الأحد، 12 مارس 2023

حدّثت هادية آمنة

 حدّثت هادية آمنة فقالت

فتح عبد و عيونه على ظلمة حالكة تحسس الخرقة الملفوفة على جسده .ضرب بساقه صندوق القصدير البارد الذي يحتويه. خارت قواه فسكن باهتا في موج من السوسن الأحمر. هاجت نفسه للحاق بالحسناء الراكضة أمامه
ـ عبدوووو ….عبدووووو
وقف محتارا بين الحورية أمامه والصوت وراءه
إنها شهلة … شهلة ..ياه أخيرا .
عاد أدراجه دفع بنفسه فانزلق الدرج على الحامل الفولاذي . بأظافره مزّق القماش فتحرّرت يداه .أطلّ برأسه ثمّ نطّ . وقف شاخصا في صفوف الصناديق المحيطة به .
سمع اسمه. متقطعة حروفه في نداءات رخوة ممدودة ثمّ لاهثة متسارعة صارخة مستغيثة.
قزقزقت الصناديق ثمّ انفتحت على ضحكات هستيرية وبكاء وعويل لنساء وأطفال . هبّت رياح عاتية عاويّة مُحمّلة برسائل مكتوبة بالدم على ورق البرديّ الباهت . تطايرت حامت حوله تمسّه تصفعه تخدشه .
دار حول نفسه لاهثا ثمّ أقعى صارّا ركبتيه على جوفه سادا أذنيه مطوّحا بجسده العاري ,
بمطرقة خشبية قرع القاضي فصاح الحاجب
ـ محكمة ….. سكوت
سكتت كلّ حركة إلا من ذلك الهدير النافخ المتسلل في عناد البليد .
ـ أنت عبد الوهاب ؟ نسبة إلى أمّك أنت الشرايطي وإلى والدك التليلي .
عُرْفُ محكمتنا لا يعترف بنسب الأب فهو أمر مشكوك فيه .
ـ اللعنة على صلعتك . أمّي أشرف منك أيّها الحلّوف …
ـ ماذا قالت لك نفسك الأمّارة بالسوء أيضا ؟ أيّها المُعلّم . ألست معلّما للصبية ؟ في نقطة ما من هذا الوطن العزييييز …. العريييق.
عبد الوهاب الشرايطي .
ـ ننننعم سيييدي
مستمعا إلى شخير المستشار الضخم الجالس في المقعد الثالث على يمينه .غبطه .ثمّ طرح القاضي سؤاله في حدّة
ـ " النفس " مذكّر أم مؤنث ؟
ـ لا لا أعرف سيدي.
علت الضحكات تجوب أرجاء القاعة الخشبيّة الفخمة . فطرقت المطرقة ثلاث ضربات ثمّ ركنت مزهوة مستمتعة .
قال الحاجب
ـ هدوووء …..هدوووء ….هدوووء
ـ النفس مذكّر أم مؤنّث ؟ أفصح ..أنطق … تكلّم
ـ ما نعرفش قلت ما نعرفش.
ضرب سيبويه على كفّه وغادر القاعة مغتاظا فالتحق به " الخليل بن أحمد الفراهيدي"
نطّ عقله وتدحرج على الأرض محاولا اللحاق بهما لكن سرعة الأرواح فائقة تصعب ملاحقتها من جسم لزج زاحف .
عاد ممتعضا حدّق بعينه الوحيدة في المتّهم . مطّ شفتيه الرقيقة .أخرج لسانه الورديّ الطويل مرّره على جسده المُبطبط اللّامع.
ـ النفس مذكّرة ومؤنثة في نفس الوقت.
ـ أبَيِّ ..؟ خنثى إمّالة ... لا ذكر ولا أنثى .
ـ أخرجوه من القاعة .أخرجوووووه
محمول زقفونة على الأكتاف.مانع الشقيّ المشاكس ضاربا بساقيه مدغدغا كلّ من تصله يده صارخا .
ـ عجبتني قضيّة اليوم.. عجبتني برشة بااااارشة …لا أريد الخروج
عاد الهدوء إلى القاعة فانزلق العقل سريعا وإتّجه حيث صاحبه . بسرعة فائقة دار حول نفسه
فرح عبدو بعقله الشاب النشط الذي يراه ينطّ ككرة مطاطية ليستقرّ على طاولة هيئة المحكمة .أفزع المستشار النائم فاستفاق ودفعه في قرف.
ـ لا تتجاوز حدودك أيها الشئ المُقزز.
متوجعا أجاب
ـ من هنا .من القاع .لا أستطيع رؤية طلعتكم البهيّة الموقّرة.
ـ هذا غير مهمّ . يا عقل المتّهم .نحن نراك ونسمعك …. تحدّث .
شنقل عينه إلى فوق وقال في ثبات الواثق من نفسه
ـ كلمة " نفس" سادتي الكرام مذكر ومؤنث في نفس الوقت .
همهمت القاعة مع غوغاء الخاصة والعامة.
قرعت المطرقة الجدران ثمّ قفزت نحو السقف العالي المُنتهي بقبّة بلوريّة ملوّنة تَعكِسُ نور شمس الأصيل . تراجعت المطرقة . المسافة بعيدة لا تستحق العناء. ثمّ ركنت قرب أصابع القاضي الغليظة . تنتظر نوبة جديدة من القرع .
سمعت عقل المتهم عبدو يترافع في ثقة ما أعجبتها .
ـ المفهوم في حدّ ذاته هو مصدر للجدل والغموض .كلمة نفس المذكرة تعني الإنسان كاملاً جسداً وروحاً أما النفس المؤنثة فهي الروح ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي))
وزُبدة القول هي أن النفس لم يعرف لها تعريف دقيق ما هي ؟ ولا أين توجد ؟ ..لا يوجد يقين عنها ولكن..
أرجح الظن أنها " نعني النفس " هي اتصال بين الجسد والروح .
النفس تجمع ذلك المبدأ الحيوي الذي هو التنفّس.
ـ شهيق زفير .. شهيق زفير ….شهيق زفير
لاهثا
ـ التنفّس حركة ينتعش بها الجسد فيحيا وعندما ينقطع يموت
ـ إن شاء الله في رأسك .
حينها التفت العقل غاضبا باحثا عن المُتكلّم .
ـ واصل . هكذا شخط فيه القاضي فتابع قوله في هدوء الواثق من نفسه .
ـ مع ذلك تحمل الروح دوما ذلك الأمل في الحياة الأبدية يمكن لهذه الروح مشيرا إلى الجموع أمامه وخلفه .
ـ أن تذهب بعد ذلك إلى الما بعد. الجنة أو الجحيم.
ـ اللطف .. اللطف .. اللطف
عادت القاعة للضجيج والمطرقة للدقّ
ـ سكووووت ……..سكووووت
بصوته الجهوريّ يقول القاضي ناظرا إلى عبد الوهاب مشيرا إليه بيده الطويلة الغارقة في أكمام ثوبه الأسود المتدلي المُدغدغ لوجه المستشار النائم .
ـ هناك من المجرمين من يعيشون في هذا الوطن الجميل يأكلون ,يشربون وينامون في أمان. تحت لواء الزعيم .
تصفبق حار وهتاف
ـ عاش الزعيم عاش عاش عاش …. عاش الزعيم عاش عاش عاش
ـ ماذا يريد الشعب ؟ الخبز والأمان
ممسكا بخبزة طويلة بيده . يقضم ذيلها المُقرمش
ـ هذا هو الخبز
باحثا عن الأمان للإشارة إليه فما يجده
ـ وين مشا ولد الحرام ؟
ثمّ يواصل
ـ المجرمون. أمثالك تشعر نفوسهم المريضة العائقة بالإقصاء يعتقدون أنّهم على الهامش فيكونون فريسة للأفكار المظلمة الهدّامة .
كيف.. كيف سمحتَ لروحك أن تتلاقى في سريّة تامة بأرواح من جبل بن يونس وجبل عرباطة وجبل آغري وجبل المغيلة .
ثمّ أردف في عصبيّة لا تهتمّ محكمتنا الموقّرة بالجبال والهضاب والسهول ولا حتى بالبحار والمحيطات ما يهمنا هو أنّك اخترقت الأعراف والقوانين .
تريد إعادة كتابة التاريخ ؟
يريد إعادة كتابة التاريخ ها ها ها إنّها الخيانة العظمى ..العظمى
عاضا على لسانه في غيظ رافعا المطرقة
ـ والله تَوْ انغفّسك ألا يعجبك هذا المخطوط القيّم و هذه التحفة الفنيّة النادرة يا أرعن يا آبق يا فاسق يا زنديق ؟
قفزت المطرقة طربا للكلمات الرنانة و انهمكت في وصلة بديعة من القرع .
ـ .تؤجل الجلسة للمداولة والنطق بالحكم بعد مئة سنة من تاريخ اليوم السابع عشر ديسمبر ألف وتسعمائة و واثنان وسبعون.
ـ واحد وعشرون جراما هو وزنها
ثمّ دفعوا بروحه المرفرفة المغلولة إلى قاع قارورة صغيرة وضعوها على رفّ حجريّ وسط قوارير أخرى علاها غبار أسود .
عاد هدير المحركات وعاد اضطرابه المحموم وهذيانه الغارق في دفعات من العرق البارد.
فتح عيونه على عملاق وقزم يُطلان عليه من عنق الزجاجة يُرجرجانه.
ـ سي عبد الوهاب إنتَ لابأس ؟
ذُهل متعوّذا من الشيطان وأفعاله
ـ شريبة ما........
هادية آمنة تونس
Peut être une image de 1 personne et manteau de fourrure

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق