هل أنا رقم؟
هل كان طلبي مجحفا أن أحظى براحة البال وحياة هادئة؟ هل كنت رقما في معادلة تحلّ دون أن ينتبه أحد لقيمتي؟ أم كنت ظلّا مرّا عابرا، أدّى دوره في المشهد ثم غاب؟ أسئلة تهاجمني في ليالي الصّمت، كأنّها سياط تعيدني إلى البدايات، أو تطردني من باحات الهدوء والطّمأنينة.
رأيت الوجوه الّتي كانت تبتسم لي تبتعد في صمت بارد، دون ردّة فعل تجيب عن صدمتي. الأصوات الّتي ملأت أيّامي ذابت كأنّها لم تكن، وكأنّ الفراغ خيّم، وسحب من الحناجر أنفاسها. رأيت نفسي شبحا يمشي بين الذّكريات، لا يراه من أحبّهم، ولا يترك أثرا، ولا يسمع أنينه من شاركوه الضّحك بالأمس القريب، حتّى نسي صوته هو نفسه.
في لحظة، أدركت أنّ النّاس لا يبتعدون فجأة، بل ينسحبون رويدا، خطوة خطوة، كأنّهم يتعمّدون الغياب، أو كأنّه نكاية بي، حتّى يغدو الغياب عادة، والحضور ذكرى. تساءلت: أأنا من تغيّر؟ أم أنّهم تعبوا منّي كما يتعب القلب من الانتظار؟ كنت أظنّ أنّ الودّ حصن لا تهدّه الرّياح، ولا تغيّره الوقائع مهما كانت، لكنّي تعلّمت أنّ الحصون تهدم من الدّاخل، حين يغلق أحدهم بابه بصمت دون وداع.
ورغم الوجع، لم أعد أبحث عن تبرير، فربّما كانت العزلة رحمة مؤجّلة، وربّما كان الانفضاض نعمة تتخفّى في هيئة خسارة. اليوم، أجلس إلى نفسي كصديق قديم، أحادثها بصوت خافت، أتعامل معها بلطف بعد أن أهملتها طويلا، أرمّم شروخها بكلمات رقيقة، وأقول لها: ما زلت هنا.
مع الصّباح، حين تلامس أشعّة الشّمس وجهي، أشعر أنّ في الضّوء عذرا لكلّ ما كان. أقول لنفسي: ربّما لم يخونوا، بل مضوا في طريق لا مكان لي فيه، وربّما أنا من تمسّك بظلّ كان يجب أن أتركه يرحل. تعلّمت أنّ لا ألوم أحدا، فكلّنا نكبر بطريقة مختلفة، ونفقد ما كنّا نظنّه ثابتا لأنّنا نحن أنفسنا تغيّرنا.
أدركت أنّ راحة البال ليست هبة من أحد، بل قرار نأخذه حين نغفر للعالم ولأنفسنا معا. وأنّ الهدوء لا يسكن البيوت، بل القلوب الّتي صالحت جراحها. صرت أبتسم للغائبين كما أبتسم للحاضرين، فكلّهم مرّوا بي وتركوا في روحي أثرا ودرسا. لم أعد أبحث عن الامتلاء بالآخرين، بل عن اكتمال بسيط في ذاتي، كشجرة تنبت في صمت، لا تحتاج تصفيقا كي تزهر، ولا بهرجا كي تثمر.
أعلم الآن أنّني لست رقما في معادلة، ولا ظلّا يزول بانتهاء ضوء، بل إنسان له محاسن كما له عيوب، كتلة من الأحاسيس والمشاعر تتحرّك حسب المقام والمقال، وأنّ هذا الإنسان يمضي بثقة في طريق لا يراه أحد، لكنّه يعرف أنّه طريقه وحده.
رشدي الخميري / جندوبة / تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق