السبت، 4 أكتوبر 2025

عندما يتخطى الرسام حدود الإبداع (2) بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 عندما يتخطى الرسام حدود الإبداع (2)

هُنَاكَ، حَيْثُ تَنْكَسِرُ أَقْلَامُ الْكَلامِ، وَتَعْجَزُ الْحُرُوفُ عَنِ ارْتِيَادِ الْفَضَاءِ. هُنَاكَ، يُولَدُ الْمَعْنَى مِنْ رَحِمِ الصَّمْتِ. إِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَجَاوَزُ فِيهِ الرَّسَّامُ حَدَّ الْإِبْدَاعِ إِلَى لُغَةِ الْأَسْرَارِ، حَيْثُ تَتَحَوَّلُ اللَّوْحَةُ إِلَى وَحْيٍ مُنَزَّلٍ مِنْ سَمَاءِ الْجَمَالِ الْأَزَلِيِّ.

لَا يَرْسُمُ بِالْأَلْوَانِ، بَلْ يَسْكُبُ أَضْيَاءَ الْأَنْسِيّةِ وَظِلَالَ الْوِجْدَانِ. يَغْرِسُ الْفُرْشَاةَ فِي أَعْمَاقِ الرُّوحِ، فَتُفَضِّي إِلَيْهِ بِمَكْنُونِهَا أَصْوَاتُ الْقُدُسِ، وَأَنْفَاسُ الْعُصُورِ، وَرَعْشَةُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. تَكُونُ يَدُهُ وَسَطًا بَيْنَ الْعَالَمِ الْمَرْئِيِّ وَعَالَمِ الْمَلَكُوتِ، فَتَخْطُّ لِلسَّمَاءِ أُغْنِيَتَهَا عَلَى أَرْضِ الْقِمَشَةِ.

فَإِذَا بِاللَّوْحَةِ تَتَحَدَّرُ مِنْ مَعِينِ الْغَيْبِ نَشْدَةً مُقَدَّسَةً.. لَيْسَتْ مَنْظَرًا تُبْصِرُهُ الْعَيْنُ، بَلْ هِيَ رُؤْيَةٌ تَرْقَى بِالرُّوحِ إِلَى مَقامِ الْمُكاشَفَةِ. الْبَحْرُ فِيهَا لَيْسَ مَاءً وَزَبَدًا، بَلْ هُوَ حَنِينُ الْأَزَلِ إِلَى لُقَى الْأَبَدِ. وَالشَّجَرُ لَيْسَ خَشَبًا وَوَرَقًا، بَلْ هُوَ قِصَّةُ عُمرٍ يَتَرَنَّحُ بَيْنَ شَوقِ الْجُذُورِ وَحِيرَةِ الْأَغْصَانِ. وَالوَجْهُ الْمَرْسُومُ لَيْسَ خَطًّا وَظِلاًّ، بَلْ هُوَ مِحْنَةُ إِنْسَانٍ بَيِّنَتَ سِرُّهُ فِي عَيْنَيْهِ.

هَذَا هُوَ التَّجَاوُزُ الْعَظْيمُ.. أَنْ تَصِيرَ الرِّسَالَةُ أَعْظَمَ، وَالْمَعْنَى أَجَلَّ مِنَ الْأَدَاةِ. أَنْ يَكُونَ الْفَنُّ وَحْيًا لَا تَفْسِيرَ لَهُ، وَمُعْجِزَةً لَا يُدْرِكُ سِرَّهَا إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ شَرِيقَةٌ مِنْ نُورِهِ. هُوَ أَنْ تَخْرُقَ اللَّوْحَةُ حِجَابَ الْوُجُودِ، فَتُرِي النَّاظِرَ لَمْحَةً مِنْ وَجْهِ الْحَقِيقَةِ الْكَامِنَةِ خَلْفَ صَخَبِ الْحَيَاةِ.

فَإِذَا مَا أَتَمَّ الرَّسَّامُ مُعْجِزَتَهُ، وَقَفَ أَمَامَهَا كَالسَّاجِدِ الَّذِي أَدْرَكَ قُدْسَ الْأَقْدَاسِ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْجَمَالَ الْمُطْلَقَ لَمْ يَكُنْ مِنْ صُنْعِ بَشَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ نَفَحَةٌ مِنْ رَبِّ الْجَلَالِ، اجْتَازَتْ بِرِفْقٍ عَبْرَ قَلْبِهِ وَيَدِهِ، لِتَخْطَّ عَلَى مَذْبَحِ الْجَمَالِ أُسْطُورَةَ الْخُلُودِ.

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

29/09/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق