الاثنين، 2 يناير 2023

رهان خاسر/ماهر اللطيف/مؤسسة الوجدان الثقافية

 


رهان خاسر

بقلم : ماهر اللطيف
حدثني أقراني و أصدقائي كثيرا عن ظاهرة ركوب زوارق الموت و اجتياز الحدود بحرا خلسة في اتجاه الغرب بحثا عن حياة يطيب فيها الحلم و الأماني و العمل و الكد و الجد و اللهو و الهزل و المجون و كافة أشكال الحياة و تعريفاتها بعيدا عن هذا الواقع الذي نعيشه والدي يجعل منا بشرا أمواتا و نحن احياء، أجسادا بلا ارواح، مخلوقات أقل من بقية المخلوقات التي تقدر أن توفر الحد الأدنى و هو العيش و الغداء و قسطا من الأمن و الراحة على غرار بعض الحيوانات التي تعيش من أجل إشباع غرائزها فقط و تنجح في ذلك في معظم الأحيان رغم الصعوبات و العراقيل عكسنا نحن البشر فوق هذه الرقعة الأرضية و هذا الزمن حيث نفتقر إلى أبسط مقومات التواجد و الاستمرار لضيم و بطش قلة من الأحياء على أغلبية من "الاموات"...
و كنت اعترض على الفكرة لأنها كثيرة المخاطر و المآسي و الحوادث القاتلة، و اسمها بأبشع السمات و الأوصاف إلى درجة نعتها بالخيانة و الافتقار إلى الوطنية و التمرد على الوطن وغيرها من الشعارات التي اثبت إفلاسها و ابتعادها عن الواقع ابتعاد الأرض عن السماء، فقد انضممت إلى "جحافل الأموات الأحياء" و اسودت الدنيا في وجهي و حاصرتني الفاقة و الحاجة من كل جانب إلى أن بت لا أر مخرجا من حالتي غير حل من حلين: إما أن أسرق و أتحايل وافتك ممتلكات و أموال الناس فاطبق قانون الغاب دون رهبة أو خوف لاعيش، أو أن اركب "زورق الموت" و ابحث عن "مستقبل جديد" كما صوره لي البعض.
فقررت طبعا محو الحل الأول اتقاء عواقبه و ولوجي سجون بلادي و تعودي على هذا العمل و المآل فاخسر الدارين، و شرعت في البحث عن "خيط" أو "واسطة" يمكنها أن تسهل لي الطريق و تهديني "سفرة العمر".
ولم يكن ذلك عسيرا في هذا الوطن ، فقد تمكنت من حجز سفرة مع قوافل المسافرين إلى الضفة الأخرى بعد أيام قليلة بعد أن أمد ربان القارب بالمال المتفق عليه - و هو مبلغ ضخم وهام، لكنه يهون من أجل اقتناء الحياة و هجر الموت -...
و ها قد حل الموعد المرتقب، فحملت المال و اتجهت صوب مقهى المدينة المطل على البحر الأبيض المتوسط أين وجدت عشرات و مئات من الناس من كل الأعمار و الأجناس و الألوان هناك في انتظار الواسطة - و يبدو انه هناك أكثر من رحلة تستعد لعبور الحدود تزامنا مع رحلتي - وقد أسدل ستار النهار و أظلمت الدنيا فأضاءت النجوم سماء المكان و تلألأ نور القمر المكتمل من هناك.
و بعد أن حضر الشخص المنتظر و تسلم المال من "الركاب"، تولى توزيعهم إلى مجموعات تبعت كل واحدة "قائدا" يتولى اقتيادهم إلى مبنى مهجور قرب الميناء أين ينتظرون موعد ركوب البحر و الشروع في تحقيق "الحلم المنشود".
لكن "السفرة" تأخرت كثيرا بالنسبة لمجموعتي إذ بقينا قرابة الأسبوع "مسجونين" في تلك "الخراب" دون أكل أو شرب - وقد استهلكنا ما حملناه معنا من مؤونة - قبل أن يتم حملنا إلى قارب خشبي قديم متآكل الاطراف، باهت اللون، صغير الحجم، و تم تعبئته بعشرات الركاب إلى أن شارفنا على المائة تقريبا و صوت أذان العشاء يطرق أذاننا و كأنه يحذرنا التحذير الأخير للإقلاع عن هذا الصنيع، لكننا صممنا على الهجرة كلفنا ذلك ما كلف.
و انطلق القارب يشق البحر شقا، يصارع أمواج الشتاء القارس ويتحداها، يتجنب هيجانها أحيانا وقوتها، يهتز عاليا فيشارف على الطيران قبل الرجوع على المياه بقوة متى نشعر بالغثيان و الخوف والرهبة، يمتلئ بمياه البحر التي تخترق أخشابه من كل جانب فنجري إلى إفراغها و إرجاعها إلى البحر درءا للغرق والفناء، و بعضنا يتقيأ و يعطس ويرتجف....
و تقدم قاربنا آلاف الأميال إلى أن لم نعد نر شيئا غير الماء من كل جانب وقد شرع الفجر في الانبلاج و بدأنا نتعود على هذه الأجواء و ما يحيط بها و خاصة مشاهدتنا للجثث الآدمية هنا وهناك تطفو على سطح البحر في كل مكان و أشلاء بعضهم الآخر تتطاير و تسبح في الماء أيضا و بعضها الآخر يلتهمها كبير الأسماك، إلى أن اخترقت المياه المركب من جديد بكميات كبرى كادت تغرقه و تهلكنا جميعا، فصاح الربان عاليا فينا مزمجرا و هائجا:
- لقد جد الجد الآن و ها نحن نواجه الغرق (وبعضهم يكبر و البعض الآخر يتلو ما تيسر من القرآن بصوت عال) ولم يعد أمامنا من حل للحياة غير التضحية و الصبر والشجاعة.
- (أحدهم و هو شاب في مقتبل العمر باكيا) لا أريد أن أموت ارجوك، فقد هربنا من الموت على أرضنا للحياة على أرض الغير، فهل نموت بين الأرضين بحرا و غرقا و نكون أكلا للاسماك؟... (فيسكته الربان عنوة أمام الجميع قبل أن يدفعه بشدة و يرمي به في البحر و الشاب يصيح و يصرخ بأعلى صوته و هو يستنجد و يعترف انه لا يجيد السباحة)
- (شيخ و هو يضم عجوزه إلى صدره و يكبر تكبيرات مستمرة ومتتالية) لماذا قمت بذلك بني و أغرقت هذا المسكين الذي ضحى بالغالي و الثمين من أجل تحقيق حلمه؟ (ومازال يتكلم حتى وجد نفس مصير الشاب قبل أن يلحق الربان بهما زوجته وكل من عارض صنيعه دون رأفة أو رحمة)
- (الربان هائجا أكثر فأكثر) سنغرق، علينا بالتضحية بعدد من الركاب ليستطيع المركب تحمل وزن معقول يمكنه بالتالي إيصالنا بسلام إلى وجهتنا بعد ساعات قليلة بإذن الله
- (كهل مقاطعا) ألم تفكر في هذا قبل كنز الأموال و التلاعب بالأرواح البشرية؟ (فوجد نفسه طعما للأسماك في حينها)
- (الربان) على كبار السن القفز فورا في البحر و مواجهة مصيرهم (وقد كثر الصياح و الرفض والتعنت)، لا حل أمامنا غير هذا، يكفيكم ما عشتم، فكروا في هؤلاء الشباب و اتركوا لهم الفرصة للعيش مثلما عشتم من زمن
- (عجوز باكيا) اتق الله فينا بني و لا تقم بذلك
- (مقاطعا بشدة) لا حل أمامنا أبتاه للاسف، فإما أن يموت البعض و يعيش البقية و اما أن نموت جميعا (ويلقي به في البحر و ببعض العجائز و الماء يخترق أرضية المركب بقوة)
- (شابة في حالة خوف و هلع وهيجان) ليكن ذلك، موتوا من أجلنا أيها العجائز، هل تريدون احتكار أعمارنا أيضا من أجل أن تعيشوا؟ (وشرعت في دفع بعضهم و إرغامهم على القفز)
- (الربان مبتسما وقد دفع بعض الشباب الآخرين كبار السن أيضا و كذلك بعض النساء و المهاجرين و المقيمين ببلدنا بطرق غير شرعية) أحسنتم، واصلوا التخلص منهم، ها قد تجاوزنا النصف و علينا الوصول إلى ثلاثة أرباع العدد....
و استمرت عملية التصفية و القتل المتعمد للأبرياء هنا في البحر الأبيض المتوسط من طرف الربان وبعض مناصريه من الشباب الحالم ، و زهقت الأرواح قصرا دون رحمة، فيما استمر تدفق المياه بعد تعطب المحرك و امتناعه عن العمل رغم المحاولات و التدخلات المتكررة من طرف الربان و مساعده (وهو ميكانيكي مراكب و زوارق بحرية) و بدأ المركب في الغرق تحت وابل من الصياح و العويل و طلب النجدة دون الحصول على أي نجدة بما أننا الوحيدون المتواجدون حينها هناك....
و بقينا كذلك مدة من الزمن حتى ألقينا بأنفسنا جميعا في الماء و شرعنا في السباحة دون هوادة بحثا عن النجاة و السلامة التي باتت هدفنا و غايتنا الوحيدة في هذه الحالة...
و ماهي إلا دقائق حتى صار أغلبنا غرقى و موتي تلتهمهم الأسماك بشتى أنواعها و أحجامها واضحو موتى قولا و فعلا بعد أن كانوا موتى أحياء يتنفسون، يشعرون و يتمتعون بجميع حواسهم، يحللون ويقررون... ،فتحدوا القضاء و القدر و كانت نهايتهم حتمية ليخسروا الدارين وقد تمسكوا بهذا بعد إلحاحهم و إصرارهم عليه طمعا في تحقيق حلم مفقود وقد تمردوا على واقع موجود.
اما أنا و شيخ و امرأة في مقتبل العمر و شاب مراهق فقد كتبت لنا حياة جديدة و الحمد لله، فقد بقينا نسبح بكل ما أوتينا من جهد رغم الألم والتعب والخوف والريبة و نتحاشي الاصطدام بجثث رفقائنا أميالا و أميالا وكدنا نفقد كل أمل في النجاة إلى أن رأينا مركبا يتجه نحونا بسرعة، فانتشلنا و انقذنا بعناية شديدة ودقة متناهية قبل أن يأخذنا رواده إلى اليابسة بأرض الغرب حيث تم الاحتفاظ بنا في سجن هناك بعد أن استنطقتنا شرطة حدود البلد و قامت باستجوابنا استجوابا مريرا و قاسيا (فقد كان منقذونا ينتمون إلى حرس حدود ذلك البلد كانوا يقومون بدورية في مياههم الإقليمية فعثروا علينا).
و من ثم، وقع ترحيلنا مجددا بعد مدة وجيزة من الزمن إلى وطننا الذي هجرناه ورجعنا له كرها أين كان السجن في انتظارنا قبل أن نجدد العيش و نعود أمواتا و نحن احياء على أرض هذه اليابسة القاحلة على جميع الأصعدة والميادين ، وماتت بالتالي أحلامنا وأمانينا وما زالت في المهد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق