السبت، 18 أكتوبر 2025

" عندما كنتُ أحبّه" بقلم الكاتب طارق غريب

 " عندما كنتُ أحبّه"

" صمت ما قبل الحكاية"

(ظلامٌ كامل.

صوتُ نَفَسٍ أنثويٍّ يتهدّج في العتمة ، 

كأنه نداء بعيد من زمن آخر.

ينبعث الضوء ببطءٍ ، مثل شروقٍ حزين ، 

على امرأة وحيدة تجلس على كرسي خشبيّ ،

 في يدها فستانٌ أحمر مطويّ.

الموسيقى خافتة ، تشبه أنين كمانٍ بعيد ، 

نغمةٌ واحدة تتكرّر كنبضٍ حزين.)

المرأة تنظر للجمهور : أنا نجوى

 نجوى بصوتٍ أقرب إلى الهمس :

هل كان حبًّا ؟

أم مجرّد صدفةٍ مرّت بي ، 

 كما تمرّ النوارس فوق بحرٍ ميت؟

لماذا حين أغمض عيني ،

أراهُ واقفًا بين جفوني كظلٍّ يرفض أن يرحل؟

(تضحك ضحكة قصيرة ، مختنقة ، بين الخوف والحنين.)

كنتُ فتاةً عادية ، تمشي بخطى هادئة ،

لا تبحث عن الأساطير ، ولا تنتظر المعجزات ،

لكنّه جاء.

جاء كعاصفةٍ هادئة ، كسؤالٍ لا يملك أحدٌ إجابته.

(ضوء خفيف يتحرك مع حركتها وهي ترفع رأسها إلى الأعلى)

كلُّ ما أذكره أنّ الزمن توقّف ،

وأنّ ضوءَ الغرفة صارَ ألينَ من أن يجرح ،

وأنّني لم أعد أعرفُ من أينَ يبدأُ وجهي ،

وأينَ تبدأُ ابتسامتي.


"ذاكرة الفستان الأحمر"

(إضاءة دافئة مائلة للبرتقالي.

تنهض نجوى ببطء ، تمسك الفستان الأحمر ،

 ترفعه أمامها ،

يتحرك الضوء معه كأنه يستعيد الزمن القديم.)

هذا هو ، فستانُ اللقاء الأول.

كنتُ أظن أن الألوانَ يمكن أن تُخفي الارتباك ،

لكنني كنتُ أرتجفُ كطفلةٍ ترتدي قلبها للمرّة الأولى.

لم أكن أصدّق أنني أنا  ، تلك الفتاة العادية  ، 

سأشعر بكلّ هذا الارتباك ،

تلك الدوخة التي تجعل النساء يبتسمن بلا سبب.

قال لي يومها :

"عيناكِ تشبهان المطر قبل أن ينهمر."

ومن يومها ،

صرتُ أبحثُ عن نفسي في السماء.

(تدور حول نفسها بخطواتٍ بطيئة ، 

كمن تعيد مشهدًا من الذاكرة.)

كان يشبهُ الشتاء في صوته ، 

والصيف في ضحكته ،

وكان يحملُ في عينيه وعدًا لا يكتبه ،

ووعدًا آخر لا يُكمله.

كان يلمس كلماته كما يلمس طفلٌ جناحَ فراشة ،

خائفًا أن تنكسر منه المعاني.


"الكتابة والصمت"

(الإضاءة تتقلص إلى بقعة ضوء حولها.

الخشبة تُصبح عالمًا داخليًا.

تجلس على الأرض ، تضم الفستان إلى صدرها.)

حين أحببته ، كنتُ أكتبُ رسائلَ لا أُرسلها ،

وأحاديثَ لا أقولها ، وأغنياتٍ لا يسمعها أحد.

كنتُ أحادثُه في صمتي،

أعاتبه في خيالي ، أغار عليه من المرايا ،

حتى من الهواء الذي يمرّ قربه.

(صمت طويل ، تُسمع أنفاسها فقط.)

قال لي :

"أحبكِ ، ولكن لا توقعي قلبي في معارككِ."

لم أفهم.

ظننتُ أن الحبَّ ميدانُ شرفٍ ،

وأننا نقاتلُ فيه لنحيا ، لا لنرحل.

لم أدرِ أنه يخاف الهزائم الصغيرة ، 

تلك التي تحدث عندما ، 

تبكي امرأةٌ بصمتٍ في منتصف الليل .

لكنه خاف ،

خاف من امرأةٍ تُحبّ بصدقٍ لا يعرفه ،

من حضورٍ يفضحُ نواياه الصغيرة.


"الخوف من الحب"

(ضوء أزرق بارد ، موسيقى خفيفة متقطعة.

نجوى تسير في دوائر صغيرة حول المسرح ،

 صوتها يعلو ويخفت كالموج.)

كان يريدُ حبًّا لطيفًا لا يُربكُ نومَه ،

وأنا كنتُ عاصفةً لا تنام.

كنتُ أمنحهُ قلبي ، وهو يمنحني تأجيلًا .

كنتُ أزرعُ الورد ، وهو يُعدّ فصولَ الرحيل.

كنتَ تعدني أن تكون المأوى ، فكنتَ الريح ،

كنتَ تقول أنك تُحبني بصدقَ ،  

فكنتَ تصدق فقط حين تُريد الرحيل ،

كنتَ لحنًا لم يكتمل ،

وصوتًا انكسر قبل أن يبلغ آخر النغمة.

(تتوقف فجأة ، تنظر نحو الجمهور ، بصوتٍ خافتٍ حزين)

وها أنا بعدك ،

أتدرّبُ على الحياة كما يتدرّبُ طفلٌ على النطق ،

أتعلّمُ أن أبتسم دونَ أن يوجعني الضوء ،

أن أتنفّس دون أن أستدعيك في الزفير.


" الاعتراف"

(إضاءة بيضاء ناعمة  ، لحظة صدق)

ما أغربَ الرجالَ حين يحبّون!

يقولون "أنتِ كلُّ النساء" ،

ثم يبحثون عن امرأةٍ أخرى ،

كي يتأكدوا أنها  لا  تُشبهني.

أنا لا أكرهه ،

لا يمكنني أن أكرهَ من فتح لي نافذةً على نفسي ،

ولا من تركني أتعلمُ وحدي كيف أغلقها.

لا يمكن أن أكره من علّمني كيف تضيء العتمة بلمسة ،

 ولا من تركني لأفهم كيف أضيئها وحدي.


" السؤال والجواب"

(إضاءة خافتة دافئة  ، مقعد اعتراف)

الآن

حين يسألني أحدهم : "هل ما زلتِ تحبّينه؟"

أبتسمُ وأقول : "لا ،  لقد أحببتُه مرةً واحدة ،

وما زلتُ أعيشُ — إلى الآن — داخل تلك المرّة."

(تمسك الفستان الأحمر وتضعه برفقٍ على الكرسي المقابل)

كان هو البداية ،

ولا أدري إن كنتُ بعدهُ قد وُجدتُ حقًّا ،

أم أنّني ظلّ امرأةٍ كانت تُدعى نجوى.


"الحنين الموجع"

(الإضاءة تتراقص بخفوت ،

 ظلال متحرّكة على الجدار الخلفي.

صوت موسيقى البيانو كخيوط مطر.)

أحيانًا ،  أسمع وقعَ خطواته في الممرات القديمة ،

فأظنّ أن الباب سيُفتح ،

وأنّ الأشياء ستستعيد أسماءها ،

لكنها لا تفعل.

كلُّ شيءٍ يبقى كما هو ،

إلا قلبي ، يتغيّر كلَّ مساء ،

ويعودَ كلَّ صباحٍ ،  إلى نقطة البدء.

أتراه يسمعني الآن؟

أتراهُ يبتسم لأنني ما زلتُ أتحدّثُ عنه؟

أم أنه كعادته يمضي ،

ويتركُني أُكملُ الحوار وحدي؟

يا إلهي ، كم من النساء يضحكن لأنهنَّ لم يبكين بعد!


  "الوعي"

(ضوء ذهبي يسقط على وجهها فقط.

تتحدث بصوتٍ كمن يهمس بحكمةٍ ودمعة.)

كنتُ أظن أن الحبَّ ينتهي حين نفترق ،

لكنني اكتشفتُ أنه يبدأ حين لا يعود.

كلُّ ما بقي منه ، 

صوتهُ في الليل ،

ورائحةُ المطر على كتفي ،

وخوفٌ صغيرٌ من أن أنساه.

أحببته كما يُحبّ الجرحُ دمَه ،

والبحرُ ملوحتَه ، والغربةُ وطنَها المؤجّل.

وربّما ، لم أكن أريده أن يعود ،

بل أن يبقى  ذكرى لا تُمحى ولا تُشفى.

  "الصمت الأخير"

(تنهض ، تعلق الفستان الأحمر في منتصف المسرح.

الضوء ينساب عليه كدمعةٍ دافئة.

الموسيقى تتحول إلى همهمة روحية.

صوتها الأخير يأتي بهدوءٍ ، كترتيل.)

وداعًا أيّها الحلمُ الذي علّمني أن أستيقظ.

وداعًا أيها الغائبُ الحاضرُ في كلِّ ما لا يُقال.

وداعًا ،  لأنّني ،  رغم كلّ شيء ، 

ما زلتُ أحبّه حين كنتُ أحبّه.

(الضوء يخفت تدريجيًّا ، ثم يختفي كل شيء ، 

 إلا الفستان الأحمر المضاء في منتصف الخشبة.

تسقط نغمة واحدة طويلة على البيانو ،  ثم صمت.)

ستار

طارق غريب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق