الاثنين، 13 مارس 2023

الأمّ بين إكراهات الواقع وطموحات الذّات في " عند غروبها أشرقت " للكاتبة جميلة بلطي عطوي بقلم الكاتب العمّ لاتّحاد الكتّاب التّونسيّين الشاعر والقاصّ والناقد بوراوي بعرون

 الأمّ بين إكراهات الواقع وطموحات الذّات في " عند غروبها أشرقت " للكاتبة جميلة بلطي عطوي

" فلا معنى، إذن، للإنسان إلاّ بالسّرد حيث ينتظم اللّا ـ منتظم. كما لا سرد إلاّ بحدوث الحياة واقعا وافتراضا، حسّا وتخييلا. لذا لا يكون للسّرد، أيّ سرد، وجود إلاّ بالوقوع فيضا لأحداث يليه فيض، وحتّى الفراغ قبل البدء وعقب الانتهاء هو إمكان لامتلاء، لسرْد، بل لسرود أخرى في تمثّل السّارد كما في تمثّل متلقّي المسرود. " مصطفى الكيلاني، فتنة السّرد ـ بهجة التّلقّي، الطّبعة الأولى 2021، ص10.
" عند غروبها أشرقت " هو العنوان الذي اختارته الكاتبة جميلة بلطي عطوي لروايتها البكر الصّادرة عن دار الوطن العربيّ للنّشر و التّوزيع، الطّبعة الأولى سنة 2022 في أربعين و مائتي صفحة من الحجم المتوسّط، تتضمّن إهداء وتصديرا وشكرا و خمسة وعشرين فصلا وإشارة إلى أنّ الرّواية هي الجزء الأوّل في الصّفحة الثّانية من الغلاف ومقتطفا من مطلع الرّواية من الفصل الأوّل في نفس الصّفحة. هذا التّنوّع في المؤشّرات ذات العلاقة بالرّواية دفعنا إلى اختيار المقاربة السّيميائيّة في نسختها السّيميوطيقيّة كما وضع أسسها " بيرس " والمحتفية بالعلامات من ذوات البنية الثّلاثيّة ( ماثول / مؤوّل / موضوع ) حيث يحيل كلّ ماثول على موضوع عبر مؤوّل والماثول هو الدّالّ في المقاربة السّوسريّة والمؤوّل هو المدلول والموضوع هو الشّيء في ذاته. وتُنوّع السّيميوطيقا العلامات فهي تعتبر العلامة التي تكون العلاقة فيها بين الدّالّ والمدلول اعتباطيّة رمزا فالرّمز لا علاقة له بالعلامة مثال غصن الزّيتون والسّلام، وتعتبر العلامة التي تكون العلاقة فيها بين الدّال والمدلول سببيّة مؤشّرا مثال النّار والدّخان وتعتبر العلامة التي تكون فيها العلاقة بين الدّالّ والمدلول تطابقيّة إيقونة مثال الصّورة وصاحبها ... فما هي العلاقات بين الدّوالّ والمدلولات في الرّواية؟ هل هي من قبيل الرّموز من الصّنف الأوّل أم هي من المؤشّرات من الصّنف الثّاني أم تراها إيقونات تتطابق فيها الدّوالّ مع المدلولات أم هي علاقات متنوّعة من الأصناف الثّلاثة؟ للتّفاعل مع هذه التّساؤلات سيميوطيقيّا ارتأينا اعتماد التّمشّي التّحليلي التّالي:
1 ) النّظر في المفاتيح السّيميائيّة للرّواية
2 ) النّظر في سيمياء ملامح السّرد فيها
3 ) النّظر في سيمياء الدّلالة و التّدلال
4 ) صوغ ملاحظات على سبيل الخاتمة
المفاتيح السّيميائيّة للرّواية
العنوان هو العلامة المفتاح، هو العتبة الأهمّ للولوج إلى عوالم المقروء فهو الآخر وهو الأوّل، الآخر بما أنّه آخر ما يكتبه الكاتب، وهو الأوّل بما أنّه أوّل ما يقرأه القارئ، هو أوّل عتبة يتوقّف عندها القارئ. " عند غروبها أشرقت " هو العنوان الذي اختارته الكاتبة جميلة بلطي عطوي لروايتها البكر، في هذا العنوان مخاتلة، الكاتبة تختار عنوانا فيه مفارقة " عند غروبها أشرقت "، الظّاهر في العبارة هو أنّ الشّمس أشرقت عند الغروب وفي ذلك مفارقة لافتة إذ كيف تشرق الشّمس عند الغروب؟ كيف تشرق الشّمس وهي تغيب؟ أليس الغروب هو نقيض الشّروق؟ عندما نحاول فكّ الشّفرة نتساءل عن _ الها _ التي ربّما تعود على الشّمس، من المقصود بها؟ ننظر في الرّسم فإذا نحن إزاء صورة لامرأة هي صورة تكاد تكون ملتقطة بأداة تصوير لكنّنا نجد في الصّفحة عدد7 في باب الشّكر " شكرا بلا ضفاف للصّديقة الفنّانة التّشكيليّة والشّاعرة لطيفة محمّد الجلاصي على تطوّعها لرسم لوحة الغلاف " نحن إزاء رسم لملامح امرأة هي شبيهة عند التدقيق لصورة الكاتبة في الصّفحة الثّانية من الغلاف. الرّسم إذا لامرأة هي التي تشبّهها الكاتبة بالشّمس وتفيد بأنّها أشرقت عند غروبها، هل تشرق الشّمس عند الغروب؟ بالتّأكيد الغروب والشّروق لحظتان متزامنتان فالشّمس وهي تغرب عن فضاء عند انتهاء النّهار تشرق على فضاء آخر يستقبل نهاره الجديد، فهل تقصد الكاتبة ذلك؟ بالطّبع لا إلاّ إذا أردنا الإشارة إلى اتّحاد الضّدّين في ذات الحين من قبيل الثّنائيّات المتعدّدة... عندما ننظر في المقتطف المميّز على قفا الغلاف وهو مقتطف من مطلع الرّواية من الفصل الأوّل منها صص 11-12. نلمس أنّنا إزاء امرأة " سبعينيّة هي أو تكاد " أرملة ابتعد عنها أولادها وتركوها في وحدة جعلتها في علاقة حميميّة برنين الهاتف الذي يشقّ الصّمت ... نحن إزاء سبعينيّة أرملة في خريف العمر أليست هي المشبّهة بالشّمس؟ فماذا تقصد الكاتبة بالعبارة " عند غروبها أشرقت "؟ هل تقصد أنّ الأمّ السّبعينيّة وهي تتجه صوب الغروب أشرقت؟... في ذلك تشويق ودفع بالقارئ لولوج متن الرّواية وسبر أغوارها ... التصدير يذهب بنا في نفس الاتّجاه " سرّ العبقريّة هو أن تحتفظ بروح الطّفولة إلى سنّ الشّيخوخة. ما يعني ألاّ تفقد حماسك أبدا "ص6. إذن نحن إزاء ارتباط بين طفولة وشيخوخة، نحن إزاء أمّ تتعلّق بالهاتف أيّما تعلّق هي في وحدة ووحشة كبيرتين، رنين الهاتف مزّق الصّمت وكسر جدار القلق، الرّواية تبدأ بذلك الحدث " رنّ الهاتف، حثّت الخطى تطلبه ... " رنين الهاتف حرّك الجسد فحثّت الأمّ الخطى ... المؤشّرات / المفاتيح توحي بأنّ الأحداث تدور في حيّز زمنيّ وجيز جزء من الشّيخوخة ذلك ما تشير إليه التّوطئة صص8-9 حيث تشير الكاتبة إلى التّعالق الظّاهر بين أدب الرّواية و أدب القصّة القصيرة، إذ تقول: " فهذه الرّواية بدأت كتابتها مشروعا لقصّة قصيرة فإذا بها تتمرّد عليّ وتغازل القلم فيتبعها مطواعا وقد انتشى بطريق التّجريب والاكتشاف لينساق في غمار الأحداث التي تنفتح أمامه تباعا. " ص9 فهل نحن إزاء رواية تحتفي بالإيجاز والتّكثيف والإدهاش؟
سيمياء ملامح السّرد
توظف الكاتبة في هذه الرّواية ضمير الغائب " هي " وتتخذ مسافة من الأحداث والشّخصيّات، معتمدة رؤية سرديّة من الخلف، تجعلها مطّلعة على الأحداث وعارفة بالشّخصيّات، هذه الرّؤية ساعدت الكاتبة على بناء الشّخصيّات و الأحداث فهي عارفة بميزات شخصيّاتها وأحوالهم فالأمّ أرملة كانت تحبّ زوجها بل تهيم به وتهيم الآن بذكراه، تستحضر أمجاده باعتزاز كبير وتستمدّ منه قوّتها و صبرها وصمودها، والكاتبة عارفة بخاصّيات الجارة نجاة وعارفة بتفاصيل التّفاصيل عنها، والإبن سمير شخصيّة مكشوفة الأسرار عند الكاتبة، يحبّ أمّه كما يتعلّق بعائلته أيّما تعلّق. كذلك الشّأن بالنّسبة لسوسن ومشاكلها مع زوجها ومع عائلتها. التّعرّف على هذه الشّخصيّات يجعل الكاتبة عالمة بأهمّ الأحداث المؤثّرة في الرّواية، يُتم الأمّ ووكالة العمّ وقسوته نحوها وحرمانها من الذّهاب إلى المدرسة، ثمّ الحدث الهامّ في حياتها وهو الزّواج بمن أحبّها ووفّر لها أسباب الحياة الهنيئة، وفاته كانت حدثا فارقا في حياتها فهو سندها الوحيد، هجرة أبنائها وبقاؤها في وحدة قاسية، عودة الإبن وما صاحب ذلك من صدمات قاسية. دار المسنّين والعلاقة بالمديرة. الخ ... الرّؤية السّرديّة من الخلف تجعل الكاتبة بمثابة الإلاه، يعرف كلّ شيء عن الشّخصيّات و الأحداث. هذه الرّؤية من ناحية والرّحم القصصيّ القصير من ناحية ثانية ساعدا الكاتبة على تخيّر البنية السّرديّة المناسبة وهي هنا وإن بدت خطّيّة ( بداية / وسط / نهاية ) إلاّ أنّها مليئة بالمفارقات السّرديّة من قبيل الاسترجاع ( الومضات الورائيّة ) و الاستباق، التّوقّع، التّنبّؤ ( الاستشراف ). وهي بالأحرى بنية خماسيّة فيما ذهب إليه " بول لاريفاي " الذي يُقسّم سياق التّحوّل إلى ثلاثة أقسام فتكون البنية على النّحو التّالي: زمن ما قبل التّحوّل ( وضع أوّلي أو توازن أوّلي )، زمن التّحوّل ( قدح الفعل، صميم الفعل، مآل التّحوّل )، زمن ما بعد التّحوّل ( وضع نهائيّ أو توازن ثان ). رنين الهاتف وما أدخله من غبطة على شعور الأمّ " رنّ الهاتف، حثّت الخطى تطلبه وهي التي تعوّدت أن تضعه إلى جانبها على أهبة الاستعداد للرّدّ لكنّها هذه المرّة نسيت أو تناست وقد طال انتظارها دون أن تسمع الرّنين. " الرّواية ص11 ثمّ " أمسكت الهاتف بيدين مرتعشتين وهي تسارع في فتح الخطّ خشية أن تنقطع المكالمة. " نحن هنا إزاء وضع البداية، الأمّ والهاتف والعلاقة الحميمة به. اكتشاف الأمّ أنّ ابنها وعائلته غادرا بيتها خلسة للإقامة بعيدا عنها هو قدح الفعل " لقد تحرّج سمير فلم يستطع أن يخيرك بنفسه بعد أن رأى الفرحة التي كنت عليها عند استقبالهم ومن أجل ذلك كلّفني بهذا الأمر... " الرّواية ص22. صميم الفعل يتمثّل في قرار الأمّ بالإقامة في دار المسنّين. ويتمثّل مآل الفعل في تدخّل الإبن وحرصه على مغادرة أمّه لدار المسنّين والقدوم للعيش معهم، وفي اتّخاذ الأمّ القرار بقضاء النّهار في الدّار لمساعدة المسنّين والعودة في اللّيل للإقامة في بيتها حتّى لا تتعكّر العلاقة بين الإبن وزوجته أكثر فأكثر. أمّا وضع النّهاية أو التّوازن الثاني فيتمثّل في نجاح الأمّ في مساعدة زوجة ابنها على تجاوز مخاوفها ومساعدة الابن على تفهّم الزّوجة واستعادة الاستقرار داخل العائلة، كما أنّ نجاح الأمّ في إنجاز مشروعها التّربوي داخل دار المسنّين يُعدُّ توازنا جديدا يتضمّن فتحا للآفاق من خلال التّمهيد للجزء الثّاني الذي سوف يوظّف العلاقة الجديدة بين الأمّ والمعلّم الذي عرفته مبكّرا في صباها ولم تره منذ تلك السّنوات. أمّا في مستوى مكوّنات السّرد في هذه الرّواية فإنّ الأمكنة تبدو واضحة نسبيّا، تدور الأحداث في تونس، حيث تمّت الإشارة إلى سيدي بوسعيد مثلا، وإلى حديقة البلفيدير وهي تدور بين بيت الأمّ ودار المسنّين والبيت الذي يسكن فيه الابن وعائلته، وأماكن أخرى، أمّا الزّمان فهو غير محدّد، فقط توجد إشارة إلى عمر الأمّ " سبعينيّة هي أو تكاد " الرّواية ص11كما تمّت الإشارة إلى تعلّق الزّوج بالوطن ( الدّولة الحديثة ) تدور، إذن، الأحداث في الفترة الحاليّة. تجعل الكاتبة مختلف عناصر السّرد في خدمة الشّخصيّة الرّئيسيّة، الأمّ ( تونس )، نحن إزاء رواية تحتفي بالشّخصيّة في ما يطلق عليه المهتمّون بالكتابة الرّوائيّة رواية الشّخصيّة على غرار " الأمّ " لمكسيم غوركي و " زينب " لمحمّد حسين هيكل و " حليمة " لمحمّد العروسي المطوي و " الطّلياني " لشكري المبخوت، لو نظرنا في هذه الشّخصيّة ( الأمّ ) من خلال التّحليل العاملي لغريماس لتوصّلنا إلى المعطيات التّالية: العامل الذّات ( الأمّ ) ترغب في التّخلّص من الوحدة والعيش في أنس ( العامل الموضوع )، والدّافع إلى الرّغبة في ذلك هو الوَحشة التي تعيش فيها من جرّاء الوحدة ( العامل المرسِل ) وتعتبر الأمّ هي العامل المرسَل إليه. أمّا العامل المساعد فيضمّ الجارة والابن في فترات لاحقة من الرّواية ودار المسنّين ورؤى... ويشتمل العامل المعطّل أو المعارض على الأمّ الفرنسيّة وابنتها كاترين ( الكنّة ) والعمّ وزوجته قبل زواج الأمّ الخ ... هذه العوامل ترتبط فيما بينها بعلاقات على نحو علاقة الرغبة التي تربط بين العامل الذّات والعامل الموضوع وعلاقة التّواصل بين العامل المرسِل والعامل المرسّل إليه وعلاقة الصّراع بين العامل المساعد والعامل المعطّل. كلّ هذه العلاقات تدور في فلك الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية ألا وهي الأمّ.
سيمياء الدّلالة والتّدلال
المربّع السّيميائي لغريماس يتمثّل في مربّع زاويتاه العلويّتان تتضمّنان الشّيء وضدّه والزّاويتان السّفليّتان تتضمّنان نفي الشّيء في الزّاوية اليسرى المقابلة قطريّا للشّيء ونفي ضدّ الشّيء في الزّاوية اليمنى المقابلة قطريّا لضدّ الشيء. وإذا كانت العلاقة بين الشّيء وضدّه علاقة تضادّ مثلما هو الحال بالنّسبة للعلاقة بين النّفيين ( نفي الشّيء ونفي ضدّه ) فإنّ العلاقة بين الشّيء ونفيه من ناحية والعلاقة بين ضدّ الشّيء ونفيه من ناحية ثانية فهي علاقة تناقض، بينما تتمثّل العلاقة بين الشّيء ونفي ضدّ الشّيء والعلاقة بين ضدّ الشّيء ونفي الشّيء علاقة اقتضاء. فإذا حاولنا توظيف هذا المربّع السّيميائيّ في رواية الكاتبة جميلة بلطي عطوي " عند غروبها أشرقت " المليئة بالثّنائيّات الدّالة، مثل ثنائيّة الأنس / الوَحشة، وثنائيّة الفرح / الحزن، وثنائيّة، الاقتراب / الابتعاد ... فإنّنا نرى أنّ ثنائيّة الخير و الشّرّ تكاد تحوصل الثّنائياّت الأخرى وتكاد تجمع بينها. فالخير في هذه الثّنائيّة هو الشّيء في المربّع الدّلالي والشّرّ هو ضدّ الشّيء في نفس المربّع ويكون بالتّالي اللّاخير هو نفي الشّيء في الزّاوية السّفلى اليسرى واللّا شرّ هو نفي ضدّ الشّيء في الزّاوية السّفلى اليمنى. وتكون العلاقات على النّحو التّالي: يتحرّك الخير باتّجاه الشّرّ لاحتوائه وتحييده، وتمثّل الأمّ هذا الخير فهي تستعدّ لاستقبال كنّتها التي تشترط مسبقا العيش بعيدا عن حماتها لأنّها تحمل أفكارا سيّئة عن الحماوات عموما وبالأخصّ الشّرقيّات من خلال ما رسّخته أمّها في ذهنها، فأمّ الحماة هي التي تجسّد الشّرّ حسب الكاتبة وهي تمرّره في الرّواية عبر ابنتها، العلاقة بين الخير / الأمّ والشّرّ / كاترين هي علاقة تضادّ تتمظهر في الرّواية في ذلك التّصادم والنّفور بينهما. فالامّ تتنازل عن غرفتها وفراشها لفائدة حماتها صحبة ابنها طبعا وتختار غرفة المعينة المنزليّة وفي ذلك حسب الكاتبة مدّ لجسور المودّة والحبّ في الوقت الذي اتفقت فيه كاترين الحماة مع زوجها متأثّرة بنصائح أمّها على الإقامة بعيدا عن الأمّ، ووافق الابن على ذلك فكان إلى جانب الشّرّ الذي لحق بالأمّ وأودى بها إلى حالة من الحزن والقهر والاكتئاب أفضت بها إلى الإقامة في المستشفى " رافقتها الجارة إلى المستشفى أين تمّ فحصها فحصا شاملا وأمر الأطبّاء بإبقائها في غرفة العناية المركّزة لمراقبة الضّغط ودقّات القلب. " (الرّواية ص24 ) ساعدت الجارة الأمّ ووقفت إلى جانبها وفي ذلك دعم بيّن للخير، تطوّر الأحداث سيؤُّثر في العلاقات بين مكوّنات المربّع السّيميائيّ، الابن يصطدم بقسوة الموقف الذي اتّخذه صحبة زوجته فيتراجع ويصير داعما للأمّ وهذا السّلوك يفيد في مستوى العلاقات داخل المربّع أنّ الشّرّ او جزءا منه قد يتّجه نحو الخير ويدعمه، مثلما قد يتّجه الخير نحو اللّاخير أو ما شابهه فالأمّ تضطرّ إلى ترك البيت والذّهاب الى دار المسنّين دون إعلام أحد وفي ذلك إلحاق ضرر بالابن خاصّة " حاول أن يلحق بها لكنّ الحركة لم تسعفه، فتح فمه ليناديها فمات الصّوت في حلقه وارتمى على الكرسيّ منتحبا، ... " ( الرّواية ص42 ) مثلما كان للأمّ موقف معارض لسوسن فيه امتعاض منها يصل احيانا إلى ما يشبه الكره. أمّا الابن سمير فإنّه باتّخاذه موقفا معارضا لرغبات أمّه عندما قرّر صحبة زوجته الابتعاد عنها و العيش بعيدا فقد ألحق بها ضررا كبيرا واقترب بذلك من الشّرّ لكنّه بمراجعته ذلك الموقف بالاقتراب من الأمّ ( فعل الخير ) حسب الكاتبة، والابتعاد عن رغبة الزّوجة ألحق الضّرر بها ممّا جعلها تمعن في الارتباط بوصايا أمّها ( الشّرّ المطلق ) حسب سياقات الرّواية. ثمّ تتراجع إثر تدخّل الخالة، وبالأخصّ إثر تدخّل الأمّ وتبيّن حرصها على الدفاع عن وحدة عائلة ابنها والتقريب بينه وبينها " أمام الباب أمسكت تونس بيد كنّتها باسمة: ـ من اليوم نحن صديقتان. تخلّصي من الأفكار المسبقة فأنت ابنتي ولست زوجة ابني وأنا إن شئت اعتبريني في مقام أمّك وربّما أقرب إليك منها. " ( الرّواية صص216_217 ) في هذه الوضعيّة يتّجه الشّرّ ممثّلا في موقف الزّوجة المتأثّر بموقف الأمّ ( الإصرار على الفرار من تونس صحبة ابنيها ) صوب اللّا شر أوّلا عند مراجعة الموقف، والسّعي إلى تغييره ثمّ إدراك الخير بالعدول عن الفرار بالابنين والاقتناع بموقف الأمّ والخالة. كما يتّجه الشّرّ المتمثّل في موقف سوسن المتمثّل في الكره المطلق للجميع وخاصّة تونس إلى الخير إثر تدخّل الطبيبة النّفسيّة والكشف عن الوضعيّة الاستثنائيّة التي تعيشها ... وينفتح الخير على الخير في آخر الرّواية عندما تلمّح الكاتبة إلى إمكانيّة بداية علاقة جديدة بين تونس والمعلّم / الفتى الذي عرفته في صباها وأحبّته في تلك السّنوات التي قاست خلالها من ظلم العمّ وزوجته " بقيت تتابع المشهد في سعادة غامرة ولسان حالها يردّد: لقد عاد الرّبيع يا تونس لقد عاد. هذا ربيعك تنجزينه كما تشتهين ولن يقدر أحد على حرمانك مجدّدا. اليوم لا رقيب ولا حسيب. لا ظلم ولا ظالمين. أنت سيّدة نفسك تفعلين ما يروقك وتختارين الأصلح كما كنت دائما " ( الرّواية ص237 ) ومع هذه الانعطافة في نهاية الرّواية أو بالأحرى الجزء الأوّل تنفتح الآفاق صوب الجزء الثّاني فتكون الخاتمة مفتوحة على آفاق أخرى...
على سبيل الخاتمة
في باكورة رواياتها انطلقت جميلة بلطي عطوي من القصّة القصيرة ( الإيجاز والتّكثيف والإدهاش ) إلى القصّة الطّويلة، واتبعت مسارا سرديّا خطّيّا أو يكاد ونظرت في عوالم الرّواية من الخلف ووظّفت الرّموز من خلال التّسميات تونس الأمّ تحيل على الوطن، وهي متعلّقة بأبنائها وبزوجها الذي تقدّمه الكاتبة بمثابة الوطنيّ المحبّ لتونس حدّ الهيام، أنقذها بالزّواج منها من براثن الظّلم والقهر والطّغيان، وتخوض تونس في الرّواية مواجهة مع الأمّ الفرنسيّة التي تحيل على فرنسا ( الاستعمار و التّكبّر والتّمييز ... ) كما نجحت الكاتبة في بناء شخصيّة الأمّ التي جعلتها قويّة في مواجهة صعوبات الواقع الذي تعيش فيه وجعلتها صبورة، وبالأخصّ مرنة في التّعامل مع الأحداث وحكيمة عند اتّخاذ القرارات الحاسمة. فهل ستكون الكاتبة جريئة في الجزء الثّاني من الرّواية المشار إليه في الصّفحة الثّانية من الغلاف بالسّماح للأمّ بالارتباط في علاقة حبّ آسرة مع الحبيب الأوّل مستعيدة قول أبي تمّام " نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل " تستدعي هذه الرّواية المزيد من القراءة فبالقراءة تلو القراءة تتطوّر الكتابة وبالقراءة تلو القراءة يشتدّ عودها وتشقّ المدى.
بوراوي بعرون
الكاتب العمّ لاتّحاد الكتّاب التّونسيّين
شاعر وقاصّ وناقد




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق