحفظ توازن المجتمع.
حين يتصنع الرجل ملامح لا تليق به، فيحاكي في مظهره الشباب ويجاريهم في كل صغيرة وكبيرة، من لباس ضيق أو ألوان صارخة أو تقليعات لا تتفق مع وقاره، فهو لا يعبث بمظهره فقط، وإنما يعبث برمزية الرجل في المجتمع. لا شيء يعيب أن يحافظ الإنسان على أناقته أو يهتم بمظهره، ولكن أن يتحول هذا الاهتمام إلى طمسٍ للفوارق الطبيعية والاجتماعية بين المراحل العمرية أو بين الجنسين، فإننا نكون قد تجاوزنا حد الاعتدال إلى مساحة من التشويه والضياع.
إن تشبه الرجال بالنساء، من حيث اللباس أو الصوت أو الزينة أو الحركات، يخلخل ثوابت الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويجعل من الرجولة عبارة عن قشرة فارغة لا جوهر لها. مثل هذا السلوك لا يُعدّ حرية شخصية كما يروج البعض، بل هو تعدٍ على الخصوصية الفطرية لكل جنس، ويزرع اضطرابًا في الأدوار الاجتماعية التي تقوم عليها بنية المجتمع. ومن يتهاون في هذه المسائل يساهم، ولو بغير قصد، في تآكل الجدران التي تحمي كيان الأسرة وتحفظ استقرار المجتمعات.
المجتمع يحتاج إلى رجال يُقتدى بهم، رجال يقفون وقت الشدة، ويُعتمد عليهم عند الأزمات، لا إلى من يسعون خلف مظاهر زائفة تفرغ الرجولة من معناها، وتستبدل الوقار بالتصنع، والشموخ بالهشاشة. عندما ينسلخ الإنسان من طبيعته، فهو لا يخسر احترام الآخرين فحسب، وهو يفقد احترامه لذاته، ويتحول إلى نسخة ممسوخة لا تثير الإعجاب إذ تثير الشفقة أو السخرية.
الرجولة الحقّة ليست خشونة، وليست عنفًا، لكنها كذلك ليست تماهيًا مع النعومة المصطنعة أو تخلّيًا عن الثوابت. هي توازن بين اللين والشدة، بين الرحمة والحزم، بين الذوق والاحتشام. فلا يليق بالرجل أن يفرط في سجيته التي فُطر عليها، ولا أن ينجرف وراء موجات الموضة التي قد تنقلب عليه وتنزع عنه مهابة كان يحظى بها في عيون من حوله.
إن التشبه بالنساء أو التصابي الدائم لا يعبّر عن تحضر أو تطور، هو في كثير من الأحيان تعبير عن فراغ داخلي يسعى المرء لملئه بمظاهر زائفة. والواجب على الإنسان أن يصون نفسه عن الانجراف في مثل هذه السلوكيات، وأن يستبقي من الوقار ما يجعله مثالاً يُحتذى لا صورة تُنتقد. فالرجل الذي يعرف قدر نفسه، ويحترم طبيعته، لا يحتاج إلى تزييف كي يثبت وجوده، ولا إلى تصنع كي يلفت الأنظار، وهكذا، فإن الانجراف وراء التقليد الأعمى، سواء في اللباس أو الأسلوب أو حتى الفكر، هو انحدار في سلم الثبات والاتزان. والرجولة الحقّة، في زمن التزييف، أصبحت مسؤولية لا يحملها إلا من وعى قيمته وعرف أن هيبته ليست في مظاهره وإنما في أخلاقه وثباته ومواقفه.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق