السبت، 1 يوليو 2023

ميّت حي ـــــــــ شفيق بن البشير غربال


 " ميّت حي " أو حكاية صفاقسية

قلت له : لم أدر كيف أدخل للكتابة عن الرواية . فأرشدني بتلقائية ضاحكة : ادخل من باب الحكاية الصفاقسية .. وكانت المشورة الصائبة .. إذن رواية " ميّت حيْ " للكاتب محمد معلّى هي حكاية صفاقسية مَتْنًا وحوارا و أسلوب عيش . شخوصها من الواقع المعيش : حفار قبور ابن حفار قبور مكافح ، و زوجةٌ أسرت قلبه حبيبة ٌمؤازرة ، و أب / حمٌ راعى الله في كنّة منكوبة في أبيها أنزلها منزلة تفوق منزلة بناته ، و صديق محامٍ هو الوحيد الذي كان يزوره بمسكنه بالمقبرة بصفته حارسا لها ، و حلاّق ثرثار بطبعه يتحول دكانه الى مجلس للتحاور إلى حدّ الجدل في شؤون كرة القدم و السياسة و أخبار المجتمع ، و مقاول هو عرف المِختار حفّار القبور وهو شخص رأسماليّ استغلاليّ قاطع أرزاق ، و أخوة مختار ناكرو الجميل ناكثو وصية ِ أبيهم بترك المنزل بعد وفاته لأخيهم الأكبر الذي انقطع عن الدراسة ليساعد أباه في إعاشتهم والإنفاق عليهم في دراستهم و تزويجهم ، والأم التي كانت تُؤْثر كنَّتها على بناتها وتخشى عليها من مكرهنّ .
من هو الميّت الحي ؟ ولماذا هذا التوصيف؟
ارتكز السرد في هذه الرواية ذات المائة وتسع ٍوثلاثين صفحة على شخصية محورية " مختار" تلك الشخصية الواقعية من بيئة صفاقسية في فكرها و لهجتها وصلابتها و عزة نفسها حينما تُمسّ الكرامة و يُزلزَل الوجود ويصاب في مقتل كما يقال . ( ... وها أنا في هذه المقبرة ميّت حيّ فلا أنا ميّت كالأموات ولا أنا حيّ كالأحياء...ص 100) . و تفسِّر حيثيات حياة مختار داخل المقبرة توصيفه بالميّت حيّ ، إذ مثلت المقبرة مقرّ عمله و تمضية يومه بين القبور حافرا و بانيا وملحّدا و داهنا لها بمقابل تجود به أيادي المترحمين في زياراتهم ، كما آوته المقبرة في ركن منها في مسكن وظيفيّ مخصص للحراسة ليلا ونهارا ، وكلّفه ذلك مقاطعة أهله و أحبابه إلاّ صديقه عادل المحامي وزوجته سعاد ..
هل هي سيرة ذاتية لحفار القبور ؟
هي كذلك بوجه عام ّ ، وهي سيرة في ثوب روائيّ تتفرّد بخصوصيات رُسِمت ملامحها مما عايشه مختار تشاركه خديجة حبا وكرامة وتعاضده شخصيات أخرى مبثوثة في الرواية . النصّ نموذج لسيرة عامل مكافح ذي نزعة ثورية فطرية تطورت تجربته و تشكّل وعيه بحقوقه العمالية حتّى أدرك أنّ القطع مع المستغلين لعرق العمال ضرورة وجودية يتحقق به كيانه كفرد في مجتمع مختلّ التوازنات .
اللهجة العامية ؟
قال عنها الدكتور محمد الخبو في تقديمه للرواية :". ... واستعمال هذه اللغة العامية سمحت للمؤلف بجعل الشخصية تتكلم بحسب مستواها الثقافي والفكري ولا يتسلط عليها فيجعلها تتكلم بلغة طه حسين أو العقاد كما يفعل عديد الكتّاب في تونس . ونحن نعتبر هذا باخسا لحق ّ الشخصية الروائية في الظهور النّصّيّ الحقيقيّ في الرّواية "
اجتهد الكاتب في استعمال لهجة صفاقسية محلية على ألسنة شخوص الرواية فيها القول العادي ، وفيها الأمثال ، وفيها الطرفة التي إن كتبت بالفصحى ضاعت نكهتها ..و قد ذكرتني هذه الرواية بتوظيفها للهجة الدارجة بكتابات البشير خريف و خاصة في روايته ( برڨ الليل) حيث اجتهد في استعمال لهجة تعود الى القرن السادس عشر في فترة الصراع العثماني / الأسباني أو ما يعرف بدخول السبنيول الى تونس (الحاضرة) و العبث بأهلها .
و تظلّ بصمة محمد معلّى في استعماله للهجة الصفاقسية مميّزة بتلقائيتها ، بعيدة عن الاستعمال الفولكلوري السمج قصد الإضحاك والتّندّر ، وهذا يحسب للكاتب لأنه كتب باحترافية واعية دون ثرثرة ممجوجة .
خديجة ؟
هي الشخصية المحورية الثانية التي جمعت بين المرأة الأنثى ، الحبيبة والخليلة ومستودع أمن وسلام المختار ، وبين المرأة ذلك الكائن الاجتماعي المتقنة لأدوارها في العائلة رعاية ًوخدماتٍ و مشورةً ومساندة ًفعلية في الأزمات . خديجة كانت صِنْو المختار و وقوده و مستراحه عند اشتعاله هما وغما من ظلم البشر له وقولها " ما تخضعش الموت أهون مالخدمة عندو "( ص 138) و قولها :" أنا معاك وين تمشي أنا معاك . وين تحط ساقيك نكنْ راسي " ( ص139) لخصا موقفها المبني ّعلى عزة النفس وكرامتها . إنها والمختار زوج من الكناري متآلفان وإن حصل بينهما خلاف أحيانا هو كالملح في الطعام .
رومانسيةلا يندر ُ أن نراها في صفوف الكادحين لأنها ليست حكرا على الأغنياء كما تصورها سينما الأبيض و الأسود .
قضايا عجّ بها النص الروائي :
ضمّن الكاتب في روايته جملة من القضايا من صميم الواقع لو توسع فيها لاتسعت رقعة النص الروائي ولازداد حجمه كما أراه أنا ، و للكاتب وجهة نظر أخرى ولا شك في ذلك . و من تلك القضايا : الصفاقسي والموبيلات الزرقة / اعتراض على التطور الطبي وانعكاسه سلبا على عمل حفار القبور / موقف مختار الرافض للتصريح بالحب لمحبوبته / عادات رمضانية / مظاهر العرس و ما يسبقه من حمام وتنقية / علاقة أخوات الراجل بزوجة الأخ / نقد الواقع الاقتصادي / العلاقة الشغلية / أزمة السكن / أجواء دكان الحلاق / أجواء المآتم / نظرية المؤامرة بين الدول / مواقف ايديولوجية من السياسة والحكام العرب / حركات التحرر والولاء للأجنبيّ / الرياضة والإجراءات الأمنية / مسألة عذاب القبر / الختان / الإرث والقطيعة بين أفراد العائلة / المعارضة السياسية / تأثير السياسة في العلاقاة الزوجية / علاقة المشغل بالأجير / موقف من اليسار السياسي / الغرب وانتهاك حقوق الإنسان / الاسترزاق في المقابر ( طلاء القبور وتلاوة القرآن ) / فلسفة الحياة والموت / العربدة والمجون في المقابر / مشهد الختان / التذمر من الوضع الاقتصادي إبان الثورة في تونس/ الحوت المالح وعيد الفطر / رؤية هلال العيد .
النهاية ؟
قفلة جعلت من آخر النص أفقا مفتوحا : ترك الجبانة والعمل والسكن فيها ومغادرتها على الموبيلات الزرقة التي أبى أن يستبدلها بأخرى وفاء لعشرته معها وتحملها أعباءه شابا وكهلا .
ماذا بعد ؟
للقارئ أن يتخيل نهاية ً ما عساه يحدث بعد ترك المقبرة ، ولا أظنّ أن ذلك مما يدخل في شغل الكاتب الذي أنهى مهمّته و قفل نصه بفعل دالّ على الحركة ( انطلقا ) وأظن ذلك كافيا للدلالة على الأمل و إرادة البناء من جديد .
هذه قراءتي لرواية ( ميّت حي ّ) للروائي محمد معلى الصفاقسي روحا وفكرا و تجذرا في الواقع الصفاقسي . ولا يعدّ التركيز على المحلية تقوقعا ، ولكنه يعكس تمكن الكاتب من تخريج نصّ في بيئته الحقيقية ، وأراه نجح وأقنع . ولي وقفة مع كتابه الثاني ( مقامات آخر الزمان ) إن شاء الله .
حرر بصفاقس في 30 جوان 2023
بقلم : شفيق بن البشير غربال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق