الخميس، 9 أكتوبر 2025

هَلْ سَكَتَتِ الْمَدَافِعُ وَحَلَّ السَّلام!!! بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 هَلْ سَكَتَتِ الْمَدَافِعُ وَحَلَّ السَّلام!!!

ها هيَ الأرضُ بعدَ عَواصفِ الحَربِ تدوّي بِصَمتٍ رَهيب. أتراها تستريحُ؟ كلا، إنَّما تَلحسُ جِراحَها في صمتِ الأبطالِ. ذَهبَ دويُّ المدافعِ، وغابَ شررُ القنابلِ عنِ الأفُق، فصارَتْ السَّماءُ صافِيَةً كَجَبينِ طِفلٍ نائم. لكنْ أينَ السلامُ مِنْ قلوبِنا؟ وأينَ طُمأنينةُ النَّفسِ مِنْ هذا السُّكونِ المُريب؟

يا لَعبَثِيَّةِ الزَّمن! أتُراكَ تَضحَكُ مِنَّا أيُّها القَدَرُ الأصمُّ؟ نَصنعُ السَّلامَ بِحَبرِ الوَثائقِ، ونَنسَى أنَّ الحُروبَ الحَقِيقةَ تَنتَقِلُ مِنَ المَيدانِ إلى النَّفس. نُسَكِّنُ صَليلَ السُّيوف، وتَظَلُّ صَواعِقُ الضَّغينةِ تَهزُّ كَينونَتنا مِنَ الدَّاخِل. نُطفِئُ نارَ المَعارك، ونُبقِي على جَمرِ الأحقادِ يتأجَّجُ في قَعْرِ الأضلُع.

أَيُعقَلُ أن تَخلَدَ الأجسادُ إلى الرَّاحة، وتَظَلُّ الأرواحُ تُصارِعُ فِي لُجَجِ الوَحشة؟ إنَّ السَّلامَ الحَقِيقيَّ لَيسَ مُجرَّدَ غِيابِ القَتْل. إنَّهُ حُضورُ الطُّمأنينةِ، وانْبِثاقُ الأملِ، وَقُدرَةُ القَلْبِ على البِناءِ بَعدَ أنْ هَدمَتْهُ شَواظُ اليَأس.

ها هُمُ النَّاسُ يَمشونَ في الشَّوارعِ، بادِيَ الأمرِ أنَّهم أحياء. لكنْ أينَ الحَياةُ مِنْ عُيونٍ خَوِرَةٍ تَرى العالَمَ مِنْ خِلالِ شَبَكَةِ أَلم؟ أينَ الحَياةُ مِنْ قُلوبٍ تَئِنُّ كَأنَّها رَفاتُ مَدينَةٍ مَحَتها نيرانُ الغَدْر؟ لَقَدْ صِرنا نَحملُ في أَعْمَاقِنَا خَرائِبَ لا تُعْمَر، وَمَقابِرَ لِأَحلامٍ قُتِلَتْ قَبْلَ أوانِها.

فَيا أيُّها السَّلامُ المُعَلَّقُ في بَينِ الأَسماعِ وَالأبْصَار، كَلَفظَةٍ جَوفاءَ في خُطْبَةٍ دِبْلوماسِيَّة! أَتَأْتِي إلينا بِثَوْبِكَ البَاهِظِ وَعِنْدَكَ رائِحَةُ البارود؟ أَتَدْخُلُ قُلوبَنا وَأَنْتَ تَحْمِلُ سَيْفاً مُغْمَداً في غِمْدِ الْخِداع؟ إنَّنَا لَن نُصَدِّقَكَ حَتَّى تَنْزِعَ جُذورَ الحَربِ مِنْ أَعْماقِ ضَميرِ البَشَر.

لَسْنا بِحاجَةٍ إلى سَلامِ الْأرْصِدَةِ وَالْبُورَصات. نَحْنُ بِحاجَةٍ إلى سَلامِ الْقُلوبِ الْجَرِيحَة. سَلامٌ يَبْدَأُ كَنَبْضَةِ حَنانٍ في أُمٍّ ثَكْلَى، وَكَلَمْحَةِ عَفْوٍ في عَيْنَيْ أَبٍ فَقَدَ وَلَدَه. سَلامٌ يَكْبُرُ كَطِفْلٍ يَلْعَبُ بَيْنَ أَطْلالِ دَارِهِ الْمُهَدَّمَة، فَيَبْنِي مِنْهَا قَصْراً بِخَيالِهِ الْوَاسِع.

فَإِذَا كَانَ السَّلامُ حَقِيقِيّاً، فَلِمَاذَا تَظَلُّ أَصْوَاتُنَا خَائِفَةً كَأَنَّهَا تَمْشِي عَلَى حَافَّةِ سِكِّين؟ وَلِمَاذَا تَظَلُّ ذَاكِرَتُنَا تَقْرَأُ التَّارِيخَ مِنْ آخِرِهِ إلى أَوَّلِهِ، خَوْفاً مِنْ أَنْ تَعُودَ الْحُلْوُمُ جِراحاً، وَالْجِراحُ مَوْتَاً؟

عَجَبِي! أَنُسَمِّيهِ سَلاماً وَالقَلْبُ يُنَادِي: لَسْتُ أَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَكَ أَيَتُهَا الْوَحْشَةُ! لَسْتُ أَرَى إِلَّا ظِلَّ الْحَربِ وَقَدْ طَالَ حَتَّى غَطَّى نُورَ الْفَجْر!

فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ السَّلام، فَما أَشَبَهَ اللَّيْلَ بِالنَّهَار! وَما أَقْرَبَ السَّكِينَةَ مِنَ الْعَوَاصِف!

فَاسْكُتِي أَيَّتُهَا الْمَدَافِعُ، فَقَدْ سَكَتَّتْ. وَانْزَعِي أَيَّتُهَا الْحُروبُ سُيُوفَكِ، فَقَدْ نَزَعْتِ. أَمَّا نَحْنُ، فَسَنَظَلُّ نَنْزَعُ جَمَاجِمَ الْحِقْدِ مِنْ قُلُوبِنَا، وَنُرَجِّعُ صَدَى الْأَلَمِ فِي أَذْهَانِنَا. حَتَّى إِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الَّذِي نَسْمَعُ فِيهِ حَفِيفَ الْأَمَلِ دَاخِلَ أَنْفُسِنَا، وَتَعَانَقَتِ الْأَفْئِدَةُ كَأَغْصَانِ الزَّيْتُونِ بَعْدَ طُوفَان، حِينَئِذٍ نَصْرُخُ فِي وَجْهِ الزَّمَن: "هَا قَدْ سَكَتَتِ الْمَدَافِعُ، وَحَلَّ السَّلام"!

حِينَئِذٍ.. لَكِنْ مَتَى يَكُونُ حِينَئِذٍ؟

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

9/10/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق