** (( صديقي عاطف عطوف))..
قصّة: مُصْطَفَى الحاجّ حُسَيْن.
(عاطف عطوف) صديقي الجديد، هو ابنُ حارة (وليد)، وكان (وليد) يعرفه، ويعرفُ أهلَه قبلِي، لكنَّه لا يحتكُّ به، بل يرفض التعرُّفَ عليه، لأنَّ (عاطف) كان منبوذًا من قِبَلِ أهلِ الحارة، وجيرانِه، وأصحابِ المحلّات، والدّكاكين، والورش، والشباب، الذين هم في عمرِه، ومن كانوا بمستواهُ التّعليميّ.
وقد ساهم والدُه المختلُّ عقليًّا في تشويهِ سمعتِه، وبثِّ الكُرهِ في قلوبِ النّاسِ تجاهه.
تعرّفتُ عليه، وهو في السّنة الثّانية من كُلِّيّةِ الحقوق، بجامعةِ دمشق (إذ لم تكن كليةُ الحقوق قد أُحدِثَت بجامعةِ حلب بعدُ).
كان يكبُرني بسنةٍ - على ما أعتقد -، مثقّفًا، يكتب القصّةَ القصيرة، ولديه مكتبةٌ غنيّة، وهامّة، ورائعة، ويهتمُّ بالموسيقى، والفكر، والسّياسة.
لديه أصدقاءُ مختلفون عن شلّتنا، من حيثُ الاهتمامِ بالثّقافة، والفكر، والسّياسة، والمواهب، والمعرفة.
وكان على رأسهم: (مصباح، ومروان، وسومر) .
وقد تعلّقتُ أنا بـ(مصباح منير)، فهو يفوقُ (عاطف) في الثّقافة، والفكر، والسّياسة، ويُجيد اللغة التّركيّة، واللغة الكرديّة، ويقوم بالتّرجمة، ويدرسُ في كلّيّة الاقتصاد.
على مضضٍ، ومجاملةً لي، تقبّل الأصدقاءُ انضمامَ (عاطف) إلى مجلسنا، سواءٌ في منزلي، أو منزل (وليد).
أمّا هم، فلم يُقدِموا على زيارته في بيتِه، رغم اعترافهم بسعةِ ثقافتِه، وتَمكُّنه، وقدرتِه البارعة على الجدل، والمناقشة، والحوار المستفيض.
وكان أخي (سامي)، خلال عُطلته ومجيئِه من (عين العرب) إلى بيتِنا في (حلب)، خصمَه الأوّل في مخالفتِه للرّأي، والفكر، والتّوجّه الفلسفيّ.
كان (عاطف) مرفوضًا، وغير مرغوبٍ بصحبته، لا أحد من شلّتنا يرحِّب بصداقته.. أخي (سامي) يرفضه، على أساسٍ فلسفيّ أو فكريّ.. وصديقي (وليد) وبقيّة الأصدقاء، كانوا يرفضونه بسبب سمعته السّيئة التي سبقته إليهم.. ينظرون إليه على أنّه مُلحِد، وكافر، وشيوعيّ قذر.. وبشهادة أبيه.
حدث أن وقف (عاطف) مع بعض شبّان حارته، وبدافع حماسته، ورغبته في تغيير العالم من حوله، أخذ يُناقشهم، ويسخر من عاداتهم وتقاليدهم البالية، ثمّ ارتفعت لديه وتيرة الحماسة والانفعال والثوريّة، فهتف يسألهم:
- قولوا لي، أين الله؟!.. بل من هو الله؟!.. ومَن خلقه؟!.. وماذا كان قبله؟!.. ومَن سيكون بعده؟!
وجنّ جنون الحاضرين، فراحوا يُسكتونه، ويستغفرون الله، وأخذ البعض منهم يشتمه، ويسبّه، ويلعنه، وتجرأ آخرون على ضربه، وطرده من بينهم.. فهرب منهم، وصعد إلى بنايته، ومنهم مَن قام بملاحقته، والصّعود إلى باب شقّة أهله، وطرقوا الباب، فخرج عليهم والده، المشوَّش العقل، وقالوا له:
- ابنك كافر.. زنديق.. ملحد.. مرتدّ.. شيوعيّ.. يستحقّ القتل.
وهكذا تمّت فضيحة كفر (عاطف) في الحارة، وانتشر صيته في الحارات المجاورة.. وهناك من صار يحتقره، ويزدريه، ويمقته، بل تعدّى الأمر إلى معاداته، والاعتداء عليه في الشارع.
وكان أبوه غاضبًا عليه، يحاول ألّا يرى وجهه.. و(عاطف) أساسًا كان منعزلاً عن أهله، في غرفةٍ مستقلّة، تقع فوق غرفة أبيه.. وأخته، معلّمة المدرسة، المتزوّجة من مدير (معهد الفنون الجميلة)، الذي كان (وليد) منتسباً إليه، كانت مستأجرةً من أبيها شقّة، مقتطعٌ منها غرفة لـ(عاطف) بلا *مرحاض*، ممّا يجعله مضطرًّا، حين يشعر بالضّيق، للنزول إلى شقّة أهله، ليفكّ زنقته.
كان والد (عاطف) في حالة غضبٍ وانزعاجٍ من ابنه (عاطف)، الذي اشتكى منه أهل الحارة، والجيران.. وبسببه أيضاً، صارت عائلته عرضةً للتّهكّم، والسّخرية، والاحتقار، والكره، والقرف، بل والاشمئزاز، والعداء الواضح، الظّاهر والمُعلَن.
وبعد صلاة العشاء، في جامع (سعد بن أبي وقاص)، وعند خروج المصلّين، تقدَّم (أبو عاطف) من (فضيلة الشّيخ)، إمام المسجد، واستوقفه بقوله:
- أتسمح لي، سيّدي الشّيخ، بسؤال؟
توقّف الشّيخ، ذو اللّحية الكثيفة، الضّاربة إلى البياض والاحمرار، مع شيءٍ من الاصفرار حول الشفتين والشّوارب المحفوفة بعناية، وتحت الفم الخرب من الأسنان قليلاً، وقال:
- تفضّل يا حاج، هيا اسأل.
وكان والد (عاطف) متوتّراً، حائراً، قلقاً، منقبض الوجه، فقال:
- (شيخي)... عندي سؤال هام وضروري، أتمنّى أن أعرف جوابه منك، فأنت أعلم منّي في الدّين، وأفهم... ولهذا استوقفتك، أسألك، فاعذرني، وسامحني إن أخذت من وقتك الثّمين.
ابتسم الشّيخ، وعدّل قبّعته الفضّية على رأسه، وهمس بوقارٍ مصطنع، وقال:
- تفضّل يا (حجي)... قُل ما عندك، فأنا أستمع إليك.
تشجّع (أبو عاطف)، والتفت حوله، قبل أن يقول:
- (شيخي)... عندي ولد، طالب جامعي، يدرس الحقوق... كان من أتقى الشّباب، لكنّه منذ فترة، بدأ يتغيّر، ولم يعد يعترف بخالق الكون!.. *استغفر الله العظيم*، صار شيوعيّاً، يدعو للإلحاد والكفر، وعدم إطاعة الله ورسوله، وأنا، منذ أن ذهبت إلى (الحج)، وزرت (الكعبة المشرّفة)، صار يحضر عليّ في كلّ ليلة، عند صلاة الفجر، سيّدُنا وحبيبُنا، عليه أفضل صلوات الله وسلّم.
فدمدم الشّيخ، القابض على سبحته:
- عليه الصّلاة والسّلام.
وتابع (أبو عاطف) الكلام:
- ولكن يا (شيخي)، توقّف مجيءُ الرسول، عليه السّلام.. لم يعُدْ يحضر عليّ، منذ عدّة أيّام، وهذا ما يُؤلمني، ويُزعجني، ويُضايقني.. ولهذا، أنا أريد أن أسألك: هل يكون السبب هو ابني، المغضوب، في هذا الأمر؟!.. فهو ينام في غرفة فوق غرفتي.. وكيف للنبي، أن يهبط وينزل إليّ، وابني الشّيوعيّ يقف عائقاً بيني وبين سيّد البشريّة، عليه الصّلاة والسّلام؟!.
وارتفع صوته أكثر، وتضاعف توتّره، فأخذ ينشج بشدّة ومرارة، ويهتف:
- مؤكّد يا سيّدي (الشّيخ)، ابني الضّال هو السّبب في هجران رسول الله لي.. فماذا أفعل به؟!.. هل أطرده من بيتي؟ أم أذبحه كالنعجة؟.. أم لديك طريقة ما لإنقاذه من ضلالته، وإنقاذي من ذنوبه الفظيعة؟!..
قال (الشّيخ)، وعلامات القرف والاشمئزاز بادية على ملامح وجهه المتجعّد:
- أعوذ بالله من ابنك هذا.. وكان الله في عونك يا أخي.. ابنك هذا بحاجة لمعالجة، وكتابة (حجاب)، تعويذة وحماية.. وبسرعة، قبل فوات الأوان.. يا لطيف! من هذا الجيل العاق!.. استغفر الله العظيم.
وانهمرت دموع (أبو عاطف)، وبلّل الدّمع لحيته المخضّبة بالبياض، وهتف:
- أرجوك يا (شيخي).. أنا أريد أن يعود (الرّسول) الكريم للحضور إلى غرفتي، كما كان في السّابق.. وابني هذا الكافر لا يعنيني، ولا يهمّني.. لولا تدخّل أمّه، لكنت طردته من بيتي منذ زمن بعيد.
قال (الشّيخ)، وقد تفتّحت عيناه، بعد أن مسح عنهما (العمص):
- لك هذا.. تكرم يا (حاج)، ولكن هذا الموضوع مكلف لك.. فهل عندك القدرة الماليّة؟ وهل أنت مستعد للدّفع يا (حجّي)؟.. وأنا أتعهّد لك أن يحضر عليك سيّدنا (النّبي) مرّتين في اليوم الواحد.
وكان بعض الذين خرجوا من (الجامع) قد التفّوا حول (شيخهم)، يريدون التحدّث معه لأمور تخصّهم، فتابع (الشّيخ) قوله:
- أنت تعرف بيتي.. تعال إليّ لكي نتفق.
وبعد أن انتصف الليل، وكان (عاطف) في غرفته يذاكر للامتحان النّصفي، الذي اقترب.. فجأة شعر بانقباض حادّ في أحشائه، فرمى الكتاب من يده، وأسرع ففتح الباب، وهبط الدّرج، دقّ باب أهله مستعجلاً، ووقف ينتظر فتح الباب.. وندم لأنّه لم يحمل معه المفتاح، الذي تركه في غرفته.. وخُيّل إليه أن وقتاً طويلاً قد مرّ، وهو واقف ينتظر، وحين حرّك يده ليعاود الدّق، فُتح الباب، وبرز في وجهه والده، في قميص (الفانيلا) و(تحتانية البيجاما)، فوقف في وجه ابنه، ليعيق دخوله، ويقطع الطّريق عليه..
فقال (عاطف) بعجلة:
- مساء الخير يا بابا.. اسمح لي أن أدخل.. أنا مستعجل.. لأنِّي متضايق.
قال هذا، ووضع يده على بطنه، ليفهم والده قصده.
لكنّ والده استمرّ في وقفته تلك، مصرّاً على منع ابنه (المزنوق) من الدّخول إلى بيته، لِيَدخل (المرحاض)، فمدّ يده ليزيح أباه عن طريقه.. لكنّ والده استطاع أن يتمسّك بدرفة الباب، ويتمركز خلفه بقوّة.. و(عاطف) في حالة يُرثى لها.. هو غير قادر على العراك مع أبيه، ليدخل البيت عنوة.. اكتفى بالقول، بصوت يشبه التّرجي والتّوسل:
- أبي...
فدفعه أبوه بصدره، وصاح مهتاجاً:
- لا دخول لك لبيتي يا كافر! اذهب، لعنك الله!
وجد (عاطف) أنّ من الأفضل له أن يترك أباه، وينزل إلى الشّارع، ليبحث عن حلّ سريع، ينقذه ممّا هو فيه.. فترك أباه متمسّكاً بباب منزله، واتّجه يهبط الدّرج بسرعة، وذهنه يعمل ويفكّر:
- أين أذهب؟!.. لم أعد أحتمل.. أنا متضايق جدّاً.. الخوف أن أعملها تحتي، على نفسي.. يا للفضيحة، يا أستاذ (عاطف)، هذا موضوع يصلح لكتابة قصّة قصيرة، عنوانها: (البُراز).. نعم، سيكون عنواناً لمجموعتي القصصيّة.. ولكن الآن، أين عليّ أن أذهب؟!.. فَكّر بنفسك الآن، وفيما بعد، فكر بكتابة القصّة، التي ستفضح بها أباك، الظّالم، والمتخلّف، والقاسي القلب.
وحين صار في الشّارع، وقف وتلفّت وفكّر:
- من أين أذهب؟!.. الجامع الآن مغلق، ولا يمكن الدّخول إليه.. سأذهب من هنا، إلى الطّرف الآخر.. هناك، في أرض (العجم)، توجد كومة أحجار.. وهناك، في العتمة، سأختبئ خلف الأحجار، وأفعلها.. الحمد لله أنّ الوقت ليلٌ، والسّاعة تجاوزت الثانية عشر، والسّماء توشك أن تمطر، والعابرون قلّة، في هذا الوقت، وبمثل هذا الجوّ الشتويّ.
كان يُسرع في خطواته، ومن ينظر إليه من الخلف، كيف يمشي، يدرك من يراه، أنَّ هذا الشّخص ليس بالطّبيعيّ.. وحين اقترب، وجد السّمان (أبو علي) ما زال فاتحاً دكّانه، وعنده أكثر من ثلاثة شباب.. (اللعنة!.. أين أذهب؟!.. لمن ألجأ)؟!.
في هذه اللحظة، كنتُ أنا قد غادرت السّهرة من عند صديقي (وليد)، ومررتُ بالقرب من (عاطف)، وكنتُ لا أعرفه، ولا تربطني به صداقة أو معرفة، وخاصة في هذا الليل المظلم، لذلك عبرتُ، دون أن أنتبه إليه. وبعد أن تجاوزته بعدّة خطوات، سمعته يهمس:
- مرحباً يا أخ...
توقّفت، تلفّتُّ، نظرتُ إليه مستطلعاً:
- أهلاً وسهلاً، أخي.
تقدَّم منّي أكثر، بالكاد لمحتُ وجهه، على بصيص الضّوء المنبعث من النّوافذ المغلقة.. وخُيِّل إليَّ أنّني أعرف هذا الوجه، أو قد صادفته من قبل...
- من فضلك... هل أستطيع أن أطلب منك طلباً؟
لا أعرف إن كان استطاع أن يلمح ابتسامتي في الظّلام، فقلت:
- تفضّل، أنا في خدمتك.
قال، وكلّه حياء وارتباك:
- أنا متضايق... هل تسمح لي أن أدخل بيتك... وأدخل إلى (دورة المياه)؟
فاجأني طلبه هذا، ولكنّي أسرعت لأقول له:
- تفضّل، أهلاً وسهلاً... بيتنا هناك، بعد ثلاثة بيوت.
طرقتُ الباب بعجلة، ففتحت أختي، دخلتُ خطوتين، وطلبتُ منها أن تفسح لنا الطريق، فصديقي سيدخل إلى (التواليت).
وعلى الفور، أدخلته، وأشعلتُ ضوء غرفتي المنعزلة عن بقيّة الغرف، وطلبتُ من أختي أن تُحضّر لنا الشّاي، بعد أن دخلتُ وصديقي إلى غرفتي.
وبعد أن خرج وتنفّس الصّعداء، وغسل يديه في المطبخ، ابتسمتُ له، ورحّبتُ به من جديد...
فشكرني، وهو يهمّ بالمغادرة، فدعوته إلى دخول الغرفة، وحاول أن يعتذر، فالوقت متأخر وغير مناسب... وأمام إلحاحي، دخل.
- أنا أعرفك... أنت صديق جارنا (وليد) في الحارة.
قلتُ:
- وأنا رأيتك مرّاتٍ عديدة، في الحارة، وأنا نازل من أمام بنايتكم، وذاهب إلى موقف (الباص).
قدّمت له سيجارة، فأخذها قائلاً:
- آسف، لم أحمل معي علبة سجائري... ولكن لعلّك تسأل نفسك عن هذا الذي حدث؟! ولماذا لجأتُ إليك؟
- لا... عادي... أهلاً وسهلاً بك.
وضحكت، وأنا أكمل كلامي:
- فرصة سعيدة... فقد تعارفنا.
فانفجر ضاحكاً، وهو يهتف:
- فرصة سعيدة تعارفنا؟! ما أجمل هذه المناسبة، التي لن تُنسى... على أيّ حال، سأقصّ عليك حكايتي فيما بعد.*
مصطفى الحاج حسينِ.