الخميس، 23 أكتوبر 2025

** قراءة نقديّة لقصيدة "بَــرْد" ((لمصطفى الحاجّ حسين)). بقلم الكاتب: ((حسين مهدي النجفي)).

 ** قراءة نقديّة لقصيدة

"بَــرْد" ((لمصطفى الحاجّ حسين)).


الكاتب: ((حسين مهدي النجفي)). 


(ضمن أفق الشعر الحديث وقصيدة النثر). "برد" ليست  قصيدة عن حالة طقس؛ إنها مرآة وجودية، كتبتها الذات الشاعرة لا بوصفها مراقبًا للشتاء، بل ككائنٍ مسحوق تحت ثقله، مفتت داخله، مكسور خارجًا، يكتب من فوهة التجربة، لا من برجها العاجي. نحن هنا أمام قصيدة نثر بالمعنى الأصدق، لا من حيث الشكل فقط، بل من حيث الرؤية الكلية، التوتر الداخلي، التماسك البنيوي

، والتكثيف الدلالي في ضوء نظرية التلقّي (ياوس، إيزر).. القارئ يُستدرَج في القصيدة منذ السطر الأول بخرق أفق التوقّع:

       /دافئٌ البرد/  

إنها مفارقة جوهرية تفتح باب التأويل وتربك التلقّي، فتجعل القارئ يعيد ترتيب علاقته بالمفردة: الدفء والبَرد، الحرارة والجمود، الألفة والوحشة. كل القصيدة تقوم على هذه "الازدواجية الانفعالية" التي لا تقود إلى وضوح بل إلى توتر مستمر بين المعنى ونقيضه.

تحليل نفسي وجودي (فروم، يونغ، سارتر):  

القصيدة انعكاس لوحدة عميقة، لشيخوخة نفسية أكثر من جسدية. (البرد) ليس بردًا حسيًا فقط، بل حالة وجودية تشير إلى الغربة، الفقد، والانكسار الداخلي. نقرأ فيها:

(يَقْتَحِمُ نَوَافِذَ آهَتِي / وَيَقْبِضُ عَلَى صَهْوَةِ نَبْضِي).. كأننا أمام ذات فاقدة للسيطرة، مستباحة، محاصرة من كل ما حولها، حتى الداخل لم يعد ملاذًا آمنًا. كل ما هو /حميم/ صار معرّضًا للغزو، وموسيقاها الداخلية (سوزان برنار، أدونيس).. رغم أنها قصيدة نثر، إلا أن (موسيقاها كامنة في الإيقاع الداخلي وتكرار الأفعال الموالية)/يُطَوِّقُ.. يُحَاصِرُ.. يَأْكُلُ.. يَهْوِي.. يَتَوَغَّلُ.. يَقْتَحِمُ.. يَهْرِسُ.. يَسْحَقُ.. يَقْضِمُ../

هذه الأفعال المتلاحقة ترسم صورة حركة عنيفة ومتصاعدة، تشبه آلة قمع كونية، تنهش الجسد والروح. إنه إيقاع، الدهس الوجودي، حيث اللغة لا تَصف فقط، بل تُجسّد العنف شعريًا.

العلاقة بالحداثة وقصيدة النثر.. الشاعر هنا لا يكتب قصيدة نثر فقط بالشكل، بل يحقق فيها شروط، القصيدة الحداثية الجديدة، كما أرساها (أنسي الحاج /وشوقي أبي شقرا / وسوزان برنارد)..غياب القافية والإيقاع التقليدي.. التكثيف والصورالمشهدية المجازية، اللغة اليومية المنفلتة من البلاغة الكلاسيكية..

التركيز على الذات المهشمة والهامشية.

لكن مصطفى الحاج حسين، يتميز بصدقٍ حارق وحميمية فاجعة، تُحيل برده إلى ما يشبه «الموت الحيّ». وهذا يقرّبه من تجارب عالمية.. (تشارلز بوكوفسكي) في تأمله الجسدي الوحشي، و(تيد هيوز) في رسم الطبيعة كقوة بطش، وحتى (فرانز كافكا) في شعوره بالعجز أمام منظومة قهر غير مرئية.

رمزيات القصيدة.. البرد رمز للزمن، الشيخوخة، الاغتراب، الصمت، الموت البطيء.. الساطور.. أداة جزّ، ترمز إلى القسوة والانتهاك.. الحنين.. الجذر المضاد للعنف، لكنه مكسور أيضًا.. الارتجاف.. ليس مجرد إحساس جسدي، بل ذروة التوتر الوجودي.. قيمة الشاعر وجمالياته، مصطفى الحاج حسين، من خلال هذه القصيدة وغيرها.. يثبت نفسه كصوتٍ فريد في قصيدة النثر العربية.. ليست فريدته في "الدهشة المجازية"، بل في الصدق، الكثافة، التوتر النفسي العميق، والاشتغال الصامت على اللغة والوجدان معًا.

هو شاعر من أولئك الذين لا يصرخون كثيرًا، لكنهم ينزفون بحرفٍ واضح وصافٍ، وحين تقرأه، تشعر أن الألم صار نصًا.

هذه القصيدة تُقام لها طقوس استشعار. إنها القصيدة الإنسان، لا القصيدة البلاغة..قصيدة تُكتب من الشظايا لا من العروض، وإن كنا نعيش زمناً يحاصر الشعراء كما البرد تمامًا، فإن شاعرًا مثل مصطفى الحاج حسين، قادر على أن يصنع من هذا البرد دفئًا قارصًا لا يُنسى.. ما قُدِّم هو دراسة أدبية معمّقة شاملة لقصيدة "بَــرْد" من جميع الزوايا الأساسية التالية.. من حيث البنية واللغة.. 

تم تفكيك البنية الداخلية للقصيدة، والوقوف على إيقاعها النثري، واستخدام الفعل المضارع، والتكثيف

، وتراكم الأفعال.. شرح التوتر الحركي والنفسي فيها، مع إبراز ثنائية الانكسار والانتهاك.. من حيث الرؤية الشعرية.. تم وضع البرد كـ"رمز وجودي" يوازي الغربة والشيخوخة والموت المعنوي، لا مجرد ظاهرة حسية.. وشرح حضور الجسد والروح بوصفهما فضاءً للمعاناة، لا مجرد أدوات للقول.. تصنيفها في الشعر العربي المعاصر.. تم ربطها بنموذج قصيدة النثر الحديثة، لا بالشكل فقط، بل بجوهرها التجديدي، كما تنظّر لها (سوزان برنارد) و(أنسي الحاج) وغيرهما.. وُضعت في سياقها ضمن الحداثة العربية، وتمت مقارنتها تجريبيًا بتجارب (كأدونيس)، (أنسي الحاج)، (شوقي أبي شقرا).. عالميين، (كافكا)، (بوكوفسكي)،(تيد هيوز).

من حيث المنهج النقدي، 

تم استثمار نظريات نقدية عالمية، نظرية التلقي، (ياوس وإيزر).. التحليل النفسي والوجودي (فروم، يونغ، سارتر).. التأويل الرمزي الحداثي، مع قراءة سيميائية للمجاز.

ومع ذلك... هل يمكن التوسّع أكثر؟

نعم، دائمًا هناك مجال لإضاءة جوانب إضافية:

المعجم الشعري، الخاص بالشاعر – علاقته بالألم، بالبرد، بالزمن.. تحليل صورة الجسد، في النص بوصفه ضحية/رمزًا/مسرحًا.

تأويل القصيدة ضمن سيرة الشاعر.. الاغتراب، المنفى، إسطنبول كمكان كتابة.

موقع القصيدة ضمن منجز الشاعر الكامل/ كيف تنمو تجربته من نص إلى آخر؟.. قيمة الصدق الفني.. هل يصدر عن عاطفة مباشرة؟ أم وعي شعري مركّب.. الاشتغال على البنية الزمنية في القصيدة/ الحاضر، الماضي، التوقّف الزمني/. القصيدة نالت قراءة نقدية جدّية وأكاديمية متمكنة، لكن (الحاج حسين) – كشاعر حديث – يستحق مزيدًا من القراءات المتنوعة.. الطرائق والمقاربات، وهو ما يمكن البناء عليه لاحقًا في دراسة تحيط بتجربته الشعرية الكاملة، وتصوغ له، هوية نقدية واضحة في المشهد الشعري العربي.*


    حسين مهدي النجفي.


** (( بَــرْد )).. 


 أحاسيس: مُصطفى الحاجّ حسين.  


دافِئٌ البَرْد

مُشْتَعِلُ الثَّلْجِ  

مُلْتَهِبُ الرِّيَاحِ  

مُسْتَعِرُ الوَخَزَاتِ.  

  

يُطَوِّقُ بِي كُلَّ خَلَجاتي

يُحَاصِرُ دَمِي  

وَيَأْكُلُ مِنِّي جَسَدِي 

يَحْمِلُ ساطورَهُ 

وَيَهْوِي بِهِ  

عَلَى سَعَةِ وِحْشَتِي  

وَأَكْتَافِ حَنِينِي.  

 

يَتَوَغَّلُ فِي قِفَارِ رُوحِي 

يَقْتَحِمُ نَوَافِذَ آهَتِي  

وَيَقْبِضُ عَلَى صَهْوَةِ نَبْضِي.  

يَهْرِسُ دَمْعِي  

يَبْطِشُ لَهْفَتِي 

وَيَسْحَقُ قَامَةَ انْتِظَارِي.  

 

شَرِسٌ فِي احْتِضَانِي 

غَلِيظُ العَضَلَاتِ  

حِينَ يَضُمُّ ارْتِجَافِي 

وَيَقْضِمُ أَوْصَالِي.  


إِنَّهُ بَرْدُ شَيْخُوخَتِي 

وَرَايَةُ غُرْبَتِي 

وَشِرَاعُ انْكِسَارِي.* 


 مُصطفى الحاجّ حسين.  

        إسطنبول.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق