الأحد، 20 يونيو 2021

مداخلة الأديبة جميلة بلطي عطوي التي كاتت صوتيا في حفل توقيع ديوان... همس في الذاكرة ....للشاعرة ليلى الرحموني بمعرض الكتاب بدار الثقافة الشبيخ إدريس ببنزرت .

 مداخلتي التي كاتت صوتيا في حفل توقيع ديوان... همس في الذاكرة ....للشاعرة ليلى الرحموني بمعرض الكتاب بدار الثقافة الشبيخ إدريس ببنزرت

قراءة في ديوان " همس في الذّاكرة "
للشّاعرة ليلى الرّحموني
مقدّمة
الشّعر كلمة صغيرة لعالم كبير
الشّعر صوت الذّات، صوت الآخر بل صوتُ الجماعة فيك ، بالحرف يغزو الشّاعر كلّ المسافات فيرسم الواقع كما يراه أو كما يشتهي أن يراه إذ خيال الشّاعر يكسر الحدود ويحدث المفارقة ليُنشئ عالما مختلفا، مُفرِّقا، جامعا هو خلطة الأنا والأنت والهُمْ. هو الإنسانيّة التي تتأرجح أفكارها، أحلامها وآلامها على حبال اللّغة ، ينسج منها الشّاعر دثارا، يتقلّد سيفا أو يمتطي بُراقا.
ذاك هو الشّعر نفحة الطّيب تُغري وتُثري ، إنّه الشّعر الذي قال عنه شاعر تونس أبو القاسم الشابّي
شعري نُفاثة صدري إن جاش فيه شعوري
لولاه ما انجاب عنّي غيم الحياة الخطير
ولا وجدتُ اكتئابي ولا وجدتُ سروري
به تراني حزينا أبكي بدمع غزير
به تراني طروبا أجرُّ ذيل حبوري
هذا هو الشّعر الذي سنتبيّن بعض ملامحه من ديوان " همس في الذّاكرة" للشّاعرة ليلى الرّحموني في طبعته الأولى 2020 عن دار سوتيبا قرافيك للنّشر والتّوزيع جمعت فيه الشاعرة بين القصيدة الفصيحة و القصيدة المحكيّة الغنائيّة وقد وردت فيه القصائد في مجملها قصيرة أو متوسّطة الطّول.
همس في الذّاكرة عنوان يشدّ الانتباه و الهمس حسب معجم المعاني الجامع هو صوت الإنسان الخفيّ بالكلام وهو صوت الوطْء الخافت لكنّ الهمس هنا من نوع مخصوص إنّه همس في الذّاكرة تلك التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالذّكريات الخاصّة والعامّة باعتبارها أعزّ ما نملك .
والذكريات كما يقول الباحثون دعامة "علاقاتنا الاجتماعيّة ومعرفتنا وأذواقنا وتاريخ مغامراتنا وما نتميّز به ونعتدّ " من أجل ذلك عدّت الذّاكرة موضوعا ذا أهميّة في علم النّفس لأنّ الاسترجاع والتّذكّر يفتح للذّات أبوابا كثيرة عن المسكوت عنه أو المخزّن في الّلا وعي.
فكيف يا ترى كان الهمس في ذاكرة الدّيوان وما هي تداعياته؟
أوّل ما نلاحظه هو أنّ عنوان الدّيوان في الأصل عنوان للقصيدة الثّانية الممتدّة على الصّفحتين 10 و11 قصيدة ترحل بنا إلى همس مخصوص يمكن إدراجه في باب مناجاة الذّات للذّات حيث تقول الشّاعرة
صوت خافت في أعماقي
يسري دبيب النّور في أشواقي
تمضي الشّهور وتمضي الأعوام
تمضي السّاعات والأيّام
والصّوت رغم صخب الزّمان باقي
إلى أن تقول
ينادي الصّوتُ فلا أسمع
يناشد الطّيفُ فلا أرجع
تلاحقنِي الذّكرى أينما أمضي
وترجوني أن أخضع
وتختم بقولها
مادام في قلبي نبض
وفي حياتي مكان للأماني
كلّما سمعته تيقنتُ
أنّي ما زلت أحيا وبداخلي
كيان لإنسان.
هذه القصيدة أرى أنّها جوهر الدّيوان وهي التي ستنفتح لنا منافذ البحث والتقصّي عن الدّواخل لنتبيّن التيمات الواردة في المجموعة والأساليب المعتمدة في الإبلاغ
التيمات
1 – الذّاكرة خزّان الزّمن
يقول الباحثون " إنّ الاسترجاع الفنّي يعدّ من التّقنيات الأدبيّة الهامّة التي دخلت من السّنما إلى الأدب هذه التّقنية التي وإن كانت حديثة العهد في نقد الأدب العربي لكنّها وظّفت في النّصوص الأدبيّة القديمة وتعتبر عاملا محوريّا لاتّساع النّصّ وانفتاحه على أزمنة مختلفة " ظاهرة لا تخفى على ذي بصر فهي مبثوثة في الموروث الأدبي عموما وهي تقنية تسهم في الاستحضار أو الاسترجاع كما سجّلتها لنا الشّاعرة في مفهوم الوقوف على الأطلال القديم الحديث أو في شبه التنّاص بين ما كتبت في المسألة العشقيّة مع كتابات نزار قبّاني
كأن تقول في قصيدة " جرح الأيّام" من الصّفحة 45
تستحضر شجون الماضي
وتستنبتُ من ذكراه أحلام
ولكنّ أحلام الحاضر والماضي
لا تحيي الحبّ ولا تجعله ينام
غير أنّها تخطّ على أوراقي
عفيف النظم وحلو الكلام
أو تقول في قصيدة " عشق المجانين" من الصّفحة 23
لا أعرف يا سيّدي
غير أنّي ...
مازلت أبحث
فيك عنّي؟
2 - الذّات / أنثى التمرّد
لئن فازت القصيدة الرّومنسيّة الوجدانيّة في الدّيوان بنصيب الأسد فإنّها كشفت لنا عن رؤية وقناعات مخصوصة في مجال العشق والشّاعرة هنا أيضا تبدو متأثرة بالمدوّنة الغزليّة استعراضا لما ينتاب العلاقات العشقيّة من المعاناة لكنّها حرصت على أن تسجّل بصمتها الخاصّة متماهية مع القديم في التذكير بأحوال العشّاق في حين أثبتت أنها تفعل ذلك عن وعي وغاية فما هي مجرّد ظلّ لصورة الحبيبات في الموروث ولا هي الرّاكضة خلف المعشوق مضحيّة بكبرياء الأنثى . الشّاعرة هنا تجرّد قلمها سيفا بتّارا تذود به عن بنات جنسها ساعية إلى أن تخرج من جلباب الرّجل إمّا بالتّبعيّة المطلقة أو بالحاجة إلى من يدافع عنها كما كان الحال مع الطّاهر الحدّاد في كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع أو مع نزار قبّاني الذي تبنّى قضايا المرأة وتكلّم بلسانها . الشاعرة مؤمنة بالإنسان بغضّ النّظر عن جنسه ، مؤمنة بالمرأة كائنا كاملا ومن أجل ذلك أعلنت التمرّد على التّبعيّة ودعت ضمنيّا إلى إثبات الذّات . ذات حرّة قادرة على خوض معركة الحياة وتحدّي العقليّات .
استمع إليها في قصيدة "خبرة وعفويّة" من الصّفحة 47
لا تقل يا سيدي
بأنّني امرأة
عفويّة وغبيّة
وأنّ خبرتك الكبيرة
في النّساء
كانت لك بدربي
أحسن دليل وخير مطيّة
وأنّك سيّد كلّ المواقف
وحائكُ جميع خيوط
العلاقات الإنسانيّة
فأنت يا صاحب الخبرة
لا تعرف شيئا
عن نساء قبيلتي
وعن جازيتهنّ الهلاليّة
وتستمرّ فتقول من النفس القصيدة بالصّفحة 48
فتمهّلْ قليلا يا سيّدي
وخذْ نفسا عميقا
وانظرْ أمامكَ جيّدا
يا صاحب اللّباقة
والنّباهة الاجتماعيّة
قبل أن يضلّلك غرورُك
وتصفعَكَ حقيقة غدي
ويباغتك يزوغ شمسي
في سماء كانت وستبقى
مضيئة بأنوار نسائها الجليّة.
هي المرأة إذن كما تصوّرها الشّاعرة صنو القوارير ، مرهفة الحسّ ، لطيفة اللفظ لكنّها عند الذّود عن الكبرياء تكشف عن وجه اللّبؤة .
تقول في قصيدة " صبر امرأة" من الصّفحة 58
وسأقول إنّي امرأة
سليلة قوم ...
تولد من رحم
ظلماتهم أنوار
ذاك كوني...
ولئن أطنبت الشّاعرة في الحديث عن العشق ، عن الأحلام والآلام ، عن الوصال والانفصال، عن الذّات في تأرجحها بين الضّعف والقوّة فإنّها لم تغرق كليّا في الذّاتي بل كان للموضوعي في ما كتبت نصيب
3 – تأمّلات في الوجود والحياة
ككلّ الشّعراء تنشغل الشّاعرة بهموم الإنسان فردا أو جماعة، أسرة مجسّدة في الأب ، في الأبناء أو عقليّة متزمّتة عانت منها المرأة ومازالت تعاني إلى يوم النّاس هذا . تقول الشاعرة في قصيدة " إن سألوك عنّي " من الصّفحة 14
إنْ سألوك عنّي يوما
وسيفعلون.. فقل لهم
قلْ لهم أنّها كانت
تحملُ القمر في قلبها
والشّمس في عقلها
وتحمل في عيونها
أصالة سابحات الصّحارى العربيّة.
وتواصل في الصّفحة 15
أحبّتني بجنون ...
واحتملتني بمجون...
وسامحتني ...
ولكنّها تعبت
فقد كنتُ
رجلا متملّقا، متجبّرا، شرقيّا
فالرّجال في مدينتي
يزهدون بامرأة
تجاهر
بحلمها .. بنبضها وحرفها..
وتفاخر
بسحرها ... ولينها.. ودمعها...
لا يقبلون المرأة
الشّامخة الصّامدة القويّة
ثمّ تتحوّل إلى الحديث عن الوطن بفرعيه الأصغر والأكبر ( قصيدة تونس وقصيدة بيروت) أو تطرح علينا تأمّلا في الزّمن والإنسان ، في البقاء والفناء كأن تقول في قصيدة "شمعة ليّام" باللّغة المحكيّة
أيّام غاصْبة تفرّقنا
وما هو بدينا
نضحك...
تضحك الضُّحكة علينا
نبكي...
تبكي الدّمعة علينا
وحتّى كيف ننسى
نلقى النسيان ناسينا
ذلك هو ديوان "الهمس في الذّاكرة" تراءت فيه القصائد مشبعة بالأحاسيس المتباينة ، ناضِحَة ضعفا وقوّة ، كاشفة عن خفايا الذّات ، عن الأزمنة المتراقصة على حبال البيان ، مضمّخة بعطر الشّوق إلى الأنا ، إلى الحياة إلى منزلة تليق بالمرأة ، بالإنسان، إلى بصمة تتركها الشّاعرة على صدر قصيدة.
غير أنّ الشّعر كما يقول الجاحظ " صناعة وضرب من النّسيج وصنف من التّصوير " صناعة في مفهوم التفنّن في الصّياغة بحثا عن الصّور الأخّاذة ، عن الإيقاع المبهر عبر البلاغة والرّمز والانزياحات التي تعدّ شريان حياة للأثر حيث يقول الجاحظ" إنّي لا أعلم شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرا ولا أقرب مجتنى من كتاب" لنجد السّؤال يطرح نفسه : ما التقنيات الفنّيّة التي اعتمدتها الشّاعر للإبلاغ؟
بإيجاز أقول لئن حرصت الشّاعرة على تسجيل المرجعيّة مع تكثيف المعاجم وتطويعها لخدمة بعضها البعض فإنّ اللّغة بدت في مجملها قريبة من لغة الاستعمال اليومي وذاك خيار وحقّ ولئن بدت الصّور الشّعريّة مُحتشمة واختلط مفهوم الإيقاع بين القصيدة العموديّة والقصيدة النّثريّة فإنّ النبض كان عاليا بما يشدّ المتلقّي ويشوّقه .
هذه قراءتي العجول لديوان " همس في الذّاكرة " الذي أهدتني إيّاه الصّديقة الشّاعرة ليلى الرّحموني مشكورة و التي أتمنّى لها مزيدا من العطاء والنّجاح وإن كان لا يفوتني أن أهمس في أذنها أنّ اللّغة كائن حيّ يهوى الحفاوة والعناية بل هي كما يقول رولان بار الفيلسوف والناقد الفرنسي" اللغة ليست زادا من المواد بقدر ما هي أفق" إذ بقدر ما نعطيها من الجهد والتّدقيق تعطينا الفائدة والإمتاع .
تونس...... 19 / 6 / 2021
الأديبة جميلة بلطي عطوي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق