في مكان ما (قصة قصيرة)
الطرقات تذوب كشموع سوداء، تتحول إلى أنهار صغيرة، تحمل في تيارها البطيء؛ لفائف سجائرٍ ميتة تدخّن آخر أنفاسها؛ أحلام أطفال ضائعة تطفو كفقاعات صابون، وقصاصات من جرائد قديمة تكتب عن مجازر في أماكن بعيدة، الحبر يذوب في الماء فيصبح الدم كلمات، والكلمات دماء.
الوحل يغني أغنية قديمة؛ أغنية من زمن كان فيه الطين لغة مشتركة بين الأرض والإنسان، الآن صارت لغة غريبة لا يفهمها سوى المشّاءون في الظلام.
الفتى يشاهد من على الجدار، هذه الأنهار الصغيرة التي تحمل تاريخ القرية في قعرها يتساءل:
- أين تذهب هذه الأنهار؟ وهل تصل يوماً إلى بحر
يجمع كل هذه الأشياء الميتة؟ يداه تتقدان رغبة لمس هذا الماء العكر، لكنه يخاف أن يلمس جرحاً، أو يقرأ خبراً.
وفي هذا المكان، وقبل عام، لم يكن المطر وحده من انهمر، وقفت أمه تلفّ حقيبة بالية بحذر، كأنها تخبئ قلبها داخلها، بينما كان أبوه يرمي بصمت نظرات ثقيلة ، كمن يدفن ذاكرته بيديه، انطلق تارك وراءه فراغاً أسود، امتد من الباب ولم يزل، كالنهر الذي يرسم مجراه في تراب الفناء.
عيناه تلتقيان بسحابة سوداء، ثم يبدأ بالعواء بصوت يشبه بكاء طفل، صوت يخترق ضجيج المطر، ويصعد كسهم نحو الغيوم، والسماء لا ترد إلا بمزيد من الدقيق الأبيض الذي يتحول إلى وحل أسود عندما يلمس الأرض، كأنها ترفض الاستماع أو كأنها تبكي معه بدموع لا تعرف الرحمة.
تبدأ آلة الكاتبة القديمة بالعمل مرة أخرى" طق... طق... طق..." لكن هذه المرة الكلمات التي تكتبها تشبه "النهاية... النهاية... النهاية...".
في الخارج كلب ضال يقف تحت المطر، يهز جسمه الرطب، قطرات الماء تطيرمن فرائه، كحروف متقطعة من قصيدة منسية تسقط على الأرض، ثم تذوب في الوحل، الكلب يستمر في العواء والآلة تستمر في الطباعة، والسماء تستمر في البكاء.
يقف بيت طيني صغير كحيوان جريح يرتجف تحت العاصفة، السقف يتسرب منه الماء كدمع ساخن، والأرضية من الطين تمتص كل هذه الآلام وتحولها إلى طين أكثر، الماء يتسلل من تحت الباب كسارق خفيف يحمل معه؛ صورة عائلية بالأسود والأبيض ممزقة إلى نصفين، بقسوة ذلك الصباح، تطفو الآن، وجه أبيه الباهت الذي غسله الماء، ووجه أمه، الذي حاول تمزيقه لكنه لم يستطع.
دمية محشوة بالقطن مبتلة ومشوهة ، تطفو كجثة صغيرة، عيناها الزرقاوتان تحدقان في السقف، تتساءلان لماذا أصبحت في هذا المكان.
والكلب لا يزال يهز جسمه كأنه يحاول التخلص من ثقل العالم، أو ربما يريد أن يرشق البيت بكل آلامه.
الفتى يختبئ في الزاوية يحاول أن يصغر حجمه، كأنه يريد الاختفاء في شق بين الجدار والفراش، عيناه تحدقان في الظلام تريان أشباح الكلمات الغاضبة تتصارع في الهواء، يداه ترتجفان وهو يرى الكلمات تتساقط من السماء مع قطرات المطر"النهاية" على ساق القصب، "النهاية" على سطح الماء، "النهاية" على ظهر الكلب، حتى ظله على الحائط بدا، وكأنه يكتب كلمة النهاية.
يسمع صوت أمه، تغنّي له داخل قلبه أغنية قديمة عن قصة فراق، هي نفسها الأغنية التي كانت تهمس بها وهي تودعه، مختنقة بالبكاء في هذه اللحظة يشعر أن العالم كله أصبح ورقة مبلولة تمزقت بإصبع قاس، الصورة الممزقة تسبح نحو قدميه، يلمس الوجه الأب الباهتة التي غسلها الماء، كأن المطر يريد محو الذاكرة أو ربما تجديدها، لكنه لا يمحو سوى ملامحهما، تاركاً الجرح نفسه، وأن الأصوات كلها تتحول إلى طنين المطر الذي لا ينتهي
رسول يحيى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق