الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025

المعلم القدوة بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل من العلم نوراً نهتدي به، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المعلم الأول، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد

إن الكلمات لتعجز عن وفاء حقِّ مَنْ نَزَلُوا من قلوبنا منزلةَ الأب الروحي، والناصح الأمين، والصديق الوفي. وإنه ليعزُّ عليَّ أن أُقدِّم هذا المقال المتواضع "المعلم القدوة" دون أن أتقدم بأصدق عبارات الشكر والعرفان بالجميل لأستاذي الفاضل الدكتور بشارة مرجية، الذي كان بحقٍّ النبراس المنير، والعلم الشامخ، الذي استقيتُ من معين علمه الفياض، وتشبثتُ بأخلاقه السامقة. فما كانت هذه السطور لتُكتب لولا فضله أولاً، ثم توجيهاته السديدة، وحكمته التي لا تنضب.

كما أتوجه بالشكر الجزيل لمعلمي الفاضل الأستاذ صبحي سرحان، الذي كان مثالاً للعطاء والتواضع، ففتح لي أبواب الفكر على مصاريعها، وزرع في نفسي ثمار الثقة والإيمان بقدراتي، وكان بحديثه وسلوكه خيرَ قدوةٍ ترسخ في القلب قبل العقل.

لقد كان هذان الأستاذان الجليلان تجسيداً حياً لمعنى "المعلم القدوة"، فلم يقتصر عطاؤهما على نقل المعرفة فحسب، بل غرسا القيم، وصقلا الشخصية، وأسهما في صياغة الوجدان. فهما من بناة الأجيال، وصناع المستقبل، وحملة مشاعل النور في دروب المعرفة.

فإليهما حفظهما الله أهدي هذا الجهد المتواضع، عسى أن يكون جزءاً من وفاءٍ ببعض حقهما عليّ، وشهادةً أقدمها للعالم بأن خلف كل عقل مستنير، وكل نفس زكية، معلمٌ قدوةٌ ترك بصمته في الروح قبل العقل.


المعلم القدوة



في رحاب الحياة مواقفَ تُشبه النورَ الذي ينبعث فجأة في ظلمة الليالي الحالكات، تُغيّر من مسار الوجود، وتُعيد صياغة النفس، وتكشف عن كنوز كانت خافية في أغوار العقل والروح. وإن أعظم هذه المواقف قدراً، وأسماها مكانة، تلك الصداقة الناضجة التي تنشأ بين التلميذ وأستاذه، لا على وتيرة التلمذة والتلقي فحسب، بل على نسق النديّة الفكرية والوئام الروحي. حين تتحول العلاقة من ناقلٍ ومنقول إليه، إلى حوارٍ بين روحين، وتعاونٍ بين عقلين، وارتقاءٍ بمعاني الإنسانية إلى أسمى مراتبها.

لقد منّ الله تعالى عليّ بأن تكون لي هذه الصداقة الوثيقة مع أستاذي الجليل، حامل لواء اللغة العربية، ذلك العالم الرباني الذي أضاء بمعرفته عقلي، وبأخلاقه قلبي، وبحكمته روحي. فلم يكتفِ -أطال الله في عمره- بأن غرَس فيّ حُبَّ اللغة وآدابها، بل تجاوز ذلك إلى أن جعل من نفسه نبراساً أهتدي به، ومثالاً أعلى أحتذيه، ومنارةً تهتدى بها سفينتي في بحور الحياة المتلاطمة. إنه بحقّ المعلّم القدوة، فما أجمله من عنوان، وأعظمه من مقام!  

إنه بحقّ المعلم القدوة، ذلك العنوان الذي تتضاءل دونه العناوين، وتنحني إجلالاً لديه الألقاب. فما أعظمه من مقام، وما أجلّه من شأن! إن المعلم القدوة ليس ذلك الذي يُلقّنك المعلومات فحسب، بل هو الذي تُعلّمك حياته قبل علمه، وأخلاقه قبل منطقه، وصمته قبل نطقه. هو الذي ترى المبادئ التي يتحدث عنها مجسَّدةً في سلوكه، والقيم التي يدعو إليها نابضةً في تعامله، والحكمة التي ينشدها متجسدة في مواقفه. كالشجرة الطيبة التي لا تُعطيك ظلاً وَارفاً فحسب، بل تمنحك ثمراً طيباً شهيا، وعطراً يفوح في كل مكان.

لقد رأيتُ في أستاذي تجسيداً حياً للأصالة والمعاصرة، فهو كالبحر الزاخر بعلم القدماء، لا يُعجزه أن يسبح بفكره في آفاق العصر الرحيبة. يحمل تراث الأمة كما يحمل هموم حاضرها، وينظر إلى المستقبل بعين الواثق من ربه، المؤمن برسالته. في حوارنا الأدبي والثقافي، كان يسمع بروحه قبل أذنيه، ويحاور بعقله قبل لسانه، ويناقش بقلبه قبل حجته. يُناقش لا ليُظهر فضلاً، بل ليستنير معي إلى الحقيقة. ويشكر للصواب إذا أصبت، فكان في ذلك أعظم درسٍ علّمني تواضعَ العلم، وسموَّ الأخلاق، وجمالَ الاعتراف بالحق.

كم أذكر تلك الليالي الثقافية التي كنا نتذاكر فيها الشعر، ونحلّق في البلاغة، ونناقش قضايا النقد الحديث، فكان يفتح لي أبواباً من الفكر لم أكن أعرف لها مفتاحاً. كان يزرع فيّ الثقة، ويشجعني على الاجتهاد، ويوجهني برفق الأب ونبل الحكيم. لقد علمني أن القدوة لا تُعطى بالوعظ، بل تنتقل بالقدْر نفسه من السلوك، كالعطر الذي لا يملك إلا أن ينشر أريجه على مَنْ حوله.

إن المعلم القدوة كالنهر العظيم، يعطي ولا ينتظر العطاء، يفيض بالخير ولا ينضب معينه، يروي الظمآن ويسقي الأرض العطشى، ثم يمضي في طريقه متواضعاً كأنه لم يفعل شيئاً. إنه كالشمس التي تشرق على الجميع، لا تفرق بين غني وفقير، قوي وضعيف.

فاللهم احفظ لي أستاذي، وأدم عليه نعمة العطاء، واجزِه عني خير ما تجزي معلماً نَزَلَ من نفس تلميذه منزلة الأب الروحي، والأخ الكريم، والصديق الوفي. إنه نبعٌ لا ينضب من العطاء، وشمسٌ لا تغيب عن سماء التربية والتعليم، ونورٌ يهدي السائرين في ظلمات الجهل والضلال.

فطوبى لمثل هذا المعلم، الذي إذا رحل عنك بجسده، ظلّ حياً في عقلك، نابضاً في ضميرك، دليلاً لك في ظلمات الحياة، وسراجاً يُضيء لك الطريق. أولئك هم صنّاع الرجال، وبناة الأجيال، وعماد الأمم. أولئك هم المعلمون القدوات، فحقّ لهم علينا أن نُحييهم بقلوبنا قبل ألسنتنا، وأن نَرْفَع لهم قبعات الإجلال والإكبار إنهم بناة الحضارة، وحماة الثقافة، وحراس الأمة. فهم خزائن العلم، ومنارات الهدى، ومصابيح الدجى. بهم تقوم الأمم، وعليهم تُبنى الحضارات، وبهم ترتقي المجتمعات. فهم كما قال الشاعر: قم للمعلم وفّه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا

 اللهم اجعلنا من الشاكرين، واجعلنا من المتعلمين، وارزقنا أن نكون قدوةً لغيرنا كما كانوا قدوة لنا. إنك سميع مجيب

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

21/10/2025  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق