الأحد، 19 أكتوبر 2025

** ((همس المنجل ونبض السنابل)).. قصة: مصطفى الحاج حسين.

 ** ((همس المنجل ونبض السنابل))..

قصة: مصطفى الحاج حسين. 


عندما مات (الأغا)، وجد جدّي (سامي) نفسه، فقيراً وبلا صنعة تستره، وتمكّنه من العيش، فصار دائم الحزن، وعابس الوجه، لا يقدر أن يشكو أمره لأحد.


لم يكن (جدّي) متزوّجاً بعد، ولا دار ملك عنده، وليس بيده صنعة، وأخوته الكثر، عندهم ما يشغلهم عنه، ومنهم من كان متزوّجاً، ومنهم من كان مثله عاذباً، يبحث عن عمل يناسبه، ويستره.


الظّروف الصّعبة، وفقر الحال، أجبر (جدّي) على الذّهاب إلى قرية، قريبة،(أبو طلطل)، تابعة لمدينة (الباب)، ليعمل في حصاد القمح، وهو الشّاب النّاعم والرّقيق، صاحب الأيدي النّاعمة، التي لم تّتعب يوماً، من أجل لقمة العيش.


كانت الشّمس حامية لحدٍ لا يطاق، وسنابلُ القمح خشنة، وقاسية، وصعب جمعها وحصادها، وكان العرق يتصبّب من وجه (جدّي) بغزارة، وجسمه النّحيل يسبح في عرقه، ووجهه الأشقر شديد الاحمرار، وعينيه تكادان لا تنفتحان، بسبب توهّج ضوء الشّمس القويِّ واللاهب، أنفاسه متقطّعة، جسده منهك، ساقاه تكادان ألّا تحملانه، ظهره يؤلمه بضراوةٍ، شفتيه يابستان من شدة العطش، شعره تحت (جمدانته)، ملتهب ومغسول بالعرق، ورأسه يوشك على الانفجار.


كان يعمل وذهنه يفكر بترك الشغل، والهروب من هذا الجحيم، والعمل المضني، سيترك أجرة عمله، وينجو بنفسه.


لكنّه مقطوع من النّقود، وهو بحاجة ماسة إليها.

كان يهمس،في طيّات أعماقه المقهورة:


- عليّ أن أصبر، وأن أتحمّل حتى أعتاد.


وفجأة.. تقترب منه صبيّة، فارعة الطّول، متخمرةَ الوجه، فاتنة العينين، بيضاء البشرة، واضح هذا، من ما يظهر من أطراف خديها، المخبّئين تحت خمارها الأسود، هو لأوّل مرّة يراها، وتعجّب من أين ظهرت له.. هل كانت بين عمال الحصاد، ولم ينتبه إليها؟!.. فهناك بين العمال بعض النّسوةُ والفتيات.. لكنّه لم يكن مهتماً بهنّ، فقد كان ألم أصابعه وأكفه، يشغلانه عن كل نساء العالم.. وبجرأة سألته:


- هل أنت تعمل في الحصاد، لأول مرّة ؟!.


ردّ.. وصوته كلّه اضطراب، وحياء:


- أيّ والله.. لم يسبق لي أن عملت في حصاد الحنطة، ولكن لم تسألين؟!.


أجابته مبتسمة، من تحت خمارها الأسود، والذي يشفّ عن شفتين ساحرتين، بصوتها الأنثويّ، والنّاعم والرّقيق.. وكان قد تأكّد من أن محدّثته، على قدر كبير من الحسن والجمال:


- لأنّني لمحتك.. وأنت تقبض، على المنجل بطريقة خاطئة، وهذا يجعل يدك تدمى، ويجعلك تتعب أكثر، ويكون إنتاجك أقل وأضعف.. وهذا ما سيجعل من مراقب العمل أن يرفضك ويعطيك، أجرة أقلّ من أجرة الآخرين.


قال جدي، الذي كان منهك من التّعب، وحرارة الشّمس، التي لا تطاق:


- على كلّ حال، أنا من سيترك العمل هنا، هذه الشّغلة، ليست شغلتي، لكنّي أحاول أن أكمل نهاري.


قالت الصّبيّة، التي ظهرت، كنسمة ندى، في هذا القيظِ الشّديد:


- تعال.. وانضم إلى مجموعتنا.. وأنا أساعدك وأعلّمك طريقة الحصاد.


أعجب جدي بكلامها، كما كان قد أعجب بجمالها، وقوامها الفارع، فسألها وكانت الفرحة قد بانت على وجهه، الذي كان متعرق ومتعب:


- ولكن هل يقبلوني بينهم؟!.


أجابت باسمة:


- أنت تعال.. ولا عليك منهم.


تعلّم (جدّي)، كيفيّة العمل في الحصاد، بفضل الفتاة الفاتنة، التي كان اسمها (صبريّة)، التي أشفقت عليه، بعد أن أعجبت به، وبجمال شكله، وأناقته.. راقبته وهو يبذل جهوده في الحصاد، فأدركت أن هذا الشّاب الوسيم، لا بدَّ أن يكون ابن أسرة عزيزة، لها قيمتها ومكانتها، فهو ابن حسب ونسب.. وهذا ما جعلها تتعاطف معه، وتنهض من استراحتها، وتتقدَّم منه، لتحدّثه، وتشرح له الطّريقة الصّحيحة، للقبض على المنجل، ليتمكّن من الحصاد، دون أن يجرح يديّه، وتتورّمان، وينزف الدّم من أصابعهما.. وكان إقدامها على هذا الفعل، يعتبر قمة الجرأة، في ذاك الزّمن، من امرأة، وسط هذا الجمع من النّاس،في هذا الرّيف المحافظ، والمتشدّد في عاداته وتقاليده.


وهذا ما دفع (بجدّي)، للاستمرار بالعمل في الحصاد، طوال فترة موسمه.. ولولا وقوعه في حبٍّ تلك الفتاة الجميلة، التي تعاطفت معه، ومن ثمّ تعلّقت به، وبادلته الحبّ، والنّظرات والابتسامات الخاطفة، التي تنمّ عن الإعجاب، والمحبّة، والعشق الملتهب، مثل هذا الصّيف الملتهب.*


   مصطفى الحاج حسين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق