حِرَفِيُ الكلماتِ يَخلِقُ عالمًا مُمَيزاً بِفَنِ الكِتابَةِ (1)
في زمن تضج فيه الفضاءات بالكلمات العابرة، وتتحول الكتابة إلى مجرد نقل للمعلومات أو سرد للأحداث، يبرز كاتبٌ مختلف. إنه ليس مجرد ناقل لأفكار، أو راوٍ لأحداث، بل هو حرفي بارع، يحمل قلمه كما يحمل الصائغ أداته، لا ليكتب فقط، بل ليصوغ وينحت ويخلق عالماً من الجمال والفكر.
صاحب هذا القلم لا يرى الكلمات حروفاً سوداء على صفحة بيضاء، بل يراها كتلًا من الذهب الخام، فيها البريق الخافت والصدأ والجوهر الثمين. تأتي مهمته الأولى في انتقاء أنقاها وأصفاها، فيغربل المعاني ويختار الألفاظ بدقة متناهية، وكأنه يغسل الرمال بحثاً عن ذرات الذهب اللامعة. فهو لا يرضى بالتقريب، بل يبحث عن الكلمة التي تحمل الظل والنور، الدقة والشاعرية، في آنٍ معاً.
إنه حرفي لأن كتابته ليست مجرد إلهام عابر، بل هي مزج دقيق بين العلم بالفن والموهبة الأصيلة. إنه يدرس بناء الجملة كما يدرس المهندس قوانين الهندسة، ويعرف مواطن الجمال فيها كما يعرف الموسيقي النوتات والسلم الموسيقي. موهبته هي الشرارة، ولكن وعيه باللغة وقواعدها وفنونها هو الوقود الذي يغذي هذه الشرارة لتصير ناراً متقدة تنتج نصاً متين البناء، رصين الأسلوب، أخاذ الجمال.
وهو أيضاً صائغ لأن عملية الصياغة عنده لا تقل أهمية عن المادة الخام. يجلس إلى طاولته وكأنه أمام منضدة العمل، فيبدأ بطرق الكلمات وتليينها وربطها ببعضها في سلاسل من الجمل المتدفقة. يضع الفكرة في بوتقة التأمل، ثم يصهرها بروحه وفكره، لتصبح شيئاً جديداً، يحمل بصمته الخاصة. التشبيهات عنده ليست زخرفة، بل حِرفٌ دقيقة تُلحم في النص لتعطيه متانة وجمالاً. والاستعارات هي الأحجار الكريمة التي يضعها في المكان المناسب لتعكس الضوء على المعنى من زوايا متعددة.
ولا يقف عطاء هذا الحرفي عند حدود الأصالة والجمال اللغوي فحسب، بل يتميز بوعي عميق بالمعاصرة. إنه لا يعيش في برج عاجي منعزل عن هموم عصره وإيقاعاته. يحمل قلمه كمرآة تعكس واقع الناس بألمه وأمله، ولكنها لا تقف عند الانعكاس، بل تنفذ إلى الأعماق لتكشف عن الأسرار والتناقضات. إنه يكتب بروح العصر، بلغة العصر، من دون أن يفرط في أصالة لغته أو يخون جماليتها. إنه يبني جسراً متيناً بين تراث اللغة الثري وبين أسئلة الحاضر الملحة، مقدماً إجاباتٍ أو على الأقل إضاءاتٍ تستحق التأمل.
لذلك، عندما تقرأ لصاحب هذا القلم، لا تشعر أنك أمام معلومات جافة أو مشاعر عابرة، بل تشعر أنك أمام تحفة فنية مكتملة الأركان. كل كلمة موضوعة في مكانها بدقة، كل جملة تؤدي دورها في السيمفونية النصية، والفكرة تتوهج كجوهرة مصقولة تدهش العقل والقلب معاً.
في النهاية، صاحب هذا القلم هو ذلك الفنان الذي أخلص لحرفته، فرفعها من مجرد كتابة إلى مستوى الصياغة، ومن مستوى التأليف إلى مرتبة الإبداع. إنه يؤمن أن الكلمة مسؤولية وجمال، وأن القلم أداة بناء لا مجرد أداة تسجيل. وهو بهذا، يستحق حقاً لقب حرفي الكلمات البارع.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
27/08/2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق