الأحد، 19 أكتوبر 2025

حديث مع النّفس بقلم الكاتب رشدي الخميري/ جندوبة / تونس

 حديث مع النّفس

جلس منطويا على نفسه، يحدّق في صفيحة ماء كانت أمامه، كأنّ بينه وبين ذاته مسافة عمر كامل.

ينظر إلى الصّفيحة فيرى وجهه غريبا عنه، ثمّ يعترف لها أن الغرابة ليست فيها وحدها، بل فيه هو أيضا.

يحدّثها بصوت خافت:

كم مرّة ادّعيت الحياد كي لا تتّهمي بالانتماء؟

وكم مرّة خنت إحساسك الحقيقيّ لأنّ الصدق صار ترفا؟

تتحدّثين عن الوطن كما لو كان أغنية قديمة،

لكنّك لا ترفعين صوتك حين يشتدّ الزحام.

تكتبين عن الحلم، وتنسين أنّ الحلم يحتاج إلى شجاعة كي يعيش.

يا نفسي، لقد صرت بارعة في التّّأقلم،

تشبهين مدينة تزيّن شقوقها بالأضواء كي لا يرى العابرون عيوبها.

تضحكين حين كان مفترضا أن تحزني،

وتصمتين حين يجب أن تصرخي،

ثمّ تعودين آخر اللّيل إلى وحدتك تسألين المرآة عن ملامحك الأولى،

تلك التي كانت منحازة إلى قضايا البلد وأهله... فلا تجيب.

أين ضياؤك؟

أين تلك الجرأة التي كانت تهدّ الخوف بالكلمة،

وتسير في الشّوارع والأسواق بصدر مفتوح يرعب أعتى الأعاصير؟

كنت تملكين قلبا يتّسع للجميع،

فصرت تقيسين الحبّ بمقدار الجدوى والمصلحة.

كنت تؤمنين أنّ الأمل مثل السّيل الجارف،

يجد طريقه مهما استعصت الدّروب،

ثمّ صدّقت أن الجدب قدر دائم،

وأنّ الاستسلام أمر محتوم.

يا نفسي، أعاتبك لأنّي أحبّك،

ولأنّي أخاف أن تصيري صورة باهتة لما كنت عليه.

كلّ الّذين يشبهونك تعبوا:

من الانتظار، ومن الشّوارع الّتي لا تعرف خطاهم،

ومن الأفواه الّتي تقول كلّ شيء ولا تفعل شيئا.

لقد خسرنا الكثير لأنّنا خفنا أن نخسر أكثر.

بعنا الحقيقة بالتّعبير المرتعش،

واشترينا الصّمت على أنّه حكمة ولغة عقل.

كنا جزءا من هذا الخداع الجميل،

نكتب عن الكرامة بأيد مرتجفة،

ونختبئ وراء الكلمات كي لا نواجه واقعنا.

ومع ذلك، ما زلت أرى فيك بقايا الأمس الجميل رغم الشّروخ،

شفّافة رغم الغبار.

ما زال فيك قبس يضيء يشبه البداية،

وفتى صغير لا يصدّق أنّ الغد يمكن أن يشبه اليوم.

لهذا، أقول لك بصوت واثق:

عودي كما كنت، لا بطلة ولا ضحيّة،

بل إنسانة تعرف أنّها ارتبكت في منتصف الطّريق،

وتدرك أنّ الاعتراف أوّل الخطوات نحو الصّواب.

عودي كي نتصالح،

فنحن لن ننهض إلّا معا.

رشدي الخميري/ جندوبة / تونس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق