** (( جرح الكرامة ))2
- سلسلة قصص عن أبي -
قصة: مُصْطَفَى الحَاجّ حُسَيْن.
نام أبي في دار عمّه، الحاجّ (حسن)، عند أُختَيّه. حدّثهم في الأمر، ورفض تناول طعام العشاء.
وكانت ليلةً صعبةً جدّاً على أبي، وعلى أُمّي، التي لم تجرؤ على أن تُحدّث أهلها في الأمر؛
ذلك لأنّ (جدّي عُبَيْد)،
لو عَلِمَ أنّها خرجتْ من دارِ زوجِها مَطْرودة،
وفي الليل، لرَفَضَ أن يُعيدها إلى هذه الدّار، مهما صار.
فقد كان شديدَ العصبيّة،
ويُحبُّ أُمّي كثيراً، فهي أُولى أولاده، وأغلى من جميع إخوتها وأخواتها.
ثمّ إنّه كان قد نَدِمَ على تزويجها، بسبب مرض (جدّتي عَيّوش).
وكان جدّي (عُبَيْد) سعيداً، لأنّه ظنّ أن والدتي جاءت زيارة،
لتكون إلى جانب أُمّها المريضة.
وظلّ جدّي (عُبَيْد) ثلاثة أيّام لا يعرف الحقيقة،
لأنّ أُمّي خَشِيَتْ أن يعرف
ويَغْضَب، ويَمنعَها من العودةِ إلى أبي، الذي كان يتحرّق شوقاً لِيَراها،
ويَعرِفَ أخبارها، ويَرَى ابنه (سامي)، الذي سمّاه على اسمِ أخيه، الذي سبقهُ إلى هذه الدّنيا،
لكنه ماتَ بعد أن صارَ عمرُه سبعةَ أشهر، وأخذَ يحبو في أرضِ الغرفة،
والدّار، وبيتِ القعدة.
ولكن اعترضه مرضٌ مُفاجئ، فمات. وكم بَكَتْهُ أُمّي، وجَدّتي (صَبْرِيّة)،
وأبي، وعمّتي (حَميدة)،
وعمّي (عُمر)،
حتّى إنّ جدّي (سامي) بَكاه في اليوم الأوّل،
حينَ حملوه للدفن، عمّي (سعيد)، وأبي، وعمّي (عُمر)، وأبناءُ عمِّ أبي، صديقيه: (ياسين) و(حُسَيْن الصالح)،
اللذَينِ لا يُفارِقانه، لا في الشّغل، ولا في أيّامِ العُطَلِ القليلة.
أمّي أوصَت أُمّها، وأُختَها (ساميّة)،وشقيقَها (عَبْدو)
أن يُخفوا أمرَ طردِها، وطردِ زوجِها – والدي –
عن أبيها، تَحسُّباً من عصبيّتِه، ونَزَقِه النّاريّ.
لكنَّ جدَّها الحاج (حسن)،
والدُ جدَّتي (عيوش)،
لم يكن على معرفة بكتمانِ هذا الأمر، عن صِهرِه، والدِ أُمّي، جدّي (عبيد).
فجاء لزيارتهم فجأة،وكان يُحبّ صِهرَه، وجدّي بدوره، يُحبّ ويَحترم ويُقدّر حَماه، والدَ زوجته، الحاج (حسن).
وبعد أن قدّمت أُمّي قَدَحَ الشّاي السّاخن إلى جدِّها،
وأرادت أن تهرب إلى المَطبخ، بحُجّة أنّها مشغولة، استوقفَها جدُّها قبل أن تخرج.
وكانت قد فتحت باب الغرفة لتغادر، فقال لها:
– اِصبري يا (زينب)... أخي (سامي، أبو حسين) المجنون، حسابه عسيرٌ عندي!
عَيْبٌ عليه أن يطردَكم من داره، لسببٍ تافهٍ وبسيط!
ثمّ ما ذَنبُكِ أنتِ وطِفلكِ؟!
..هذا الموضوع بينه وبين ابنه!
وهنا... وبعد أن سمعَ جدّي (عبيد) هذا الكلام، تغيّرَ لونُ وجهه، وحدّق بجدّتي، ثمّ بابنته، أُمّي،
وسألَ بصوتٍ حانقٍ، مُرتَعِش:
– خير؟!.. ما الأمر؟!.. أفهموني القصّة! أهناكَ مشكلةٌ، وأنا لا أعرفها؟!
تجمّدت أُمّي في وقفتِها عندَ الباب، وانتابت جدّتي حالةُ سُعالٍ شديدة، وفغرَ أخي (سامي) فمَهُ، ببكاءٍ حادّ.
وأدركَ الحاج (حسن) بأنّه تكلّم عن شيءٍ مخفيّ،
لا يعلمُه صهرُه، فأخذَ يُفكّرُ كيف يُنقذُ الموقف.
وحينَ بكى أخي، وجدَها فرصةً لتهدئةِ جدّي،
الغاضب، الحائر، والمنتظرِ جوابًا... فقال، الحاج (حسن)، ليقطع الكلامَ على صهره:
– خُذي ابنَكِ يا (زينب)... وأرضعيه.
وتحرّكت أُمّي، وكأنَّ الفرجَ أتاها، لكنَّ جدّي أوقفَها صارخًا:
– قبل أن تُرضعي ابنكِ... جاوبيني!.. هل جئتِ لعندي مطرودة؟!
بذلَ الحاج (حسن)، وجدّتي (عيوش)، جهودًا جبّارة في محاولتِهما تهدئةَ فَورانِ دمِّ جدّي (عبيد)، الذي وقعَ عليه خبرُ طردِ أُمّي، وفي الليل، مع رضيعها، من بيتها،
كالصّاعقة!
ولماذا؟!
لسببٍ ليس لها فيه أيّ دخل، لا من قريبٍ، ولا من بعيد!
وكان يُحَدِّقُ بعينيهِ الواسعتين،. ويُردِّدُ بانشداهٍ وذهول:
– أنا ابنتي تُطرد من بيتها!.. وكأنها امرأةٌ عائبة؟!!
هل نسيَ (سامي الحاج حسين) مَن تكون ابنتي هذه؟!!
أقسم... واشهدوا أنتم عليّ...
لن يمرّ هذا الأمر بسهولة!..
لا زوجةَ لابنه (محمّد) عندي بعد اليوم!..
فمن لا يستطيعُ الدفاعَ عن امرأته، لا يستحقُّها...
حتى لو كان من يفعلُ بها هذا، أبوه!.
ثمّ صاحَ بأُمّي، بأعلى صوته، وكانت أُمّي تجلسُ في الرُّكن، ملتمّةً على نفسها، وتُرضعُ أخي (سامي).
الذي سبقني إلى هذه الحياةِ القاسية، والدّمعُ المحبوسُ في عينيها العسليّتَين، يموجُ كبحرٍ هائجٍ، فصاحَ جدّي (عبيد) بغضبٍ شديد:
– ولِماذا لم تُخبريني أنّكِ عدتِ لعندي مطرودة؟!
ثلاثة أيّام وأنتِ عندنا، وأنا لا علم لي!
وهل قلتِ لأُمّك؟!.. أم أيضًا أخفيتِ عنها الأمر؟!
يا ابنة الكلب!.. والله لأكسّر ضلوعك!
كانت جدّتي تُناول والدها الحاج حسن سيجارة،
وتُشعل أخرى، وتمدّ بها يدها إلى جدّي (عبيد)...
ووالدها، الحاج حسن،
الذي يكنّ لجدّي كلّ المودّة والاحترام،
كاد يخونه الكلام، وهو يُخاطب جدّي الثائر،
من أجل كرامة ابنته،
التي تُمثّل في النهاية كرامته:
– طوّل بالك يا (أبو عبدو).. الدنيا ما خربِت!..
وأخي (سامي)، هو صديقك، وحبيب قلبك...
نسيت؟!.. ولا أذكّرك؟
لكنّ جدّي (عبيد)، زَعَقَ، ولم يكن الغضبُ قد فارقه...
– لم تَعُدْ له مكانةٌ عندي، بعد اليوم!
وتناهى للجميع طرقٌ خفيفٌ على بابِ الدّار...
فَتَطَلَّع جدّي (عبيد) إلى خالي (عبدو)، فنهض خالي، ابنُ السّادسة عشر،
وأسرع ليفتح الباب.
القادم كان خالُ أُمّي (ياسين)، وبصحبته أبي،
كانا قد أرادا استغلال وجود الحاج حسن (جدّ أمّي)، فتشجّع والدي،
وطلب من ابنِ عمّه (ياسين) (وهو شقيق جدّتي)، أن يُرافقه، ليرى أُمّي وأخي.
لكنّ خالي (عبدو)، استقبلهما استقبالًا سيئًا، وغيرَ مناسب، حين وجدَ أبي أمامه، فتغيّرتْ قسمات وجهه، وصاح:
– ولكْ! وجه أبيض حتّى تجي لعندنا وتقابلنا فيه؟!.. اِنقلع!.. لا تدخل لعندنا!.. نحن لا نعرفك، ولا بنتشرّف بمعرفتك!..
يا عديم الرجولة!
وحاول (ياسين)، خالُ خالي، أن يُهدّئ من غضب ابنِ أخته، فوضع يده على فمه، ليسكته، بينما يقول:
– صَلِّي على النبي يا (عبدو)، وطَوِّل بالك.
وهنا خرج جدّي (عبيد)، والحاج (حسن) إلى خارجِ الدّار، بينما وقفت النّسوةُ خلفَ الباب،
يستمعنَ، وقلوبُهُنَّ تنبضُ بالخوفِ والتوتّرِ الشّديدين.
أيضًا، كان استقبالُ جدّي لأبي مشابهاً لاستقبالِ خالي، قالَ ساخرًا:
– أهلًا وسهلًا!.. أخيرًا أتيت؟!.. الحمد لله على السّلامة!.. زوجتك وابنك بانتظارك!
حاولَ الحاج (حسن)، وابنه (ياسين)، أن يُهدّآ الأمر، وحاول أبي أن يعتذر، ويشرح، فهو أيضًا مغلوبٌ على أمرِه.
وقال (ياسين):
– يا جماعة، ادخلوا إلى الدّار، وتفاهموا.. صوتكم جمع علينا الجيران!
لكنّ جدّي (عبيد) زعق:
– لا دَخْلَة له إلى بيتي!
واقترح الحاج (حسن) أن يذهبوا لعنده، في داره القريبة، فرفض جدّي بحزمٍ وقوّة:
– لا تفاهمَ بيننا، كانت له زوجةٌ عندي، وطُردوها... وهي الآنَ عندي... ولن تعود!
وصاح أبي بجنون:
– وابني؟!.. أعطوني الولد!.. قَسَمًا أرتكبُ جريمةً بمن يمنع عنّي ابني (سامي)!
والتَمَّ الناسُ من كلّ الجهات، وفُتحت أبوابُ الدّور، واسترقتِ النّسوةُ النّظرَ من على الأسطحة،
ووصل (أبو حسن) زوج عمّتي (فطمو)، وأخوه (سلمو)، زوج عمّتي (صبحيّة)، وكان الجميع في حيرةٍ: فلمن يُساندون
؟!
ذاك صِهرهم، وابن أختهم،
وذاك ابن عمّهم، وشقيق زوجاتهم، ثمّ إنّه صانعهم
في شغلهم في العمارة.
وتهجّم خالي على أبي، وأراد ضربه، فأمسكه أبي من عنقه، ولواه، وتعالت وَلْوَلةُ النّساء، وحاول (سلمو) فَكَّ عنقِ خالي من يدي أبي، فاستجاب له أبي، لأنّ (سلمو) له هيبةٌ عنده.
وهجم جدّي ليدفع أبي بيديه، فدفعه سَلْمو بقوّةٍ في صدره، وصرخ:
- مَن يتطاول على ابنِ عمّي، لن يجدني ساكتًا! الزموا حدَّكم!
وأدرك كلٌّ من جدّي وخالي، أنّ سَلْمو يقف إلى جانبِ أبي، وكانوا
يخافونه، وإن سانده، سيقِفُ إخوتُه معه.
وتعالى صراخُ أُمّي، وخالتي (ساميّة)، من الدّاخل، وكان الصّوتُ يأتي قريبًا من وراء الباب.
دفعَ خالي الباب، وتبِعَهُ جدّي، ثمّ (الحاج حسن)، وجميعُ أولاده.
فقط من ظلّ مُسمَّرًا في الخارج، هو أبي.. لقد وجَدوا جدّتي (عَيوش)، التي كانت تشكو من أمراضٍ مُزمِنة، قد سقطت مغمًى عليها.
جميعُ الوساطاتِ باءت بالفشل، مع جدّي (عبيد)، ظلّ مُصمِّمًا على حرمانِ أبي من أُمّي وأخي...
بذل (الحاج حسن) كلَّ جُهوده.. وكذلك الأمر زوجُ عمّتي (أبو حسن)، وأيضاً (سَلْمو).. حتّى إنّ (ياسين)، لم يُقصِّر، كانت له محاولاته.
كانت جدّتي (صبريّة)، أُمُّ أبي، ترجُو جدّي (سامي)، أن يذهبَ لعندِ جدّي (عبيد)، صاحبِه السّابق، وأن يعتذرَ منه، ويُعيد أبي وأمّي إلى الدّار، ويُنهي هذه القِصّة، التي هي من الأساسِ لا معنى لها، ولا طَعم.
فيغضبُ جدّي منها على هذا الكلام، ويقول بانزعاج:
- عصيانُ ابني، وعدمُ احترامه لي، وتمرّده على كلامي، واستهتارُهُ بمكانتي، وأمامَ الناس!.. كلُّ هذا تُسمِّينه "لا معنى له، ولا طَعم"؟! ماذا بقي أكثر من هذا ليفعلهُ بحقّي؟!
ذهبتْ جدّتي (صبريّة) إلى دارِ جدّي (عبيد)، بمفردِها، بعد أن يئستْ من مجيء جدّي (سامي) بدلاً عنها.
قبَّلتْ أُمّي يدَها، غارت جدّتي على أخي (سامي)، لتُشبِعهُ قُبلاً، وشمّاً، وضَمّاً.
بَكَتْ أُمّي، وتَرقرقت دموعُ جدّتي، واحمرّ وجهُ جدّتي (عيّوش)، وشحَبَ وجهُ خالتي (ساميّة).
حين انتقلتْ جدّتي (صبريّة) إلى الغرفةِ الثّانية، لتُحادثَ جدّي (عبيد) بشأنِ أُمّي، وبعد أن سلّمت عليه، قالت تُخاطبه:
- أنا طامعةٌ بكَرمك، وطيبةِ قلبك، يا (أبو عبدو).. والله نشف قلبي من ابتعاد حفيدي (سامي) عنّي.. انهِ لنا هذه القصة.
وانتفضَ جدّي يسأل، والعصبيّةُ قد ركبَته:
- هل أنا من أبعدتُ حفيدكِ عنكِ؟!.. أم (أبو حسين)، زوجكِ ابن الأصول؟!.. بارك الله فيه، وبفهمه الواسع!
تضايقتْ جدّتي من تهكّمِ جدّي (عبيد) على أصولِ جدّي (سامي) الآخر، وفَهمه القليل.. لكنّها
حاولتْ أن تتماسك، وتضبطَ نفسَها.. وابتسمتْ مُجاملة، لِيَعطِفَ قلبُه، وقالت:
- سألتُكَ بحقِّ سيّدِنا محمّد، أن تسمحَ لـ(زينب) بالعودةِ معي.
وجمَ جدّي بُرهة، ثمّ سأل:
- لمَ لَمْ يأتِ بسلامته معكِ؟!.. أم أنّه لا يسترضي؟!.. نعم، يحقّ له (ابن السّكران)، فهو ابن (الأغا).. ليس بمستواي، أن يتنازل ويأتي لداري!
سارعتْه جدّتي، بالقول:
- لا تُنكر صداقتَكم.. أنتم إخوةٌ وأحباب.
- كنّا أصدقاء.. أمّا الآن، فلا كلامَ له معي أبداً.
عادتْ جدّتي إلى الدّار، باكيةً.. توسّلتْ لجدّي (سامي)، ورجَتْهُ أن يذهبَ ويُعيد أمّي، وحفيدَها، وأبي.. إلى الدّار.
وكان جدّي يُعاند، ويُكابر، ويرفض، ويُقاوم دموعَ قلبِه.. ثمّ انفجرتْ بوجهِه، قائلة:
- أنت لا تعرف قيمةَ ابنِنا (محمّد).. اُنظر حولك إلى الشّباب، الذين هُم من عمرِه.. ابنُنا مَلاكٌ مقارنةً بهُم، يعملُ في كلِّ الأيّام، لا يردّ عليكَ بكلمة، مُهذّب، ويَحترمُ الجميع، لا يُدخّن أمامك، وصار عنده ولد، لا يُحشّش، ولا يسكر، ولا يرتكبُ الحرام.. ماذا تريدُ منه أكثرَ من هذا؟!
أولادُ أخيكَ الحاج(صالح) لا يُعطون أباهم قرشاً واحداً من أجورهم.. حتّى أبناءُ أخيك (الحاج حسن)
، كم يدفعون لأبيهم؟!.. أنتَ ظالمٌ، وأنانيّ، تُحبّ نفسَكَ فقط.. وأنا، والله، إن لم يَعُد (محمّد)، و(زينب)، وابنهما (سامي) إلى هذه الدّار، سأتركها لك، وأذهب لعند إخوتي!
كان جدّي يسمعُها، وعلى شفتيه شبهُ ابتسامةٍ ساخرة.. وحين انتهتْ من كلامها، مسحتْ بكُمّها دموعَها، ونهضت لتغادر الغرفة (القبليّة).
قال جدّي:
- أَبعدَ هذا العُمر..تتركينني يا (أمّ حسين)؟!..والعِشرة التي بيننا.. أين ذهبت؟!
وجد جدّي نفسه مُضطرّاً أن يسعى لإعادة أبي، وكنّته، وحفيده، إلى داره.. فذهب إلى دار أخيه (الحاج حسن)، وأرسل بطلب أخيه الثاني، (الحاج صالح)، ووالديه..
ولمّا اجتمعوا، طلب منهم مرافقته إلى دار جدّي (عبيد) لإعادة أُمّي.
وهنا دخل أبي المجلس، وانحنى على يدِ والده، أمسك بها بصعوبة ليقبّلها، وليسامحه.. فأعطاه يده، دون أن ينظر إليه.
ذهبوا جميعهم برفقة جدّي (سامي)، و(الحاج حسن)، وأولاده الثلاثة، وأخيه (الحاج صالح)، وولديه (حسين) و(أحمد)
.. وأبي، وعمّي (عُمر)، وكان أصغرهم.
استقبلهم خالي (عبدو)، وأدخلهم إلى فِناء الدّار، المُزيّنة بأُصصِ الورد، المُتعدّدِ الألوان.. وخرج عليهم جدّي (عبيد) من غرفتِه، وملامحُ الجديّة والعبوسِ باديةٌ على قسماتِ وجهه الأسمر.
رَحَّبَ بهم باقتضاب،
صافَحَ جدّي برُؤوسِ أصابعِه، وتَحاشى أن يأخذَ يدَ والدي المُمتدّة...
ثمّ دعاهم للدّخول إلى الغرفة، ودخَلوا، ليأخذوا أماكنهم فوق اللّبَابيد، والسّجاد.
وبعد أن تمّت التحيّات المُتجهّمة، وتبادلوا علب السّجائر، ليدرجوا السّجائر، – وكانت فرصةً ليسودَ الصّمت – قام خالي بإحضار منافض السّجائر، وطافَ على الجميع بإبريق الماء، والكأس النّحاسي.
وأراد أن يتّخذَ مكاناً له، فبادَره جدّي آمراً:
– أوصِ لنا على الشّاي.
قال خالي:
– إنّها على (بابور الكاز).
وساد صمتٌ عظيم...
وباشرت السّبَحاتُ تعمل في الأيادي، وخرجَت المناديلُ البيضُ من
الجُيوب، لِتَمسَحَ الأنوفَ، والأفواهَ، والجِباهَ، والعُيون، والأوجُه،وانبعث
السّعال، والنّحنحات، والتّمخّط، والتّعطيس.
وبعدَ بُرهةِ صمت، تمّ إشعالُ السّجائر، نظَرَ (الحاج حسن)، مُبتسماً، يُريد أن يبدأَ الكلام، فهو كبيرُهم على أيّ حال،
قال مُخاطباً جدّي(عبيد):
– ها هو صاحبك (سامي)
، صديقك، وقد جاء إليك.
دَمدم جدّي (عبيد)، وما زالَ وجهُهُ يُحافِظُ على جفائهِ وعبوسه:
– أتطردُ ابنتي من دارك يا (أبو حسين)؟!.. ما كنتُ أتصوّرُ أن يَبدُرَ منك هذا!.
فقال جدّي (سامي)، وكان الارتباكُ قد رَكِبَ لسانه:
– لعنةُ الله على الشّيطان.
وارتفعَ صوتُ جدّي (عبيد) أكثر:
– المسألةُ بينك وبين ابنك!.. فما دخل ابنتي حتّى تطردها؟!.. وفي اللّيل أيضاً؟!.. ومع رضيعها؟!
فقاطعه العمّ (الحاج صالح)، علّه يُخفّف من غلوائه:
– قال لك: "لعنة الله على الشّيطان"... فلا تُكبِّر الموضوع يا (أبو عبدو).
– دعنا ننسَ هذه المشكلة
، فنحن أهلٌ وأحباب، وما صار ليس إلّا ساعةَ شيطان.
احتجّ جدّي (عبيد) أكثر، ورمى بسبحتهِ على الأرض، وهتف:
– بل سأُكبِّر الموضوع!..
ابنةُ (عبيد السَّمّور) لا تُطرَدُ من بيتها، في منتصفِ الليالي!.. ثمّ أنتم، ماذا تُريدون؟!.. أن أُرجِّع ابنتي للدار، التي طُردَتْ منها؟!.. هذا مُستحيل!
قال جدّي (سامي)، وكان قد زايله الارتباك:
– ماذا تُريد إذن، يا (أبو عبدو)؟!.. وما هو طلبك
؟!.. أخبرنا.. ها نحن كلّنا نسمعك... وحقّك على رأسي.
(ووضع يده فوق عقال رأسه).
كانت الشّاي قد وصلت،
ووضعها خالي على الأرض، وشرع يسكبها في الأقداح، وتصاعد بخارها.
فقال (الحاج حسن)، وهو يهزّ رأسه الأصلع، لأنّه كان قد نزع (طَربوشه) الأحمر عن رأسه:
– صلّوا على النّبي، يا جماعة... وتذكّروا من نكون نحن... نحن لسنا غُرباء، بل أقرباء، وأهل، وأصحاب، وأصدقاء...
لا تجعلونا نكون أضحوكةً للنّاس!
قال جدّي (عبيد)، بعد أن تناولَ قدح الشاي السّاخن
– أنا اتّخذتُ قراري، وانتهى الموضوع.
وانطلقت الأصوات:
– ما هو قرارك؟!.. أخبرنا.
تنحنحَ جدّي، وقال:
– إمّا الطّلاق... أو تسكن داراً لوحدها.
هذا الكلام زلزلَ الجميع...
ووقع كالصّاعقة على رأسِ جدّي (سامي)...
وفقدَ أبي صوابه، فهتف:
– ما هذا الكلام الذي تقوله، يا عمّي؟!.. أنا مستحيل أن أترك أهلي... أو أُطلِّق زوجتي!
نهضَ جدّي (سامي)، ونهضَ جميع من كان جالساً، وقال مخاطباً خالي:
– خُذْ لنا طريقَ الخروج.
ثمّ خاطب جدّي (عبيد)... وكان الانزعاج بادياً عليه:
– إن كنتَ تريدُ تعقيد الأمور، فأنتَ حرّ... اترك ابنتك عندك، واشبَعْ بها!..
أنا خلال أسبوع، أستطيع أن أُزوّج ابني.
صاح أبي، بانفعالٍ كبير:
- ولكن أنا لا أترك زوجتي
وأريد أن آخذ ابني
(سامي) الآن!
وتوالت ردود الأفعال من الجميع... الكلّ أخذ يعبّر عن استيائه، وغضبه، وعدم رضاه عن موقف والد أمّي...
وكانت المشكلة الأساسيّة هي القرابة التي تجمع بين عائلة أبي وعائلة أمّي... فجدّي، والد أمّي، يكون زوج ابنة (الحاج حسن).. يعني أخت (أبو حسن)، و(سَلمو)،
و(ياسين)... وتكون ابنةَ أخ الحاج (صالح)، وجدّي (سامي).
ولو لم يكن الأمر كذلك...
لكانت السكاكين،والخناجر
، والعصيّ، والأيادي،
أخذت دَورها في هذه الحالة!..
لكن (الحاج حسن) طلب من الجميع:
الصمت... والخروج...
وترك الموضوع للعقل، والحكمة، وطولة البال.
موضوعٌ تافهٌ وبسيط...
لا يستحقّ التوقّف عنده...
فجّرَ مشكلةً كبيرةً، صار من الصعب حلُّها، واستيعابُها.*
مصطفى الحاج حسين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق