🍁قراءة في قائيات الاستاذ الدكتور حمد حاجي
(Hamed Hajji)
—-على سبيل المقدمة
(اللغة هي شيء أكثر قدما وتعينا وديمومة من اي شكل آخر من التنظيم الاجتماعي) { جوزيف بروديسكي}
لذلك امتطاها الاستاذ الدكتور حمد حاجي— هو يسعى في كل انماط كتاباته لجعلنا كقراء نتحدث بلغة الادب ،لأن الشعر والجمال في اعتقاده أداتان لإنقاذ الذات والآخر وخلاصه من الرداءة
وأتناول هنا {الشذرات التي اطلقتُ عليها هذه التسمية —القائيات لانها تنتهي بحرف (القاف اي قائية القافية)
ولانها تخدم أعظم وأرقى وأسمى إيديولوجيا ألا وهي (الحب)
فكانت شذراته مزيجا من الرؤية الشعرية والتأمل الفلسفي والإشراق الصوفي والحدس ونستطيع ان نقول انها أصوات تأتي من الغيب
وكقارئة مطلعة على هذه الشذرات
أنــوّه بالتحول النوعي في شذرات الاستاذ الدكتور حمد حاجي لانه قرر تجاوز مرحلة الخوض في العادي والمحسوس المبتذل والمألوف الذي لا يحقق الخصوصية والتميّز تجاه كل المعمم والمملوك من الآخرين——-لنجد أنفسنا امام نص جديد له صوته المميز وطقوسه الابداعية الخاصة به والتي تجعلنا نميزه عن غيره من شعراء او كتاب الشذرة
فنراها بذور قصائد مفعمة بالضوء والمشهدية
وتعدد الجداريات المرسومة بالكلمات واللوحات
الزاخرة بالألوان— فهي ملونة كل شذرة منها تحيل على ضميمة ورد-وقد يطول بك التفكير وانت ترقب شذراته التي تفوح بعطر— الشفق -والارق -والقلق -والعشق -والشبق—- والحبق-ترسم على التخوم حكايات طال انتظارها
وكانه يقول لنا علنا(من انفصلت لغته عنا يكون تعيسا ولو كان يملك الف لغة—-)فما بالك اذا كانت هذه اللغة (لغة الحب )واذا ذهب الحب فلن يحكي لنا الشعر(قصص العشاق) ومن أين سنأتي بطعم حلاوة اللقاء ومرارة لوعة الفراق؟؟
هذه الشذرات تكاد تكون (توقيعا باللغة والصورة والصرخة فهو لا يتوارى وراء الكلمات،لأن كلماته تعد ضوءا كاشفا مشّعا يوسع دائرة قرّائه عبر العالم العربي——شذراته معبرة عن أدق الخلجات وأكثرها اتصالا بالقلب——
في الشذرة—- 1—
بعيدك يا امرأة
كالكوكب والحبق
أهديك قلبي وعيني
والروح بالشفق
فلولاك ما عشق الضوء
إطلالة الأفق
ولولاك ما تاه الرجال
بأول حب على الطرق..
-نحس نارا تشتعل تحت العبارات والأخيلة وتنتقل لنا عدواها في كامل الاتجاهات نار عشق تنبثق من اعماق النفس ونجد أنفسنا أمام أقدس شعور انساني على الاطلاق ألا وهو( الحب)
___الشذرة94_____
وليلة ودعتها
فأبصرتها ملكا غارقا في سنا الشفق
تعوذتها بثلاث على نسق
تلوت لها سورة الحب والعشق والفلق
-نقرأ هذه الشذرة فنمتلئ حبا وعشقا وهياما ونرحل لوطن أرضه الحب سماؤه الحب حدوده الحب
عناصره الأربعة حب ونقاء فنتعمّد بالحب ونقيم صلاة الشكر للحب….
_____الشذرة 349__
قصيدي هديل الحمام في الطرق
ويخشى عذولي حروفي
كما خاف فرعون من الغرق..
—قد يذهب البعض الى ان (الشذزي ) هنا مصاب بالغرور والنرجسية
والحقيقة أنه يعيد الاعتبار لمجرى الكتابة الأم الذي يتصل بالينبوع الأصلي الذي تصدر عنه كل كتابة حقيقية الا وهي الأنا الموهوبة المعطاء التي تعطي من ذاتها لذاتها ومن ذاتها للاخر….
___في الشذرة 108____
كحيلة العين
وحبك يا بنت والطارق
وأكحل عينيك والغاسق
كما كوكب في السماء سامق
اغيثي فتى مغرما كان مثلي
في بحرك السابح الغارق
__هذه الشذرة تحيلنا الى بدء خلق الكون
وهذا الاكحل (السواد)الذي كان يكسو الكون او هذا العدم ثم كان النور
ليتواصل التماهي مع القوى الطبيعية (كوكب—سماء—بحر-)ومع الكون كله مع تضمين الخطاب القرآني وعناوين السور(الطارق—)
___في الشذرة 231___
وعطرك جاء البشير به
وأشبهت يعقوب في الطرق
فلولا هواك
ولولاك لم ينـج نوح من الغرق..
____نجد قصة يوسف ويعقوب حاضرة بقوة في ثوب عشق راقي حيث الكلمات تحلق عاليا بقدسية وقداسة الانبياء والرسل انه اسراء ومعراج لعالم كلمات تولد أرواحا بأجنحة مثنى وثلاثى ورباعى
وهنا تبرز قدرة ( الشذري )حمد حاجي على تمثُل الكلمات ورسمها بالوان الطيف
___في الشذرة 261____
ومدّت لي العنق
فقبلتها
نبتت أثمرت
وبرعم تفاحها أورق
كأنه من جنة الخلد قد سُرق
___لوحة شعرية تعيد للذهن قصة آدم وحواء والتفاحة-ونلمس القدرة على سحب المتلقي لعالمه السحري بكل نعومة وسلاسة
___في الشذرة366___
فما أروعكٍ
روائح شعرك سحر رقيق
ونمشك فوق الذراع
كآثار أقدامنا
فوق ثلج الطريق
____صورة شعرية جعلت من النمش جمالا ثلاثي الأبعاد مستحب بل ومرغوب فيه هذه الشذرة
بالذات لو قرأتها المراة المنمشة ستحب بل تعشق نمشها ولو قرأتها غير المنمشة لتمنت أن تكون كذلك فهي شذرة ارباك المفاهيم والموروث
——الشذرة 481—-
ثمة عملاق
يحب امراة
بنى لها قمرا في الآفاق…
كأن مقبرة لكل العشاق
___بضع من الكلمات أودعها قواعد العشق
ونزلت معها سور وآيات عشق تتلى في رحاب قداسة الحب
وقد يقصد بالعملاق القلب العاشق والذي في سكرات العشق لا يصحو ويتمثل المستحيل في الممكن
واذا اعتبرناها اي الشذرة شطحة صوفية
سيكون العملاق هو الله الذي خلق المراة
لتكون ارق واروع واجمل مخلوقاته عندما
يسكِنها الرجل موطن النقاء في قلبه
وقد نرى(الشاعر)العملاق الذي من أجل معشوقته يقبر كل عشاقها انها انانية المحب وهي انانية تغتفر
ومحبذة جدا عند الأنثى
___الشذرة 77___
ومشقوقة الجيب تمشي الطريق
أعاكسها -جنبها-خلفها-وأزاحمها بالمضيق
كأنْ على رجلها من قفا يدها رقة وبريق
أحبــكِ
قالت:أنا لي صديق….
___في هذه الشذرة لا يتورع (الشذري ) عن تحرير كامل اللّاوعي الانساني وإطلاق المكبوت من عقاله مزوّدا بموهبة عالية وخيال متوقد وحساسية مرهفة إزاء الوعي والايقاع والملفت في الشذرات هو أمانة الانتساب إلى المكان الذي خرجت منه( هذه الشذرة مثلا مدنيَّة بامتياز ان صح القول اي لوحة من المدينة)
خلافًا لمعظم ما يُكتب اليوم الذي لم يعد يشير الى مكان بعينه أو هوية بذاتها فيضيع في خواء المعنى وضياع الانتماء وهلامية اللغة—-
___في الشذرة 93___
تجيء إلــيّ فظامئةوتخاف من الشِّرق
فأوردها قلقي
وعيني وما حملت دموعي وجفني
من الأرق
تفرّ الظباء إلى حافة النهر تخشى
من الغرق…
__شذرة عابقة بروائح الأماكن (النهر…)وفي شذرات أخرى نجد البحر حاضرا بقوة وكذلك الريف بكل امتداده——كما نلمس تضاريس الاماكن والرغبات وعبق تاريخ الأدب حيث نتعرف من خلالها على الظلال النفسية والجغرافية التي يُشكل عالمها(الحب)—وهو امر تشير اليه مفردات
متعددة وردت في شذرات أخرى(الظباء— الفرس-جناح الغراب—-هديل الحمام —عشب —زوبعة— الخ)
و بين مد وجزر تدخلنا شذراته المدينة والشوارع والانفاق والمقاهي—-ولكن عادة ما يكون الانطلاق من الجذور اي الريف ومغرياته الجمالية وجاذبيته العفوية هو قد يبحث عن صوت عاشقة في هشيم الحطب في منزل ريفي يسكن سفح الجبل او في ما تبقى من (تفل )في قاع فنجان القهوة في مقهى عتيق
___في الشذرة 357___
كما الحبر حين يراق
على ورق
سأزرع بين ضلوعك
موجًا من الأرق
سوادا بياضا
يميل إلى أزرق
___شذرة ترسم لوحة عاتية البيان تخلد لقاءً،فيها زرع الشاعر بين ضلوع الحبيبة -الأرق- وأرق بأرق -والبادي متيّم- كما نلمس عنفوان اللغة -وكأني أسمع الشاعر الإغريقي يانيس ريتسوس
يقول :(هل عشت القبلة والقصيدة
فالموت اذن
لــن يأخذ منك شيئا)
وحياة بلا حب وبلا شعر هي عدم
___الشذرة 150____
وجاءت جناح غراب تجر الوشاح على الطرق
فريحانة طلعت في كسو الحبق
وعانقتها والتصقنا -التحمنا-
إلى حمرة الشفق
كأنْ غصن لوز يُلفً بخضر من الورق
____شذرة جريئة تجعل القارئ يصارح نفسه
بأن ما عجز عن التصريح به حتى في حوار باطني مع نفسه—
فعله (الشذري )نيابة عنه دون عقد حيث غاص في وجدانه وعبر عن مشاعره المذعورة والمطمورة في اللّاوعي
وعموما هذه الشذرات هي مشروع خاص للكتابة والحياة لان كاتبها يرى المستقبل المتصالح مع الماضي لان الماضي لا يقفر إلّا حين يقفر الحاضر
والاشياء لا تفرغ من معناها بل التي تفرغ هي العين الرائية وزاوية التقاط المشهد في لحظة الضوء
وهذا ما تفعله عدسة الالهام عند الاستاذ الدكتور حمد حاجي
___الشذرة346___
وسمراء من خجلها
استعار حمرته الشفق
وانا عاشقها وأتقلّى على
جناح الأرق
بعينيها تبوسني
وبلا كحول عن بعد أحترق..
____في هذه الشذرة
الحواس تتبادل موقعها وادوارها لتشحن القول الشعري بالكثير من أوصاله وقوة تأثيره
ثمة أصوات وروائح تصدرها الكلمات تستفز رغباتنا الكامنة وتستنفر حوّاسنا بحيث نكاد نشم رائحة المشهد ونتذوّق طعم حلاوته
وعموما كل الشذرات هي عبارة عن ثنائيات(هو-و هي)والطبيعة بكل جمالية قواها المتضاربة أحيانا
حيث تندمج جميعها في دفق خلاق تتضافر في صنعه الصور والايقاعات المؤثرة واللغة والصيغ
التعبيرية المتنوعة
_________على سبيل الخاتمة______________
من خلال اطلاعي على كتابات الناقد الاديب والشاعر
الاستاذ حمد حاجي
خلصت إلى ما يلي ———-
ان الكتابة تحت كل مسمياتها- بالنسبة له هي فعل ايماني بقوة الكلمة—-
وكل شذرة هي زهرة من حدائق الوجدان الوارفة بالأحاسيس تمرر من يد الى يد لتتجدّر في القلب
وهي صلاة تبتل في معبد له قداسة ونور في عتمة ليل الحياة
كما انها أنشودة في صخب ضوضاء العدم يلقيها على مسامع الروح والقلب
أو وشوشات أرواح ونداء إلهي خفي لا يسمعه الا من له حظ عظيم من رضى الحروف والكلمات
ومن تعلقت همته بقوة وسلطان الحروف نال رفعة الكلمات وشموخ الخلود
وله في الكتابة حياة وانبعاث وإشراقة
___وهذه الشذرات هي عبارة عن مقطتفات من رسائل عشق فهي تعكس صورة المبدع العاشق الذي يضع السعادة مكثفة تحت قدمي الحبيبة كما يفعل الفارس النبيل والعاشق هو الحرف والحبيبة هي الكتابة—ولا يوجد أقدر من الشاعر على رسم وتثبيت لحظات العشق التي تربط بين الحب وعناصر الوجود
والاستاذ الدكتور حمد حاجي يتفنّن خلال مرحلةكتابة شذراته في مدّ معاني كلماتها بشحنة من الدلالات التي تأتي بإيقاع هارموني تلقائي فبعد ان يتلقى وحي الكلمات يتركها تسير بانسيابية وتلقائية
وكأني بالاستاذ الدكتور حمد حاجي هذا الناقد الفذ والاديب الشاعر يذكرنا بما يلي(طالما توجد لغة مثل العربية فالشعر لا مفرّ منه)
ناقد يبدع كلما قال شعرا ويتجدّد خيالا ومساحات وحضورا
نحن امام شاعر يمسك بناصية القصيد وبوصلتها واتجاه رياحها-
شكرا لهذا النسر القادم من أعلى قمة في تونس
ليحلق بنا في سماء الإبداع ونسافر معه في حج أدبي مبرور …..
ملاحظة
لفظة (الشذري) اي كاتب او شاعر الشذرات
أنا من استنبطها وان كان غيري قد سبقني إليها
يكون الامر مجرد التقاء أفكار
الادببة الشاعرة
فائزه بنمسعود
يوميات مارقة الجزء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق