" عندما كنتُ أحبّه"
" صمت ما قبل الحكاية"
(ظلامٌ كامل.
صوتُ نَفَسٍ أنثويٍّ يتهدّج في العتمة ،
كأنه نداء بعيد من زمن آخر.
ينبعث الضوء ببطءٍ ، مثل شروقٍ حزين ،
على امرأة وحيدة تجلس على كرسي خشبيّ ،
في يدها فستانٌ أحمر مطويّ.
الموسيقى خافتة ، تشبه أنين كمانٍ بعيد ،
نغمةٌ واحدة تتكرّر كنبضٍ حزين.)
المرأة تنظر للجمهور : أنا نجوى
نجوى بصوتٍ أقرب إلى الهمس :
هل كان حبًّا ؟
أم مجرّد صدفةٍ مرّت بي ،
كما تمرّ النوارس فوق بحرٍ ميت؟
لماذا حين أغمض عيني ،
أراهُ واقفًا بين جفوني كظلٍّ يرفض أن يرحل؟
(تضحك ضحكة قصيرة ، مختنقة ، بين الخوف والحنين.)
كنتُ فتاةً عادية ، تمشي بخطى هادئة ،
لا تبحث عن الأساطير ، ولا تنتظر المعجزات ،
لكنّه جاء.
جاء كعاصفةٍ هادئة ، كسؤالٍ لا يملك أحدٌ إجابته.
(ضوء خفيف يتحرك مع حركتها وهي ترفع رأسها إلى الأعلى)
كلُّ ما أذكره أنّ الزمن توقّف ،
وأنّ ضوءَ الغرفة صارَ ألينَ من أن يجرح ،
وأنّني لم أعد أعرفُ من أينَ يبدأُ وجهي ،
وأينَ تبدأُ ابتسامتي.
"ذاكرة الفستان الأحمر"
(إضاءة دافئة مائلة للبرتقالي.
تنهض نجوى ببطء ، تمسك الفستان الأحمر ،
ترفعه أمامها ،
يتحرك الضوء معه كأنه يستعيد الزمن القديم.)
هذا هو ، فستانُ اللقاء الأول.
كنتُ أظن أن الألوانَ يمكن أن تُخفي الارتباك ،
لكنني كنتُ أرتجفُ كطفلةٍ ترتدي قلبها للمرّة الأولى.
لم أكن أصدّق أنني أنا ، تلك الفتاة العادية ،
سأشعر بكلّ هذا الارتباك ،
تلك الدوخة التي تجعل النساء يبتسمن بلا سبب.
قال لي يومها :
"عيناكِ تشبهان المطر قبل أن ينهمر."
ومن يومها ،
صرتُ أبحثُ عن نفسي في السماء.
(تدور حول نفسها بخطواتٍ بطيئة ،
كمن تعيد مشهدًا من الذاكرة.)
كان يشبهُ الشتاء في صوته ،
والصيف في ضحكته ،
وكان يحملُ في عينيه وعدًا لا يكتبه ،
ووعدًا آخر لا يُكمله.
كان يلمس كلماته كما يلمس طفلٌ جناحَ فراشة ،
خائفًا أن تنكسر منه المعاني.
"الكتابة والصمت"
(الإضاءة تتقلص إلى بقعة ضوء حولها.
الخشبة تُصبح عالمًا داخليًا.
تجلس على الأرض ، تضم الفستان إلى صدرها.)
حين أحببته ، كنتُ أكتبُ رسائلَ لا أُرسلها ،
وأحاديثَ لا أقولها ، وأغنياتٍ لا يسمعها أحد.
كنتُ أحادثُه في صمتي،
أعاتبه في خيالي ، أغار عليه من المرايا ،
حتى من الهواء الذي يمرّ قربه.
(صمت طويل ، تُسمع أنفاسها فقط.)
قال لي :
"أحبكِ ، ولكن لا توقعي قلبي في معارككِ."
لم أفهم.
ظننتُ أن الحبَّ ميدانُ شرفٍ ،
وأننا نقاتلُ فيه لنحيا ، لا لنرحل.
لم أدرِ أنه يخاف الهزائم الصغيرة ،
تلك التي تحدث عندما ،
تبكي امرأةٌ بصمتٍ في منتصف الليل .
لكنه خاف ،
خاف من امرأةٍ تُحبّ بصدقٍ لا يعرفه ،
من حضورٍ يفضحُ نواياه الصغيرة.
"الخوف من الحب"
(ضوء أزرق بارد ، موسيقى خفيفة متقطعة.
نجوى تسير في دوائر صغيرة حول المسرح ،
صوتها يعلو ويخفت كالموج.)
كان يريدُ حبًّا لطيفًا لا يُربكُ نومَه ،
وأنا كنتُ عاصفةً لا تنام.
كنتُ أمنحهُ قلبي ، وهو يمنحني تأجيلًا .
كنتُ أزرعُ الورد ، وهو يُعدّ فصولَ الرحيل.
كنتَ تعدني أن تكون المأوى ، فكنتَ الريح ،
كنتَ تقول أنك تُحبني بصدقَ ،
فكنتَ تصدق فقط حين تُريد الرحيل ،
كنتَ لحنًا لم يكتمل ،
وصوتًا انكسر قبل أن يبلغ آخر النغمة.
(تتوقف فجأة ، تنظر نحو الجمهور ، بصوتٍ خافتٍ حزين)
وها أنا بعدك ،
أتدرّبُ على الحياة كما يتدرّبُ طفلٌ على النطق ،
أتعلّمُ أن أبتسم دونَ أن يوجعني الضوء ،
أن أتنفّس دون أن أستدعيك في الزفير.
" الاعتراف"
(إضاءة بيضاء ناعمة ، لحظة صدق)
ما أغربَ الرجالَ حين يحبّون!
يقولون "أنتِ كلُّ النساء" ،
ثم يبحثون عن امرأةٍ أخرى ،
كي يتأكدوا أنها لا تُشبهني.
أنا لا أكرهه ،
لا يمكنني أن أكرهَ من فتح لي نافذةً على نفسي ،
ولا من تركني أتعلمُ وحدي كيف أغلقها.
لا يمكن أن أكره من علّمني كيف تضيء العتمة بلمسة ،
ولا من تركني لأفهم كيف أضيئها وحدي.
" السؤال والجواب"
(إضاءة خافتة دافئة ، مقعد اعتراف)
الآن
حين يسألني أحدهم : "هل ما زلتِ تحبّينه؟"
أبتسمُ وأقول : "لا ، لقد أحببتُه مرةً واحدة ،
وما زلتُ أعيشُ — إلى الآن — داخل تلك المرّة."
(تمسك الفستان الأحمر وتضعه برفقٍ على الكرسي المقابل)
كان هو البداية ،
ولا أدري إن كنتُ بعدهُ قد وُجدتُ حقًّا ،
أم أنّني ظلّ امرأةٍ كانت تُدعى نجوى.
"الحنين الموجع"
(الإضاءة تتراقص بخفوت ،
ظلال متحرّكة على الجدار الخلفي.
صوت موسيقى البيانو كخيوط مطر.)
أحيانًا ، أسمع وقعَ خطواته في الممرات القديمة ،
فأظنّ أن الباب سيُفتح ،
وأنّ الأشياء ستستعيد أسماءها ،
لكنها لا تفعل.
كلُّ شيءٍ يبقى كما هو ،
إلا قلبي ، يتغيّر كلَّ مساء ،
ويعودَ كلَّ صباحٍ ، إلى نقطة البدء.
أتراه يسمعني الآن؟
أتراهُ يبتسم لأنني ما زلتُ أتحدّثُ عنه؟
أم أنه كعادته يمضي ،
ويتركُني أُكملُ الحوار وحدي؟
يا إلهي ، كم من النساء يضحكن لأنهنَّ لم يبكين بعد!
"الوعي"
(ضوء ذهبي يسقط على وجهها فقط.
تتحدث بصوتٍ كمن يهمس بحكمةٍ ودمعة.)
كنتُ أظن أن الحبَّ ينتهي حين نفترق ،
لكنني اكتشفتُ أنه يبدأ حين لا يعود.
كلُّ ما بقي منه ،
صوتهُ في الليل ،
ورائحةُ المطر على كتفي ،
وخوفٌ صغيرٌ من أن أنساه.
أحببته كما يُحبّ الجرحُ دمَه ،
والبحرُ ملوحتَه ، والغربةُ وطنَها المؤجّل.
وربّما ، لم أكن أريده أن يعود ،
بل أن يبقى ذكرى لا تُمحى ولا تُشفى.
"الصمت الأخير"
(تنهض ، تعلق الفستان الأحمر في منتصف المسرح.
الضوء ينساب عليه كدمعةٍ دافئة.
الموسيقى تتحول إلى همهمة روحية.
صوتها الأخير يأتي بهدوءٍ ، كترتيل.)
وداعًا أيّها الحلمُ الذي علّمني أن أستيقظ.
وداعًا أيها الغائبُ الحاضرُ في كلِّ ما لا يُقال.
وداعًا ، لأنّني ، رغم كلّ شيء ،
ما زلتُ أحبّه حين كنتُ أحبّه.
(الضوء يخفت تدريجيًّا ، ثم يختفي كل شيء ،
إلا الفستان الأحمر المضاء في منتصف الخشبة.
تسقط نغمة واحدة طويلة على البيانو ، ثم صمت.)
ستار
طارق غريب

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق