الأحد، 12 أكتوبر 2025

ليالـــي المدينـــة الهائمـــة بقلم الشاعر عمّار الطيب العوني

 ليالـــي المدينـــة الهائمـــة

الليلة الأولى :بداية الجنون


المدينة تتثاءب ببطءٍ

ككائنٍ أثقله السهر.


تتدلّى النوافذ نصف مفتوحة

وتتنفّس الأزقّة أنفاسًا متعبةً

من ليلٍ لم ينتهِ بعد.


المصابيح الخافتة تهمس

كأنها أنفاس نائمٍ يبتسم في الظلّ:

 "مرحبًا بالمغامر الوحيد."


في البعيد يجرّ بائع الجرائد عربته فوق رصيفٍ نعسٍ.

يبيع أخبار الأمس كأنها نكات فقدت ضحكتها.

يعيد ترتيب الأوراق

كما لو أنه يحاول إصلاح العالم صفحةً صفحة.


اقتربت منه وسألته:


>"لماذا كل الأخبار سخيفة؟"


رفع رأسه ببطءٍ واُبتسم ابتسامة بلا شفتين.

كأنها عادة قديمة نسيَ معناها.

ثم قال:


 "لأن الحقيقة يا صديقي مجرّد مزحة طويلة."


صمت قليلًا وأشعل سيجارة مبلّلة بالمطر.

راقبها وهي تحترق كعمرٍ يضيء ليختفي.

فيما الدخان يصّاعد متثاقلًا

كأنه يحاول نسيان شكله في الهواء.


جلست على الرصيف المقابل.

أراقب المارّة يعبرون أمامي

كأفكار مشتّتة في رأس المدينة.


كل واحد يجرّ حلمه مثل ظلٍّ طويل

لا يعرف إلى أين يمتد.

وأنا أجرّ ضحكتي البلهاء

كحقيبة فارغة من المعنى.


فكّرت أن الجنون

ليس فقدان العقل

بل طريقة أخرى

لرؤية الأشياء بوضوح أشدّ.


كانت الريح تمرّ باردة

ككلمة نُسيت في فم شاعر.

السماء تمسح وجهها بضوء رمادي خفيف.

عندها شعرت أن الليل ينهض من غفوته

يتدرّب على صرخته الأولى

استعدادًا لبداية جديدة

من ليالي المدينة الهائمة.


*وتبدأ حكاية الليلة الثانية من الظلّ...

حيث لا فرق بين الحلم واليقظة

ولا بين العابر والمدينة.*

 

                    عمّار الطيب العوني


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق