الاثنين، 20 أكتوبر 2025

حِرَفِيُ الكلماتِ يَخلِقُ عالمًا مُمَيزاً بِفَنِ الكِتابَةِ (2) بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 حِرَفِيُ الكلماتِ يَخلِقُ عالمًا مُمَيزاً بِفَنِ الكِتابَةِ (2)

ها أنا ذا أخطُّ بِقلمي هذه الكلمات، وأنا أتأمّلُ في عَجَبِ هذا الكونِ الورقيّ الذي نخلقُه من لا شيءٍ سوى حروفٍ هجّاء، تتشكّلُ كالطّينِ بين أصابعِ الكاتبِ، فتُصبحُ تماثيلَ من نورٍ أو من ظلام، تبني قِصَصًا، تخلعُ من الأساطيرِ أرديةَ الخلود، وتجعلُ من الواقعِ حُلُمًا، ومن الحلمِ واقعًا.

إنّ الحرفَ، في أصله، هو رمزٌ صامت، رسْمٌ لا روحَ فيه، لكنّه حين يقعُ في يدِ الأديبِ، يصيرُ كالنّغمَةِ في يدِ الموسيقيّ، أو كاللّونِ في ريشةِ المصوّر. إنّه اللّبنةُ الأولى في بناءِ عالمٍ موازٍ، قد يكونُ أوسعَ من دنيانا هذه، وأكثرَ سحرًا، وأعمقَ غَوْرًا. فالكلمةُ ليستْ إلاّ حروفًا مجتمعة، ولكنّها تحملُ في طيّاتها قوّةَ الخلقِ والإبداع.

أتَرَونَ؟ ها هي الحروفُ تتهادى كاللّآلئِ في عِقدٍ، فتُكَوّنُ كلمة، ثمّ تتناسقُ الكلماتُ كالنجومِ في مجرّة، فتُؤلّفُ عبارة، ثمّ تتراصُ العباراتُ كأمواجِ البحرِ، فتصنعُ نَصًّا. والنّصُّ هو العالمُ المصغّر، فيه السّماءُ والأرض، فيه البَشرُ والشجرُ، فيه الحبُّ والحرب، فيه الحياةُ والموت.

والكاتبُ الحقيقيّ هو ذلك الساحرُ الذي يستطيعُ أن ينفخَ الرّوحَ في هذه الحروفِ الجامدة، فيجعلُها تتحرّكُ، تتكلّم، تضحكُ، تبكي، تحبّ، تتألّم. هو الخالقُ الذي يصوغُ من طينِ اللّغةِ كائناتٍ تخلّدُ في الذاكرة، وشخوصًا تُصاحبنا كأصدقاءٍ أوفياء، وأماكنَ نعرفُها كبيوتٍ ولدنا فيها.

وما أروعَ تلك اللّحظةَ التي يتحوّلُ فيها الخيالُ إلى كلمات! حين ينسابُ المعنى في القالبِ اللفظيّ، فيأخذُ شكله الأخير، كالرّوحِ في الجسد. عندها يصيرُ للحرفِ بريق، وللكلمةِ طعم، وللعبارةِ لون، وللنّصِّ عطر. عندها يصبحُ للصمتِ صوت، وللصوتِ صدى، وللصدى دوي.

والكتابةُ الأدبيةُ خاصّةً هي رحلةُ استكشافٍ في أعماقِ اللّغةِ وأعماقِ النّفسِ معًا. هي غوصٌ في بحرِ الذاتِ والذوات، بحثٌ عن الجمالِ والحقيقة. هي محاولةٌ لالتقاطِ الومضاتِ الخاطفةِ في العقلِ والقلب، وتثبيتها على الورقِ قبل أنْ تطير. هي ترجمةٌ للمشاعرِ التي تعجزُ الألسنُ عن النطقِ بها، والأعينُ عن رؤيتها، والأذانُ عن سماعها.

فيا له من سحرٍ هذا الذي تملكه الكلمات! إنّها قادرةٌ على أن تحملنا إلى عوالمَ لم نعرفها، وأن تُعيدَ إلينا ذكرياتٍ نسيناها، وأن توقظَ فينا مشاعرَ كنّا نجهلها. إنّها الجسرُ الذي نعبرُ عليه إلى عقولِ وقلوبِ الآخرين، دون أن نبرحَ مكاننا.

فإذا كانتِ الكلماتُ هي التي تخلقُ هذا العالمَ المميّز، فإنّ الكاتبَ هو الإلهُ الصغيرُ في هذا الكونِ المصغّر. يمنحُ الحياةَ، ويُميت، يبني ويهدم، يضحكُ ويبكي. إنّه يمسكُ بيديه خيوطَ الأقدار، ويحيكُ من الحروفِ مصائرَ الشخصيات، ويصنعُ من الألمِ جمالًا، ومن الفرحِ حكمة.

فاحترموا الكلمةَ، أيّها السّادة، فإنّها روحُ الحضارة، وذاكرةُ الأمم، ونبضُ القلوب. واحترموا قائلها، فإنّه يرسمُ لكم بأحرفِه أبعادًا أخرى للوجود، يفتحُ لكم نوافذَ في الجدران، ويصنعُ لكم من الحبرِ ضياء.

والحمد لله الذي خلقَ الإنسانَ علّمَه البيان، وجعلَ للكلمةِ سلطانًا لا يُقهَر، ووهبنا القلَمَ لِنُدوّنَ بهِ خلودًا نُشاركُ بهِ العالمَ في فرحِه وحزنه، ونكتبَ لِأجيالٍ لم تولدْ بعدَ، دروسًا من حياتنا، وأحلامًا من خيالنا.

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

7/09/2025  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق