فلسفة الحياة والأخطاء البشريّة
الدنيا فرصة الإنسان للحياة وإدراك معنى الوجود بشقيه الذاتي والموضوعي وممارسةً لحقّه في العيش وإكتناه وتذوّق مرارة وحلاوة الحياة.
يأتي الإنسان ضيفا وزائرا يحلّ في مسرح الحياة في حيز زمني معلوم البداية مجهول خاتمته ثم يغادر بعد حين منسحبا مرغما أو مكرها أو بطيبة خاطر مستسلما لقدره يسلبه الموت حياته بسلب روحه ولا مفر ففي وجوده وصيرورته جبرا إلاهيّا لا يتعارض مع عدالة الربّ عزّ وجلّ فلقد " خلق الموت والحياة " .
غالبا لا يُفْهَم حقيقة وجود الإنسان إلا بعد فراقه ورحيله فخينئذ يتعذر رجوعه للحياة لتدارك أمره من حيث شعوره وسلوكه وإختياراته وتوجهاته وإستناده ويقينه فيبقى الأمر موكولا للأحياء دون الأموات للتدبّر والإعتبار.
ليحقّق الإنسان حقيقة وجوده كذات عليه أن يخوض تجربة حياته بإقتدار وأن يسلك طريق الحقيقة والعرفان إذ الإدراك شرط أساسي لسلوك منهج قويم ولتخيّر معتقد أمثل وإتخاذ القرار الصائب وإلا فالأفكار الخاطئة التي قد يحملها في نفسه ويزدان بها إنطباعه قد تدمّر وتقصيه في معترك الحياة ؛ فقصة الإنسان والخطأ متأصّلة ثابتة في حياة البشر ولا يمكن أن يتحسّس ويعقل إنعكاس كل ذلك في ذاته إلا متى حصل تغيير نوعي في نفسه ورؤاه واختياراته وتصرفاته وقراراته وتوجهاته.
وهو يعبر جسر الحياة تعترضه الصعوبات والقواطع والتحديات فحياته عراقيل ومطبات لأن حياة الإنسان سياق وأهداف فتحيط به العلاقات والوسائط لتأسره وتحبطه أو يتجاوزها بعلوّ همته وسداد رأيه وحسن تدبيره وتصرّفه.
في التجربة الحياتية قد يتحقق وعي الإنسان ونضجه وفهمه وعلمه ونباهته وفطنته وكياسته بإكتساب خبرات وحصاد التأملات ولكن قد يعيش منسجما متوافقا موافقا لمجتمعه مسالما لمحيطه فيعترف به شخصا ولكنه لا يستطيع أن يحقّق حقيقة وجوده كذات مدركة عارفة سالكة متحقّقة إلا إذا تسلّح بإرادة حرة ووعي ذاتي وهمة عالية متجردا من محيطاته وسلبياته ومتجاوزا لأخطائه .
فالتجربة الإنسانية والرؤية الفلسفية للوجود وتأثير الأفكار والإدراك لن يكونوا ذا نفع وفائدة وفاعلية وقيمة اذا لم ينتج عن كل ذلك تغيير الذات نوعيا والعروج بها وإنتقالها من دنوّ همتها الى علوها من سلبيتها الى إيجابيتها من حقارتها الى نبلها من وضاعتها الى شهامتها فلا جدوى لأفكار ورؤى ومعتقدات لا تحمل رياح لواقح وبذور لتغيير النفس والهوى والمزاج والسلوك والتوجه.
فالحياة لا تتغير إلا بتغيير النفوس والذوات لتتغير تبعا لذلك الشروط الموضوعية المادية فكيف يثق الإنسان فيما لم يحدث في ذاته تغييرا نوعيا في باطن نفسه المتقلبة المزاجية الإنفعالية الإندفاعية ؟
فمن أخطاء البشرية أنها تتشبث بالأسماء ولا تتعلق بالمعاني تجتذبها الأشكال والصور ولا تتمعن في حقائق الأمور فالإنسانية الحقة تكتب بقلبها لا بعقلها الثرثار .
إن بتأصّل الخطأ وثبوته تصبح الحقيقة مغلوبة معكوسة كما البشرية تظلّ مسلوبة منكوبة فالسلوك الأمثل القويم لن يتحقق بدون تجاوز الأخطاء البشرية التي تعيقها من بلوغ كمالها لتجعل أدائها مزيّف مشوّه محاذي مجانب للحقيقة والخطأ البشري راسخ في الذات فهي المورّثة المميتة gène lethal
الكاشفة لضعف النفس وعجزها وعدم نضجها فليفتش كل ساع وسالك ومندفع ومتسرّع ومتهوّر ومتهافت وطامح وجامح وحالم إلى أخطائه وفشله وليتجاوز قصوره ونقصه وعقده فالخطأ سالب وبوصلة معطّبة معطّلة لسير ومقصد وهدف.
يكمن الخطأ في الرؤية والفكرة والمنهج والطريقة والعاطفة والإنفعال وردود الأفعال فمسافة الآمان لعمق الفهم يغشاه خطأ التقييم وتسارع الأحكام والنقد البنّاء يعتوره الخطأ لثبات يقين خاطئ في عقل باطن والطريقة المتّبعة ينحرف بها منهج خاطئ الى واد الخطأ والخطيئة والعاطفة الجيّاشة والوجدان المتّقد ينحره ويعدمه شعور وإنجذاب خاطئ فينعكس في إنفعال وتفاعل خاطئ وينتهي بتجربة فاشلة وقصة قاسية .
إن الخطأ والصواب يرافقان سير ومسيرة الإنسان الحياتيّة سلبا وايجابا نقصا وزيادة فيحرمه الخطأ لذّة الهناء وثمرة السعادة ولو أنّ الخطأ الوجه الآخر للصواب فإذا رافقت التجربة الإنسانية الإعتبار والتدبّر والتفكّر والتمحيص والتدقيق والتريّث والنقد لتجاوز حقيقة الإنسان في دائرة وهمه وسوء فهمه وضعفه وخطأه وفشله وإلا فالخطأ ثابتا متأصلا متجذرا وقوة محرّكة للخلف فما تمكّن شخص وتحقّق إلا بعد تجاوز علله وهناته وأخطائه وعجزه وحمقه وسخافته وسذاجته وعقده وعدم نضجه وسلبيته.
كما أن الصواب والتوفيق ثمرة جهد وكدح وخبرة وتبصّر بحقائق الأمور .
أبو البشر آدم قد أخطأ وجانب الصواب وبني آدم لا يخلو وجودهم من أخطاء بشرية تحيط بوجودهم وسلوكهم أليس الطبع غالب وللوراثة احكام وقوانين قاهرة؟
فلا مناص من التخلص من غبش الحسّ الجاذب لأخطائهم وتخليص فطرتهم من الشوائب ولوثة الغرائز الجامحة وذلك بإكتساب سلوكيات مثبتة لحقيقة وجودهم ومعناهم ووجدانهم أو سوف تسلب الأخطاء ذواتهم فلا حسّ ولا حركة ولا توجّه في تنقلاتهم وتوجّاتهم إلا والخطأ مرافق لذواتهم محدّد أساسي لنتائج أفعالهم إذ أنّ أخطاء البشرية من حوافر الإستحمار.
فمن الخطأ وخديعة النفس ووهمها وغرورها أن يعتقد الإنسان يقينا من خلال رؤيته الخاصة وإطاره التفسيري وإنطباعاته وشعوره ووجدانه وحدسه ولا ينصت لما يتيحه الموضوع من همسات ونبضات ولا يلحظ ما يرسله من إشارات ولا يلتقط ما يتيحه من مؤشرات ودلائل فينغمس بذاتيته وبأنيته السطحية غير متفهم وعابئ بموضوعية الموضوع ونسبيته وذلك لأنه يغلّب ما يريد ويرجو ويأمل في وعيه الباطن على حقيقة الموضوع ولا يريد ان يرى الحقيقة كما هي لا كما تزينه له نفسه " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور ".
فلقد ارتضى لنفسه الرفاهية النفسية والكسل الذهني على الإجتهاد والكدح إذ لا حقيقة بدون طريقة ولا مشاهدة وكشف بدون مجاهدة وصبر ومصابرة ولا علم بدون بحث وتقصّي ومكابدة لذا حتمية ان يحتويه الخطأ ولا ينفك عنه .
فكل ما انخرط الإنسان في وجوده الحسّي العياني الظاهراتي فكرا وذهنية تحليلية وتركيزا وحرصا تجذّر حضوره الحسّي والحركي بتسجيل حضوره ومشاركته وإندماجه وإنساق في مساره الإجتماعي وتحقق سياقه الشعوري وتفاعله وانفعاله وتأثرت وتعددت سلوكياته بإختلاف ردود أفعاله تجاه بيئته الحاضنة فإن مجال المنطق والوجود العيني البصري والذهني ارهاق للبشر وهو إنعكاس صريح وجليّ لحمل الأمانة المناطة على كاهل البشر منذ وُجِدوا مغتربين عن ذواتهم في الأرض حاملي أثقالهم المعنوية بمتاعهم ومستقرهم الى حين فلقد سُجن الإنسان من حينها منطقيا وفكريا وذهنيا ووجدانيا فانحسر وحُصِر بثقل معنوي ضاغط ملازم له لا ينفك عنه إلا عند رحيله وليته ينجو.
وكلما انزاح عن المشاركة وانعزل وتخلّى واعيا وانفصل عن مدار وجوده في دائرة الغياب الحسي والانفعالي فلا سياق ولا مساق فليس له إلا مسار الخروج من الوعي الجمعي والاحاسيس الشعورية حيث لا شعورية الشعور وبصيرة البصر وفردانية فريدة حيث القلب عوضا عن العقل والروح تعلو عن النفس .
اذا تقدمت النفس بحضورها الحسي الشعوري استعملت الجسد لرغباتها وشهواتها واخضعت الروح لإرادتها واستهلكت العقل للتبرير وامتدت سطوتها في الزمان والمكان وكل المتاح محفّزها هواها ومزاجها وطبعها بحضور عيني ووجود ذهني فلا قبس لها إلا حجاب ظلمتها فهو قيدها وسحنها وديمومة عيشها في العتمة.
واذا صُقِلت النفس وتزكّت تقدّمت وتعالت الروح ارتقى وسافر الإنسان من سفر الظاهر الى سفر الباطن وتيّسر عروجه من عالمه المادي وحُجبه الظلمانية الى حقيقته المعنوية والسرّ من وجوده .
شكري السلطاني أستاذ علوم الحياة والأرض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق