السبت، 22 يونيو 2024

مقهى الشّام).. قصة الكاتب مصطفى الحاج حسين.

 ** (مقهى الشّام)..


   قصة:مصطفى الحاج حسين. 


  عند مدخل مقهى الشّام، الكائن في ساحة (الجابري)، قرب الفندق (السّياحي)، التقيت صديقي (لقمان) صدفة، فدخلنا المقهى، وطلبنا قهوة (الإكسبريس)، وجلسنا بعد أن طلبنا من النّادل، إحضار الشّطرنج، وبدأنا اللعب، بقصد التّسلية.


كان عليَّ أن أمضي ساعة، ريثما يجهّز لي، بائع القطع الكهربائيٍة، فاتورتي.


على الطّاولة المجاورة لنا، كان صديقنا الممثّل المسرحي (طراد خليل)، مع صديق له، لا أعرفه، يجلسان، ويلعبان (الشّطرنج) مثلنا.. فتبادلنا التّحية، بالإشارة والإبتسامة.


أصوات السّيارات العابرة بالمقهى، كانت تطغى على أصوات الرّواد الغارقين ، في الأغلب في اللعب بالشّطرنج.


من تحت الطّاولة، ضغط (لقمان) بقدمه على قدمي، نظرت إليه، أشار بعينيّه إلى طاولة (طراد).. نظرت وإذ بعناصر أمن يقفون عند طاولته، عرفتهم على الفور، من مسدّساتهم البارزة، على خصورهم، حتّى وإن كانوا في لباسهم المدنيّ، وكانوا طلبوا من (طراد) وجليسه، هويّاتهم الشّخصيّة، فأخذنا أنا و (لقمان) نراقب خلسة، ونحن نتظاهر،

باستمرارنا، بلعبة الشّطرنج. 


تفحّصوا الهويّات جيّداً، ثمّ طلبوا منهما مرافقتهم، وحين نهضا.. تطلّع إلينا، من كان يحتفظ بيده، بهويتي (طراد) ورفيقه.. ثمّ خطا نحونا، وألقَى التّحية، وقال:


- نحن.. فرع الأمن العسكري. 


قلنا، وقلبانا يرتجفان:


- أهلاً وسهلاً.


سألنا، وهو يتفرّس بوجهينا:


- هل تعرفان هذين الشّابين؟.


نحن لا نستطيع أن نقول لا.. ماذا لو كانوا يراقبوننا من قبل، وقد شاهدونا نتبادل التّحيّة والإبتسام.. لذلك قلنا بصوت واحد، أنا و(لقمان):


- نعم. 


وبكلّ تحضر ، قال:


- هل يمكن لكما، أن ترافقانا إلى الفرع، لنأخذ منكما، بعض المعلومات عنهما؟. 


وهل نستطيع أن نعتذر، ونقول لا؟!.. من يجرؤ أن يرفض؟!.. أو يدّعي أنّه مشغول، ولا وقت لديه؟!.. قلنا له: 


- نعم.. 


رغماً عنّا.. خوفاً.. رعباً.. إذعاناً.. كرهاً.. وافقنا أنا و (لقمان)، وقلنا نعم. 


دفعنا للنادل، الذي حاسب من قبلنا (طراد).. وخرجنا، نهبط درج المقهى.. وكانت سيارتهم العسكرية هناك عند شارة المرور.


حملوا فيها (طراد) ورفيقه، أما أنا و (لقمان) ، فقد اقلونا سيّارة أجرة صفراء. 


جلس، واحد منهم، من الأمام، إلى جانب السّائق، وجلس من الخلف، واحد آخر، معنا أنا و (لقمان)..كنت في رعب شديد، فأنا أحمل حقيبة يد، فيها ثمن البضاعة الكهربائيّة، وخرجيّتي القليلة، وهويّتي، وعلبة تبغ إحتياط، وقصائد لي منسوخة على الآلة الكاتبة.. والأهم، والأدهى، والأفظع، هي تلك الجريدة، التي نشرت قصيدتي، التي ألقيتها في المهرجان السّبعين، لذكرى الثّورة (البلشفيّة) في (الإتّحاد السّوفيتي).. وكانت مهداة لرّوح الشّهيد (فرج الله الحلو) الذي تم قتله، وتذويب جسده بالأسيد، زمن الوحدة.. نشرها لي صديقي (حسيب برّو) في جريدة ممنوعة، تابعة لجامعة (حلب).


ماذا لو قرؤوا قصيدتي؟!.. ماذا لو اكتشفوا الجريدة؟!.. مصيبة.. كارثة.. تذكّرت صديقي (مصباح) المعتقل، منذ أكثر من ستّة سنوات، بتهمة الإنتساب (لرابطة العمل الشّوعيّ) ، وتذكّرت جارنا (أبو محمد) المعتقل أيضاً، ومنذ بداية أحداث (الإخوان المسلمين)، بتهمة أنّه (بعثيّ يمينيّ)

.. وتذكّرت، وتذكّرت.. وأنا أرتجف بروحي و أنفاسي.. و (لقمان) الصّامت جنبي، ناولني سيجارة، وكان وجهه شديد الشّحوب.. لا أعرف كيف، وبماذا يفكّر الآن؟!.


التفتَ إلينا، من كان يجلس أمامنا، جانب السّائق، وقال:


- إذا سمحتم، أعطوني هويّاتكم. 


فتحتُ حقيبتي.. وناولته هويّتي، وكذلك فعل (لقمان).. وأخيراً سألت نفسي:


- لماذا هذا الخوف يا جبان؟!.. إنّه مجرّد سؤال لا أكثر.. وأنا أعرف (طراد) معرفة سطحيّة، وصديقه لا يهمّني، لأنّي أراه لأوّل مرّة.. ثمْ أنّ (طراد)، موظف لدى (نقابة الفنّانين)، ولا أظنّ أنّ عليه شيئاً مخيفاً.. لذلك يجب أن أطمئنّ وألّا أخاف.. مجرّد دقائق وينتهي الأمر. 


حين وصلت السّيارة إلى بوابة الفرع، وبدأنا بالنّزول، قال لنا من احتفظ بهويّاتنا عنده، بلهجة بدت جافّة وآمرة:


- إدفعا للسائق حسابه. 


تبادلنا.. أنا و (لقمان) نظرات التّعجب، والدّهشة، والاستغراب.. دفع (لقمان) للسائق، ودخلنا باب الجحيم. 


كم حاولت أن أرميّ الجريدة، في قلب السّيارة، لكنّي عجزت، بسبب من كان يجلس إلى جانبي، ويراقبني.. لو كنت أخذت مكان (لقمان) جانب النّافذة، كان ربّما استطعت، التّخلصَ والتّصرف.


في كلّ خطوة، نخطوها إلى الأمام، وندخل، كان قلبي يزداد انقباضاً، وتتضاعف دقاته في التّسارع والخفقان.


في بهو مسقوف بالرّهبة، والهيبة والصّمت المريع، وجدنا (طراد) ورفيقه، يقفان أمام أبواب، مكاتب عديدة مغلقة، وقفنا قربهم، ونحن نتبادل النّظرات.


وخرج علينا.. من طلب منّا مرافقتهم، حين كنّا في المقهى، وزعق:


- استديروا إلى الحائط، يا حيوانات. 


رباه!!!.. كيف انقلب علينا، هذا الكائن، الذي كان يتحدّث معنا، بلطف قبل قليل؟!. 


استدرنا إلى الحائط بطلائه الرمادي.


صرخ بانفعال شديد:


- ارفعوا أياديكم عالياً.. يا (كلاب). 


أردّت أن أستدير نحوه، وأذكّره، بأنّنا أنا و(لقمان)، لا علاقة لنا، ولقد أتينا معهم، إلى هنا، لمجرّد أن نكون شهوداً لا أكثر.. ولكنّ يدا خفيفة، باغتّتني من الخلف،وخطفت الحقيبة من يدي، المرتفعة، والمستندة على الجدار.


- لا تلتفت.. ولا تحرّك رأسك، وإلّا دعسته لك.. يا قرد. 


غابت الحركة والأصوات، دقائق ولم نسمع صوت الخطوات التي كانت تدور حولنا، تشجّعت وأنا أحاول أن أستدير برأسي قليلاً إلى (لقمان) وإلى (طراد) وصديقه.. وإذ بزعيق ينفجر من خلفي، بحدّة ووحشيّة:


ألم أقل لك لا تحرّك رأسك يا (جحش)؟!.


وانهال سوطه على ظهري.. لم أكن أتوقّعه، أو أنتظره، أو أتخيّله.. فتألّمت، وتوّجعت، وتأوّهت،

وصرخت:


- آ آ آ آ ه ه ه ه.


- بلا صوت.. يا خنزير. 


خرستُ.. وابتلعتُ حرقة ظهري، وألم روحي، وبكاء دمي، ونشيج قلبي، وانهيار فضائي.


- يا الله!!.. أنا لا أحتمل الضّرب.. تذكّرت تاريخي الحافل و ما تعرّضت له، من عقوبات، وفلقات، أيّام طفولتي، من أبي، وعمّي،وأساتذتي، (وشيخي) في الكتّاب، وعند الأمن (الجنائي)، والشّرطة العسكريّة في (القابون)، وفي دورة (الأغرار)، في الجيش. 


من أين جاءتني هذه المصيبة؟!.. ليتني لم أذهب إلى المقهى.. ليتني ظلّلت مثل كلّ مرّة، عند بائع الأدوات الكهربائية، أشرب الشّاي والقهوة، ريثما يجهّز لي طلبي.. ليتني ذهبت إلى (مقهى القصر)، أو إلى (مقهى الموعد).. أو إلى (الفندق السّياحي).. في كلّ هذه الأمكنةِ، قد أصادف أحداً من أصدقائي الأدباء.. اللعنة عليّ لحظة توجّهت إلى (مقهى الشّام).. ثمّ الآن سينشغل بال (أبو معتز) على غيابي، فقد أرسلني كالعادة، لأشتري للمحل الذي أعمل فيه، بضاعة.. الآن سيظنّ أنّني لطشتُ (العشرة آلاف ليرة)، واختفيتُ عن الأنظار.. ولم أرجع إلى المحلّ.. سيلوم نفسه لأنّه وثق بي، 

ويحمّل صديقي (إبراهيم) السّبب، لأنّه عرّفني عليه..سيقول عنّي هذا شيوعيّ لا يمكن الوثوق به.. كان يأمل أن تتمّ هدايتي على يديه، وأن أعود إلى ديني الذي هجرته، وإذ به يقع فريستي.. أصدقائي جميعهم خدعوه بي، (زكريّا)، (وعليَّ)، و(محمد علاء الدّين)، أيضاً هم شركاء (إبراهيم)،في هذه الخديعة.


وسمعنا جلبة، وصوت خطوات تقترب،فأصخنا السّمع، حتّى اقتربت منّا..وكان هناك شخص يجرجرونه، على ما يبدو.. وهو يترّجّى، ويتوّسل، ويتأوْه، ويئنّ، ويتضرّع، ويبكي.. وبدأت تنهال عليه الضّربات، والرّفسات، واللطمات، والصّفعات، واللكمات، والصّيحات، والزّعيق، والصّرخات، والتّهديدات، والتّوعدات، والأوامر الغاضبة:


- استلق على الأرض يا حقير.. يا كلب.. يا منحط.. يا ساقط.. يا خنزير.. يا ابن الزّانية.. يا قوّاد.. يا ديّوث.. يا قليل الشّرف.. يا عديم الذّوق.. يا جبان.. يا كافر.. يا ملحد.. يا من لا تخاف الله.. يا مشرك.. يا دجّال.. يا كاذب.. يا فاسق.. يا شيوعيّ. 


- ضعوا رجليه بالفلق.. لا ترحموه.. ألعنوا أمّهِ على أبيه.. على طائفته.. على ملّته.. على مذهبه.. على دينه.


وانهالت السّياط عليه.. صوتها وهي تهوي، يصدر هواءاً، أزيزاً، صفيراً، فرقعة، دوياً، لسعاً، هديراً، جلداً. 


وكنت أرتعش، البلاط من تحتي يرتعد، 

الحائط الذي أستندُ عليه، بلّلت دموعه يدايَ، الهواء تشقّق جلده، السّقف تقوّض حديده، والصّدى بحّت حنجرته، وتورّم الضّوء. 


جاؤوا لنا (بطمّاشات)، غطّوا عيوننا.. غاب الحائط من أمامنا، اندلق الظّلام فوقنا، واسودّت أنفاسَنا، وانتحر لعاب فمنا، وغادرنا دمنا، وتقصّفت سيقاننا. 


وفجأة.. وضع أحدهم يده على قلبي، وجده ساقطاً تحت قدميه، فصرخ:


- لماذا يدقّ قلبك بعنف؟!.. يا ابن الحرام؟!.. لم أنت خائف هكذا؟!.. ما الذي تخفيه عنّا؟!.


وجذبني من رقبتي، وأدارني نحوه، بقوّةٍ وعنف. 


قلت بصوت ميت، لا نبض فيه:


- أنا يا سيّدي.. لست خائفاً، ولا أخفي عنكم شيئاً، أنا مجرّد شاهد هنا.. أتيت لتسألوني عن (طراد خليل)، قلتم لي مجرّد كم سؤال، وتعود أنت وصديقك.. وأنا لا أعرف شيئاً يا سيّدي، وأقسم لك. 


صاح بي محقّق ثاني:


- من منكم ينتسب ، لأحزاب الجبهة التّقدميّة، يا (أوغاد)؟!. 


لم يردّ عليه أحد منّا.. فعاد يسأل:


ـ طيّب.. من منكم منتسب لحزب البعث العربيٍ الإشتراكي؟!. 


وأردت أن أنجو، أن أغامر، المهم أن يسمعوني، قبل أن يكتشفوا ما في داخل حقيبتي، فقلت:


- أنا. 


وصاح.. وكرّر السّؤال:


- أنت بعثيّ؟. 


- نعم.. سيّدي. 


رفع عن عينيّ القماشة السّوداءُ، و سحبني من يدي، نحو مكتب قريب.. فتحه وأدخلني.. كان داخل المكتب، من يجلس خلف الطّاولة.. وحوله ثلاثة من العناصر، ومحفظتي في يده، يهمّ بفتحها وأفراغها، على طاولته الفخمة والكبيرة، والتي توجد عند مقدمتها، (يافطة مذهّبة) مكتوب عليها، وبأحرف كبيرة سوداء، وجميلة، الرّائد الرّكن، (فضل الله الأسعد).. رفع رأسه إلينا، ونظر إليّ، فقال، من أدخلني إليه:


- سيّدي.. هذا يقول، إنّه رفيق (بعثيّ). 


توقّفت يده عن تفريغ المحفظة، وسأل، وكان له شوارب غليظة، وطويلة:


- من أيّ شعبة أنت؟!. 


قلت بتلعثم وخوف:


- أنا يا سيّدي.. من شعبة (العمال الأوْلى)، كنت جالساً في المقهى، نلعب الشّطرنج أنا صديقي، سألونا عن شخص يريدون أخذه، قلنا نعم نعرفه، فطلبوا أن نرافقهم، ليأخذوا منّا بعض المعلومات، وحين صرنا هنا، يبدوا أنّهم نسوا لماذا أتينا، راحوا يعاملونا، كأنّنا مثله.. وأنا أقسم لك يا سيّدي، بأنّ معرفتي به سطحيّة ، مجرد سلام وتحيّة لا أكثر. 


وضع سيادة الرائد حقيبتي من يده على الطّاولة، ودفعها من أمامه، وقال:


- سأسأل عنك في شعبتك. 


كم فرحت، وسعدت، وشكرت الله لأنيّ دخلت عنده في اللحظة المناسبة، وتركته لا يفتش حقيبتي، ويتركها من يده، إنَّها إعجوبة، معجزة، ضربة حظ عظيمة.


ثمّ أخرجوني من المكتب.. لم أجد أحداً من جماعتي.. كان البهو فارغاً. قادني من كان يصحيبي إلى غرفة أخرى، وطلب منّي أن أخلع كل ما عليّ من ثياب، وأن أبقى في السّروال، وأن أتركهم في الأمانات، ثمّ أتبعه. 


كان الممر ضيقا وطويلا، على يمينه جدار، وعلى يساره، زنازين مفتوحة الأبواب، أمرني بالسّير لآخر الممرّ، كان عدد الزّنازين التي عبرت من أمامها، خمسة، مليئة بالموقوفين، عليهم آثار ضرب، وتعذيب.. وعند الزّنزانة الآخيرة، أمرني بالدّخول، وتركني. 


دخلت حاملا أغراضي، ووجدت عدد من الموقوفين، والمتورّمي الوجوه، والأقدام، وكان بينهم (لقمان) و(طراد) وصديقه، فوسّعوا لي المكان، وقعدت قرب(لقمان). 


صمت مطبق، لا أحد هنا يستطيع الكلام، فقط هي النّظرات المنكسرة، الدّامعة، المقهورة، الزّائغة، المرتابة، هي ما تحتلّ فضاء الزّنزانة المفتوحة الباب، الممنوع من الخروج منها، أو استراق النّظر.


وهناك نافذة يدخل منها الضّوء، خائفاً، متوجّساً، يخشى على نفسه، من الإعتقال، فهو قبل أن يسقط في هذه الزّنزانة، تعترضه شباك من حديد، متينة، وقويّة، وغليظة، وكثيفة. 


من المؤكد أنّهم، زرعوا بيننا هنا، من يقوم بالتّجسّس علينا، لذلك لا تجد هنا من يكلّم غيره، الكلّ مشغول بكلامه، مع ذاته، ولكن بصمت شديد، وكتمان متين، وراحت عينايَ تجوسان في المكان، وتبحثان بين الوجوه المتورمة، والمرهقة، والمتعبة، والدّامية، عن ذاك المندسّ بيننا، ليراقب حركاتنا،وهمساتنا

.. ولكن من هو يا ترى؟!.. وأين هو الآن يجلس؟!.. إن جميع الذين هنا، تعرّضوا للضرب، واللتّعذيب. 


ترى ماذا سيقال (للرائد الرّكن)؟!، حين يسأل الرّفاق في (شعبة الحزب) عنّي؟!.. هل ما زالوا يعتبرونني رفيقاً لهم؟!، أم سيخبرونه بأنّني منقطع عن الحضور، منذ لحظة قبولهم لي؟!.. قدّم لي طلب الإنتساب سيادة الرّائد (خليل اسكندر)، المسؤول عن التّوجيه السّياسي، في قيادة اللواء، وأنا في دورة الأغرار، وقتها، حتّى يتمكّن، بعد إنتهاء الدّورة، من فرزي لعنده، ووافقت أنا بدافع الخوف، لا أكثر.. وهل كنت أجرؤ على الرّفض، في تلك الأيام؟!.. وانتهت الدّورة، وتمّ فرزي إلى مكان آخر،بسبب تأخّر وصول الموافقة، على إنضمامي إلى الحزب الحاكم، ومرّت الأيّام، وسرّحت من الخدمة الإلزامية، بعد ثلاثة سنوات وأربعة أشهر، وخمسة أيام.. ولم تصل الموافقة بعد.. ونسيت أنا الموضوع، وطلب الإنتساب الذي أرفضه، إلى أن توظّفت في مخبز (الحمدانية) الآلي، وبعد مضي أكثر من سنتين، وإذا بمدير المخبز، يرسل خلفي

، ليزفّ لي بشرى، قبولي نصيرا في الحزب، شعبة العمّال الأولى.. أيضاً تظاهرت بالفرحة، والقبول. 


والتحقت بالشّعبة، وحضرت أوّل إجتماع، كان يترأسه الرّفيق (ماهر)، وهو مدير شركة، في القطاع العام، هامة، وحيويّة.. واعترضت على فكره، وحاولت مناقشته، وإحراجه، وحينَ وجدته، يشتم، ويسبّ (أمريكا)، وهو يدخّن سجائر فاخرة، من صناعتها، تضايق منّي، ومن يومها، لم أحضر غير هذا الإجتماع اليتيم.


وسرعان ما زجّ بي، في نوبة حرس للشعبة، التي تقع أمام، (نقابة الفنّانين).. ومنذ اللحظات الأولى، لوقوفي حارساً على (باب الشّعبة)، نظرتُ وشاهدت صديقي (خالد خليفة)، مقبلاً علينا، وهو يعرف ميولي، للشوعيّة، وأنا دخلت بيته كثيرا، بهذه الصّفة، و أيضاً أنا أحبه، وأحترمه، هو وأخوه، (مروان)، الذي أعتقل بتهمةِ انتمائه (لرابطة العمّال الشّوعيّ)، وهو صديق (لمصباح)، صديقي المعتقل منذ سنوات، وهو من عرّفني عليه.. فخجلت من نفسي، وقبل أن يراني، وينتبه لوجودي هنا، صعدّت إلى الأعلى، وسلّمت بندقيّتي، واعتذرت، وانسحبت، وما عدت أحضر عندهم، وكم أرسل خلفي، وإلى بيتي، الرّفيق (ماهر).. وما استجبتُ، ولا عدتُ. 


خارج زنزانتنا الصّغيرة والضّيقة، وعلى الطّرف المقابل لها، وبعد متر أو أكثر بقليل، يوجد (المرحاض) الوحيد، لكلّ نزلاء الزّنازين، وهو بلا باب، وله حنفيّة ماء، مفتوحة بشكل دائم، تصدر صوت خرير قاتل، ومزعج، ويسبّب صداعاً حادّاً، وتحت الحنفيّة، توجد عبوة معدنيّة صغيرة، تستعمل (للتشطيف)، لا وجود لخرطوم إلى الحنفيّة، ولا وجود لمغسلة، أو صابون للتغسيل.. وكان علينا أن نشرب الماء من هنا، من هذا (المرحاض)، القذر، والكريه الرّائحة، والذي ندخله و(نفعلها) دون ستار، أو حجاب، أو مخبأُ!!.. شيء غير إنساني، وفظيع!!. 


طبعاً كانت الزّنزانة بلا أي مقعد، أو سجادة، أو عازل للأرض، فكلنّا جالسون على البلاط، المتوهج من شدّة الحرّ.


السّيجارة هنا تساوي الكثير، الحرُّ وحش خرافي، ينقضّ على الزّنزانة، وعلى الجدران الإسمنتية السّوداء، يسيل منها العرق، بغزارة بالغة.. حيث يجد المرء نفسه، يغفو، ويسهو، دون مقاومة منه، بسبب الحرّ الخانق، والشّمس عَمِيْلَة المخابرات، كانت تتوّغل لنخاع موتنا باقتدار. 


ماذا.. لو عرفت أمّي إني هنا موقوف؟!، أو علم أبي، أو أخوتي، أو أخواتي؟!.. أو خطيبتي، التي هي في مدينة الباب؟!.. آهِ كم هذا أمر مؤلم، وفظيع عليّ، وأنا لا أحتمله، ولا أطيقه.


وفتحَ باب الممرّ، سمعنا صوت حركة المفتاح، أحضروا إلى زنزانتنا، ثلاثة أشخاص، يلبسون السّراويل مثلنا، منهم رجل مسنٍ، ذو لحية خفيفة بيضاء ، وإثنان في سن الشّباب، واحد منهما على عنقه، آثار جرح قديم، يحمل بيده كيساً أسوداً، وممتلئاً.. وكان العنصر الذي قام بصطحابهم، يتعامل معهم بمنتهى اللطف والوداعة!!، ويخاطب كبيرهم، باحترام وتقدير، يناديه بكلمة عمّي. 


جلسوا في صدر الزّنزانة، بعد أن أمر عنصر الأمن، من كانوا يجلسون في هذا المكان، بالنّهوض، والابتعاد.، فابتعدوا، وأفسحوا المجال، للثلاثة الوافدين علينا. 


علائم الخوف والرّعب، ليست بادية عليهم.. كانوا يتحدّثون، لم ينقطع كلامهم، منذ دخولهم علينا، حتّى كانوا يبتسمون.. بل فتح صاحب العنق المجروح، كيسه، وأخرج منه علب تبغ، أجنبيّة، وأشعلوا السّجائر، ونحن نتطلّع إليهم، بدهشة، وحسد. 


لم نكن نجرؤ على الكلام، رغم أنْ البعض بدأ يتجرّأ، وبدأت الهمسات، تنتشر في الزّنزانة، واقترب منّي (لقمان)، وهمس:


- الله يسترنا يا صديقي!. 


أردت أن أجيبه.. بكلام لا معنى له.. لكنّ (طراد) مال عليه، وأخذ يكلّمه بصوت خافت، لم أستطع تميزه.. وكان لقمان يهزّ برأسه.. وأحياناً يهمس:


- فهمت عليك.. أطمئن.. لا عليك. 


وعرفنا من يكون هؤلاء الثّلاثة، المتميّزون عنّا، فهم أب وابنيه، يعملان في تهريب الأسلحة.. ولقد تمّ ضبط السّلاح المهرّبِ، في سيّارتهم، التي هربوا منها، وتركوها وسط الطّريق.. والآن يرفضون الإعتراف، بأن هذا السّلاح، الذي ضبط داخل سيّارتهم، يخصّهم، أو لهم علاقة به.. وهم يدّعون

أنّ سيّارتهم قد تمّ سرقتها، من قبل ناس مجهولين، وقام السّارقون، باستغلال سيّارتهم.. ليهرّبوا بها السّلاح.. وهناك من يعمل على مساعدتهم، وتخليصهم من هذه الورطة. 


ودخل العنصر، الذي تركنا قبل قليل، يحمل بيديه الأكياس، كانت رائحة الفروج المشوي، تفوح من الأكياس بقوّة، حرّكت عندنا مغارات الجوع، فبدأت أمعاؤنا تتلوّى، وتقرقر، وتنهش بنا بضراوة وتوحّش. 


ناولهم الأكياس، شكروه وانصرف.. ثمّ وضعوها على أرض الزّنزانة، وفتحوها، وضعوا فروجتين لهم، وأعطونا نحن جميع، من في الزّنزانة، فروجتين ، و بلغ عددنا دونهم، أحد عشر شخصاً.. فرحنا وشكرناهم، واقتربنا، رغم الأقدام المتورّمة، والمّمدودة.. وهناك من تطوّع لتقسيم حصص، لكل واحد منا، تقريبا بالتّساوي، وبطريقة عادلة. 


وصبّوا لكلّ واحد منّا، نصف كأس (بلاستيكي) من (الكولا) الباردة.. فأغدقنا عليهم شكرنا.. ودعونا لهم بالإفراج السّريع.. مع أنّي كنت أكذب.. فما أقوله بداخلي، هو غير الذي قلته لهم، فهم مهربو أسلحة، أولاد كلب، مدعومون، ومدلّلون عند رجال الأمن. 


الماء البارد.. الذي أحضره لهم عنصر الأمن.. في عبوات نقيّة، ونظيفة.. لم يعطونا شربة واحدة منه.. كان على من يريد أن يشرب منّا، أن يشرب من ماء، دورة المياه.. من الحنفيّة التي لا يتوقف صوتها البشع. 


لكنّ المهرّب.. الأب (الحجي)، لم ينتهي كرمه بعد.. فبعد أن انتهينا من الطّعام، وقمنا بتنظيف المكان، ووضع المخلفات في ذات الأكياس، وثمّ حملها، إلى سلّة الزّبالة في دورة المياه.. قام هذا الرجل الورع، بتضييف كل واحد منّا،بسيجارة 

بعد الطعام.. وقال لنا:


- لا أحد يطلب منّي، سيجارة ثانية، فقد أخذ عليّ وعداً، سيادة الرّائد (فضل الله)، أن لا أعطي لأحد، نفثة واحدة من الدّخان..وأنا أعطيكم الآن على مسؤوليتي. 


أشعلنا السّجائر بشغف عارم، وأقدمنا عليها، كمن يُقدِم، على عناق حبيبته، الفاتنة.. لكن.. وقبل أن ينتهي (طراد)، من تدخين سيجارته، دخلا علينا إثنان، من عناصر الفرع، واقتاداه معهم، بعد أن وضعا، القيد بيديه إلى الخلف، وثمّ عصبا له عينيه، بقماشة سوداء، وسحباه، وانصرفوا.. وسط صمتُنا، وخوفنا، ورعبنا. 


بدأ التّحقيق معنا.. هل سنتعرض للضرب؟!.. كما فعلوا مع ذاك، الذي عذّبوه، وضربوه، حين كنّا نرفع أيدينا على الجدار؟!.. آهِ ربي.. أنا لا أحتمل، لا أقوى، لا أستطيع، ولا أتخيّل أن يفعلوا

معي هكذا، مثلما فعلوه.. أموت..

ومستعدّ أن أعترف، بكلِّ ما يريدون.. آهٍ أنا خائف.. بل ميّت من رعبتي. 


استرقت نظرة إلى وجه (لقمان).. كم بدأ شاحباً، ومصفراً، ومتيبّس الشّفتين.. صديقي المدلّل (لقمان)، هنا لا يفهمون، ولا يراعون، أنك وحيد والديك، وأن بقيّة أولادهما، ستّة بنات.. وأنّك ابن نعمة، وعزّ، ومكانة وجاه.. وأنك رقيق المشاعر، لطيف وحساس، شاعر، وعازف (بزق) ماهر، وممثّل، وناقد، ولاعب كرة قدم.. وراقص (كزوربا).. أنت لا تستحق ما نحن فيه.. قل لي صديقي.. كيف سننجو من هذه الورطة، اللعينة؟!.. صديقي الرّائع.. صديقي النّبيل.. صديقي المبدع المحبوب.. نحن في ورطة كبيرة، بل في كارثة عظيمة.


الدّقيقة أطول من ساعة هنا.. الزّمنِ هنا ميّت بلا حراك.. هنا مكان إقامة ملك الموت (عزرائيل).. هنا يصلب الأنبياء.. هنا تقطع ألسنةُ الشّعراء.. هنا تخصى الرّجال.. هنا تغتصب الإرادة.


أهلي حدّدوا لي يوم عرسي.. بعد أقلّ من إسبوع سأتزوج.. هكذا كنّا نأمل، ولكن الآن أسأل، هل سيتحقّق هذا الحلم؟.. سامحيني حبيبتي (رغداء)، يبدو أنّني سأفقدك.. بل سأفقد حرّيتي وفرحتي، وأحلامي.. انسيني..من حقك أن تتزوّجي من غيري، رغم أنّ (عمّتي) أمّك، قد حملت بك لأجلي.. هي وعدتني قبل أن تحبل بك، بأنّها ستنجب لي عروسة.. وأنا انتظرتك، وفرحت يوم ولادتك.. وكنت أراقب نموّك، وأنت تكبرين.. وتتفوّقين على أقرانك من الفتيات، في دراستك، وجمالك، وقوّة شخصيّتك.. كنت فرحاً

بك، وبحبّك لي.. ولكن، هنا تعدم الأحلام.. في هذا الفرع، يدفن الفرح، 

وتقتل البهجة. 


(مصباح) أخذوه قبلي.. منذ سنوات، أخفوه عن الحياة التي كانت تضجّ به، أبعدوه عن تفتُّح المستقبل، هو لم يشأ أن يورّطني قبل أن أنضج.. كانت معرفتي ناقصة لم تكتمل بعد.. خاف عليَّ، وكان يصفني:


- أنت ثرثار.. متهوّر.. مندفع.. مغامر.. عصبيّ.. نزق.. بسيط..  متقلّب المزاج.. عاطفيّ.. تنخدع بكلِّ بساطة. 


وأنا من بعد إعتقاله، سكنني الخوف، والجبن، والإرتباك، والضّياع، والحزن، والإنكسار. 


بدأت تتناهى إلينا أصوات غائمة، مبهمة، أصخت السّمع، دقّقت أكثر، تعالت ضربات قلبي، انكمشت عنّي أنفاسي، وسرت موجة تيبس بداخلي.. إنّها صرخات (طراد)، أنينه، توسّلاته، تأتي مع أصوات غاضبة، حادّة، غليظةٍ، 

لئيمة، ولا تعرف الرّحمة، ولا الشفقة. 


كان صديق (طراد) الذي لا أعرفه.. يرتعشُ، جسده النّحيل بالكامل ينتفض

، ووجهه ذو الأنف المعوجّ قليلاً محتقن بالإنهيار.. و(لقمان)، تضاعف شحوب سمرته، تحول وجهه إلى سحابة قلق داكنة، وعيناه الكبيرتان غار فيهما الأسى، وإعصار الحيرة والإرتباك. 


- سأعترف.. سأقول لكم كلّ ما تريدونه.. أقسم بالله لن أخفي عنكم شيئاً. 


هذا ما كان يردده (طراد) قبل أن يختفي عنّا صوته. 


قال أحد الموقوفين.. المتورّم القدمين، الغارقتين بالدّمِ المتجمّد:


- ومن يستطيع أن لا يعترف؟!. 


قصيدتي نقطة ضعفي.. الجريدة تشكّل خطراً قاتلاً عليّ.. سيوجّهون إليّ تهمة إزدواجيّة الإنتساب للأحزاب.. (بعثي وشيوعيّ) بآن واحد!!.. وهناك قانون الإعدام.. لمن يرتكب هذا. 


دخلوا.. علينا مرّة ثانية، طلبوا (لقمان)، انهارت نبضات قلبي، أخذوه بعد أن أوثقوه، و(طمّشوه).. ولم يعيدوا (طراد) إلينا.


اقترب دوري.. حان وقتي.. أزفّت لحظة موتي.. ربّاه.. أمّاه.. أبي.. أنا الآن أواجه الحقيقة.. حقيقة فظيعة ولئيمة..ولكن اسمها الحقيقة.. بلا أدنى كذب.. بلا توريّة.. بلا مجاملة.. أو تجميل.. نعم هذه الدّنيا ليست لنا.. نحن الجماهير أتيناها بالخطأِ.. اقتحمناها، وكنّا نجهل أنّنا غير مرحب بنا.. الطّببعة تحتقرنا.. وتزدرينا.. والغابة استكثرت علينا، أن نعيش بأمان، تحت ظلالها الوارفة.. الموت مصير الفقراء.. العبوديّة نصيبنا المحتوم.. كذب علينا الفلاسفة، وأصحاب الفكر.. ودعاة التّحرر.. من منّا يستطيع أن يكسّر قيده؟!.. أن يتمرّد؟!، أن يحتجَّ؟!، أن يثور؟!.. وأن يقول لا للطغاة، والمستبدّين.. أنا لا أمل عندي.. 

لن ننتصر على الظّلام.. لآخر لحظة من عمر الكون، سيكون الظّلام أقوى، وأشدّ إتّساعاً.. آهِ (مصباح) غيّبوك مجاناً. 


طال الوقت.. استبشرت خيراً.. وفرحت، وأحسّست بالأمان.. نعم.. حتّى الآن لم نسمع صوتاً (للقمان).. وهذا يعني لم يتعرّض للضرب.. وأقصد أن هناك أمل.. فقد تمرّ هذه الأزمة، ونخرج من هذا الفرع على خير.. ليت هذا يحدث.. قسماً سأتوقّف عن ارتياد المقاهي.. سألتقي مع أصدقائي في البيوت.. الأماكن العامة خطيرة، ومغامرة أنا في غنى عنها للأبد.


وزعق بقلبي صوت، قويّ، جهور، شجاع، وواضح النّبرة:


- لا تخف.. كن شجاعاً.. لا يقع في الفخّ، إلّا الجبان.. إنتبه لنفسك. 


أمّي دائماّ تدعو لي، ذات الدّعاء، وفي كلّ مرّة، تكون فيها راضية منّي:


- الله يبعد عنك، الظّلّام، والحكّام، وأولاد الحرام. 


يا رب استجب لأمّي.. فأنت تعرف كم هي طيّبة.. وخيّرة.. وبسيطة.. ورقيقة.. وضعيفة.. فلا تفجعها بي.. حتّى وإن كنت أنا حقيراً لا أستحقّ.. أعصاك حين أحسّ بالأمان..وأرجع إليك وقت الشّدّة والخطر.


فتح الباب المقفل، سمعت أصوات أقدام في الممرّ، وها هو (لقمان) يدخل، بلا قيود، أو طماشة على عينيه، ولا أثر لضرب، عليه أبداً.. لكنّ الحزن لم يرتحل، وعينيه ما زالتا هائمتان في الفراغ.. اتخذ مجلسه.. وذهب عنصر الأمن..فهتفت بخفوت:


- طمّني.. ماذا صار معك؟!. 


ظلّ مطرقاً رأسه بالأرض.. شعره الخرنوبي الطّويل كان مغسولاً من التعرّق.. في صمته وجع وألم.. تذكّرت ضحكته المجلجلةِ، ومزاحه الذي لا يتوقّف، وسخرياته العميقة والذكيّة.. ماذا فعلوا معك صديقي؟!. و(لقمان) ليس معنا في زنزانتنا، بل هو في زنزانة أبعد.. زنزانة صغيرة، ومظلمة، منفردة، لا تّتسع لدمعته، ولا لصمته. 


عادوا وفتحوا الباب، تضرّعت إلى الله أن لا يكون الدور عليّ.. أن يكون على صديق طراد، الذي لا نعلم ماذا حلّ به، وإلى أين أخذوه؟!.. لكنّهم نادوا اسمي.. أنا سمعت إسمي منهم.. تلفّت علّ غيري يتبرّع ويردّ عنّي، ويذهب معهم بدلاً منّي.. ولكن هيهات هيهات.


انحنوا فوقي.. أنهضوني عن الأرض.. في تلك اللحظة لمحت بريقاً في عينيّ لقمان.. وفهمت منه قوله لي.. لا تخف. 


دخلت مع قيدي.. ومع ظلمة تحيطني أنا فقط.. هم يرونني، وأنا لا أبصر سوى رعشتي بداخلي.. تعرّضتُ لضربة من عصى غليظةٍ، جاءت في خاصرتي.. كنت أسمع صوت طرقاتها،على الأرض.. 

وزعق بي صوت، كنت قد سمعته سابقاً:


- قلت لي أنّك (حزبيّ).. أليس كذلك؟!. 


هبط قلبي إلى الدّرك الأسفل، من جحيم الخوف، والذّعر.. إذاً عرف الموضوع!.. كشف كذبتي.. الويل لي.. بماذا أجيب؟. 


- نعم سيّدي.. أنا (حزبي). 


- (حزبي)!!.. ولا تحضر إجتماعات؟!

.. ولا تدفع إشتراكات شهريّة؟!.. ما شاء الله عليك يا (رفيق)!. 


عادت روحي إليّ، استبشرت خيراً.. أطلّ الأمل على أفقي.. لقد بالغت في مخاوفي، أكثر مّما ينبغي.. الأمر أهون الآن، على ما أظن:


- سيّدي.. أنا الآن أعمل في القطّاع الخاص.. كنت سابقاً موّظفاً، (أمين مستودع) في (مخبز الحمدانيّة) ولهذا صعب عليّ الإلتزام، وحضور الإجتماعات، ولكنَّني سأدفع كلّ ما يترتب عليّ من إشتراكات سابقة.


- نعم صلّح وضعك عند( شعبة الحزب).. ولكن... 


وجاءتني ضربة مباغتة، بالعصى، وأردف بسؤال:


- ماذا تعرف عن (طراد خليل)؟. 


أحسّست براحة أكثر.. أجبت:


- سيّدي.. أنا أعرف (طراد خليل) بحكم صداقته مع صديقي (لقمان)..و(لقمان) شاعر، وأنا أكتب الشّعر.. و(طراد) ممثل في المسرح القوميّ، و (لقمان) ممثل في المسرح الجامعي.. وهكذا تعارفنا، ولكن معرفة سطحيّة.. وهذا الذي مع (طراد)، أنا لأوّل مرّة أراه.. ولا أعرفه أبداً. 


وصلتني ضربة مؤلمة على فخذي، ثمّ تبعها سؤال:


- ما علاقتك.. (برابطة العمل الشّيوعيّ)؟. 


- سيّدي.. أنا لي أصدقاء في جميع أحزاب (الجبهة الوطنيّة التّقدميّة). 


صرخ.. وضربني بعصاه، على مؤخّرة رأسي:


- (أحزاب الجبهة)، لا علاقة لها بهذا التّنظيم، المعادي للدولة، وإلى الحكومة. 


تظاهرت.. بالجهل، والغباء، وعدم المعرفة، وقلت:


- أنا.. لا علاقة لي بهذا التّنظيم،

المعادي، وأنا لأوّل مرْة أسمع به. 


هذه المرّة أمسكني من أذني، وشدّها بعنف، ذكّرني يوم كان أستاذي (المعرّاوي)، يضع حصاة صغيرة، بين أصابعه، ويضغط بها على أذني، وهو يقوم بشدّها. قال:


- لكنّ صديقك (لقمان)،إعترف بتنظيمه في (رابطة العمل السّرّيّة)، واعترف عليك أيضاً، فأنت من مجموعته، وتحضر معه الإجتماعات، وتدفع الإشتراكات، وتقومان بتوزيع المنشورات، على الكتّاب والأدباء. 


تظاهرت بالدّهشة  والإستغراب..

وبالضّيق، والإنزعاج.. وكنت أشاهد، من خلال (الطّماشة) السّوداء، التي تغطي عينايَ، أرض المكتب،وأقدامه المتحرّكة حولي.. وأتسأل عن الجدّوى، من تغطية عيني، طالما شاهدت الرّائد (فضل الله) وحفظت اسمه، عند دخولي مكتبه، في المرْة الأولى؟!.


وهتفتُ.. بندفاع، وكأنّه جاءني عفوياً:


- لا.. يا سيّدي.. (لقمان) يكذب.. لقد خدعكم.. وغشّكم.. فهو ليس من (الرّابطة).. وليس منتسباً إليها.. ولا أنا. 


وصاح بي.. وكانت ضربة عصاه، على ظهري مؤلمة، وقويّة:


- قبل لحظات كان (لقمان) صديقك.. والآن تقول عنه كاذب.. أبهذه البساطة تتخلّى عنه؟!. 


- يا سيّدي.. أنا لا أتخلّى عنه.. لكنّ (لقمان) صغير بعد.. خاف منكم، فصار يقول لكم أيّ كلام.. ويعترف لكم بأنّه، منتسب لجهة معادية، وأنا شريكه.. نعم، هو خائف، ويكذب، فلا تصدّقوه. 


شاهدت قدميّه تتحرّكان، حول طاولته، ومن خلال الحركة، التي صدرت، عرفت أنّه جلس خلف الطّاولة.. وقال يسألني بتهكّم وسخرية:


- أنت شاعر، أليس كذلك؟. 


- سيّدي.. كانوا يسمّونني في الجيش، شاعر الفرقة الخامسة، عند حدود الجبهة، مع العدو الإسرائيلي، إسألهم عنّي، هناك. 


قال وبتهكّم زائد.. أنا أريدك أن تسمعني 

من شعرك الآن.


- سيّدي.. أنا بهذه الحالة، لا أستطيع أن أسمعك، من شعري.. حالتي الآن لا تسمح لي. 


وعاد إلى تهكّمه، وسخريته الباردة:


- وما بها حالتك؟!.. لتشكو منها؟!.. هل نحن أزعجناك؟!.. هل وضعناك على الدّولاب، أم نزعنا لك أظافرك؟!.. أم أطفأنا أعقابَ سجائرنا، بظهرك العاري؟!. 


همست بانكسار:


- أنا متعب سيّدي.. أرجوك. 


مرّت دقيقة صمت، خلتها دهراً.. وأنا أسأل بلاط المكتب، الظّاهر أمامي فقط، وهو يضحك بشدّة، من قدميَّ الحافيتين، والمتورّمتن من التّعب والإرهاق، إلى أن قال:


- إن كنت.. لا تريد أن تسمعني شعراً، فدعني أسمعك، أنا هذه القصيدة.


خفق قلبي بشدّة، وبضراوةٍ، وبقوّةٍ، وبجنون، أربكني، وأرعبني، يا الله!!.. كنت أظنّ، أنّ الأمور تسير نحو الخلاص.. لكنّها عادت لتتأزّم.. وتشتدّ، وتعود كما كانت في السّابق.. نعم.. ها هو سيقرأ عليّ قصيدتي، المنشورة في الجريدة الممنوعة، والّتي أهديتها إلى روح الشّهيد (فرج الله الحلو)، أمين عام (الحزب الشّيوعيّ).. والذي قتلوه تحت التّعذيب، وثمّ أحرقوا جسده، وأذابوه (بالأسيد). 


- اسمع هذه القصيدة، وأعطني رأيك بها، دون مجاملة، أومسايرة، بل بموضوعيّة تامّة. 


- ما قولك؟!.. هل أنت جاهز؟.. هل أبدأ بالقرأة؟. 


- تفضل سيّدي.. أنا أسمعك. 


كنت على وشك الموت، وأنا أتظاهر باستعدادي للإستماع. 


وقال:


- ( خراء حافظ الأسد، على مصطفى الحاج حسين).. ثمّ ضحك بقوّةٍ، وقال ما رأيك بهذا الشّعر الحديث؟.. أليست جميلة؟.. أجمل من كلّ ما تكتبه؟. 


عادت إليّ أنفاسي.. نعم.. لم يفتح حقيبتي.. ولم يقرأ قصيدتي، في الجريدة.. وهذا مدعاة للفرحة، وإلى السّرور، وإلى البهجةِ.. فليقل عنّي ما يشاء.. وليسخر من إسمي، ومن كتاباتي، المهم أن لا يقترب، من الحقيبة.. وهنا أحببت أن أجاريه، وأن أبعده عن التفكير، بفتح الحقيبة، قلت في نفسي، سوف أتظاهر بالمسكنة، وبالغباء:


- سيّدي.. عفواً.. هذا ليس شعراً.. إنْه كلام لا أكثر. 


وهتف.. وهو غارق بضحكته:


اتّضح أنّك (جحش)، لا تفهم بالشّعر الحديث. 


ستفرج يا الله.. ستفرج.. وسأخرج.. وأعود للحريّة، وسأتزوح بعد خمسة أيام.. ويبقى هذا اليوم ذكرى، أليمة وقاسية. 


- سيّدي.. أنت هكذا تسيء إلى الشّعر، وإلى مفهوم الحداثة. 


لم أتوقّع.. أن يقول لمن حوله، من عناصر، أرفعوا الغطاء عن عينيه، وفكّوا قيده، ودعوه يوقّع، ثم سلّموه أغراضه. 


وخاطبني يقوله:


- أحذّرك.. من الذّهاب للمقهى، مرّة أخرى.


وخرجنا.. أنا و (لقمان).. وظلّ عندهم الممثّل المسرحي (طراد خليل) وصديقه.


          مصطفى الحاج حسين.

                   إسطنبول



কবিতা:নেমন্ত্রণ, কবি: প্রিয়াংকা নিয়োগী, কোচবিহার,ভারত তারিখ:20.06.2024

 কবিতা:নেমন্ত্রণ,

কবি: প্রিয়াংকা নিয়োগী, 

কোচবিহার,ভারত

তারিখ:20.06.2024

_____________________

ঐ বাড়ির পুঁচকুটার সখ আছে বটে,

বড়লোক বাড়ির নেমন্ত্রণ এলে সেও যাবে।


মধ্যবিত্তের নেমন্ত্রণে একঘেয়ে লাগে,

বাবুমশাইদের নেমন্ত্রণ তাদের জন্য নহে,

এই বিষয়টি বাড়ির লোক কিছুতেই বলতে পারেনা যে।


বলতে গেলেই পুঁচকুর মুখটা আহ্লাদে গদ‌ হয়,

ঐ অবস্থায় বাকি কথা ওখানেই পরে রয়।

মা-বাবা কিছুতেই পারেনা সবটুকু বোঝাতে,

পুচকুটার মুখে শুধু বাবুমশাইয়ের বাড়ির থেকে নেমন্ত্রণ আসবে কবে?



انْسَ المنافقَ.. بقلم الشاعرة رفا الأشعل

 انْسَ المنافقَ..


كلّ الوجوهِ جميلة حتّى إذا 

يومًا تهبّ عواصف الأزَمَاتِ


ستُزِيحُ أقنعةً وتكشفَ أوجُهًا

من قبحها مربدّةُ القسَمَاتِ


هل عيشنا في خُدْعةِ خيرٌ لنا ؟

أم أنْ نفيقَ  بوابل الخيباتِ


أقدارنَا كم جرّعتنا علقمًا

والدّهرُ كالرّئبالِ في الوثباتِ


إنّ الحياة وإن تطُلْ فَقَصيرة

والموتُ يأتِي مسرعَ الخطواتِ


فانسَ المنافقَ خانَ يومًا أو قسا

قِسْهَا بما تولي من الحسناتِ


                      رفا الأشعل

تونس ( 10/06/2024)

(على الكامل)


مهرة العشق بقلم زينة شريف (قطر الندى)

 مهرة العشق 

______

كم أطعمت 

خد الهوى

 وما سقاني

فلا بكيت

 ولا البعد أضناني

فأقمت الحد

 على عصياني

وسجنت فؤادي

 بين أحضاني

ورويت بتفاؤلي

 كل كياني

فسبحانه 

مقلب القلوب 

 الذي أحياني

ملكة حرة تاج

 على رأس

 كل  من يهواني

أكتب الحرف

 وازن الفعل بالميزانِ

عذرااااء

 كفراشة ربيع 

تتأرجح في الجنانِ

كالخيل كريمة الأصل 

على مر الأزمانِ

سأكتبني انا

 واعلق

تميمة حظ

 فوق الجبين

فلقد كسرت كؤوس

الهوى وقتلت

 كل الحنين

ساكون انا 

زينة النساء

على مر السنين

زينة انا

ملئت ثنايا الكون

بعبق رحيقها

فيا ساهر الليل

 أنا النجم والقمر

وانا الضياء 

 وطول السهر

أملء القلوب عشقا

وفي غيابي 

 يُكره الصبر

رقيقة الروح 

 والهمس انا  القدر

فصدق من قالها

 من دوني الحياة

 ذنب لا يغتفر

 و أقسَم

أني لستِ كباقي البشر

واني زقزقة العصافير 

ولون الشجر

واني 

الحب الأول

وكل العمر

 مهرة العشق

وهدية القدر


بقلمي

زينة شريف 

(قطر الندى)




بيننا عهدٌ فلا تتجاهلينيق بقلم الأديب اسم الدوسري

 بيننا عهدٌ فلا  تتجاهليني

 وتذكري ...

تلك المودة بيننا وعلليني


صدق الكلام ميثاقنا

وعلى البراءة علّميني


أنا أن عشقتكِ واثقٌ

لن تتركيني..


وأن أبتعدتُ مرةً

لم تهجريني....


تلك الظروف ذاتها

لا تخذليني...


حماقة مني أزاول مهنتي

كي تطعميني


أني عشقتك ألف مرة

كي تعشقيني...


وأقولها عهد المحبة بيننا

وعلى يقيني


أعلم أذا قلتِ كفى

يعني بأنكِ تسمعيني


قاسم الدوسري



أغدا....أنساك..!! بقلم الشاعر جلال باباي( تونس)

 ☆ أغدا....أنساك..!!


        ☆جلال باباي( تونس) 


• تصدير: 

"لا أَنامُ لأحلم - قال لَها

بل أَنام لأنساكَ. ما أطيب النوم وحدي

بلا صَخَبٍ في الحرير، ابتعدْ كي أراك

وحيداً هناك، تفكِّر بي حين أنساكَ "

                       ▪︎ محمود درويش


لم يعد لهذا الصمت

داع حتى نعيد 

لآذاننا الموسيقى

توَقَّفَ الحديث في حناجرنا

 لن أبُوحِ قطعا بهتكها

لأعراض الأغنيات 

قادني البكاء إلى الصمت

بين غمامة الروح

 ومطرُ القلب الجريح

سوف يهزمها

 نسيانِ الأسماء والذّكرياتِ

ثمة باقيات كلام جديد

لم تكترث به كوكب الشرق

ذات لقاء..بأغنية المهملة:

..أغدا...أنساك..!!

بين هذا المطر والإنتظارات

لم يبق هناك ما يستحق

منٌي سوَى كتابة الوصيٌة

أو السّخريةِ من قدري

ماكثا 

بين  دقّات السّاعة الحائطية

وخفقتين للخطى المتعثرة

أحرجتني

ليلة انتشال الشهيد 

من تحت كومة  الدخان

سأخطّها ظهيرة وجعي

 كلّما مَشيتَ على رمل هشاشتي

سأسحب حلمي الزائف

 من وسادة الليل 

و أعترف بانّي لم أشف بعد ..

و أنّ رجولتي مازالت  قابلة للعربدة 

يقول لي صمتي ..

وشٌح ظلٌ يسارك برفيف ضياء

 كي تُبصرَ  فُتحة  البابَ 

يردٌد صمتي : 

كفاك عثرات على الأرض   !

 ليستقيم الجسد اللٌزج فوق الطين

قد تآكلت أطرافه من زلاّت العكاز

ها أني اشهق من شكٌي

 قد أكون جئت  من حياة أخرى 

بألف جرح وتعب أحاديٌ الوجهة

حلّ الظلام 

و لم أنتبه لذئاب الطّريق !

نال مني السفر

على طريق الغبار

 غصٌ حلق قلبي الزجاجي

 برائحة الإسفلت 

المنتشرة في المفترقات 

يصلني الصّوت 

بشظايا صخبه

ليرمٌم تشرّدي في النهار

 تحت شجرة من الضّوء

سأمضي 

من شرنقة العمر

 عنفوان نبض يصلني 

 بأخضر كهولتي 

وأمرّر  يدي اليمنى

عند مفترق نهديها

 إذ لفقد الملمس 

قد غزا وََسامة حقلها

من تناست مجرى الماء

صائفة قديمة

سأتدرٌب على نسيانها

 لن أكتب لِتَراني ..

سأعوٌل على بلسم الغة

حتى أعالج كدمات الليل الضامئ

سوف أقتصٌ من جشعها 

حتى أراني طريح عشق في الضوء.



(الشعر يستطيع كل شيء..حتى عندما لا يستطيع شيئاً..) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 تحية للنص المدهش الذي يعكس وجه الحياة المتجدّد..تحية للقصيدة المتشبثة بهويتها كقصيدة..


  (الشعر يستطيع كل شيء..حتى عندما لا يستطيع شيئاً..)


الفعل الثوري العربي الذي تحقق في السنوات الأخيرة إبان إشراقات ما يسمى ب”الربيع العربي” لم يكن معزولا عن خطاب الشعر،مثلما لم يكن معزولا عن الخطاب الذي تنتجه وسائل الإعلام.لقد كانت القصيدة كامنة في وجدانات هؤلاء الشباب فعلى سبيل المثال كان الشباب يرددون أثناء الثورة قصائد محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وغيرهم، كما استعادت الثورة التونسية وبعدها الثورات العربية الأخرى قصائد شاعر عظيم بقيمة أبي القاسم الشابي،حيث صدحت الحناجر في ساحات وشوارع وميادين مدن عربية عدة “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب للقدر”. فما هو دور الشعر في ثورات الربيع العربي؟

وهل ساهم في تأجيج مشاعر الثوار،أم أن الثورات قد شكلت مصدر إلهام للشعراء ولو على حساب القيمة الشعرية؟

وسؤال مغاير أقول: لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا، عن الثورة؟ !

هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية، وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة، أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.

والوجوب المفترض عن الشعراء-أو المفروض عليهم !-هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه، من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة، لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق، أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة، وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرض-الثورة.

وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه، ويعتبره الأخرون، صوت أمته، وضميرها الحي، الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها، المعدّد لمناقبها، الممجّد لإنتصاراتها، الرائي لقتلاها، الشاتم لأعدائها…وربما هو كذلك، أو كان كذلك، في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)، قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ، وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات، فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته، وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام..حتى علماء الكلام !.

حضور الشعر في الثورات العربية:

يقول الشاعر المصري جرجس شكري عن حضور الشعر في الثورات العربية:”الشعر بصورته المباشرة كشعر وكقصائد، ربما لم يكن حاضرا بشكل مباشر. الأقوى من وجهة نظري هو حضور الشعرية في التجمع أو في ممارسات الثوار. الأفعال التي كان يمارسها هؤلاء، هي الشعر من وجهة نظري”. غير أن الشاعرة اليمنية ابتسام متوكل، رصدت حضورا شعريا قويا خلال الثورة اليمنية سواء أكان الشعر فصيحا أو عاميا أو شعر تفعيلة أو شعرا عموديا.

ويبدو أن قصيدة النثر لم تكن حاضرة بنفس شكل القصيدة الإيقاعية، وتقول الشاعرة اليمنية:” المجتمع اليمني مازال مجتمعا سماعيا ولهذا السبب، الإيقاع والعبارات الحماسية تحرك فيه الكثير، لذلك كانت الثورة اليمنية حافلة بالإنتاجات الشعرية، على مستوى الأغاني والقصائد والإصدارات أيضا”. وتضيف:” في تاريخ الثورات العربية كان الشعراء دائما في طليعة من قادوا الفعل الثوري التوعوي، ومازال هذا الفعل حاضرا في اليمن إلى اليوم ومنذ ثورتي 1962 و 1963″.

على سبيل الخاتمة:

أثارت الثورات العربية وخاصة السورية الكثير من الأسئلة حول دور الشعر والشاعر، وكيف يمكن لشاعر أن يصطف مع قاتل أو يتغاضى عن صرخات الضحايا ويغوص في كتابته إلى عالم الأحلام بعيدا عن الواقع؟ كما يثار سؤال آخر عن وسائل الإعلام التي صدّرت إلى الواجهة شعراء بعينهم لمجرد الموقف بعيدا عن السوية الشعرية.

ويشكك البعض في مستوى كثير من القصائد التي كتبت في لحظة الانفعال، ويبدي موقفه إزاء ضحالتها الفكرية وافتقادها للشاعرية، ويذكر أن القصيدة المنددة بالقتل لا توجب السباب أو الشعاراتية المباشرة.

وفي هذا السياق،هل يمكن للشعر أن ينهض بأي دور في زمن الثورة،وفي أزمنة الغمة؟ أي دور ذاك الذي يتأمّله المرء من الشعر في زمن الرغبة عن القراءة وتهميش الثقافة؟ هل للشعراء أي تأثير يذكر في العالم العربي؟ وهل ما زال الشاعر يمثل ضمير قومه ولسان حال شعبه،أم أن هناك مستجدات تفترض آليّات التعامل معها؟

تحية للنص المدهش الذي يعكس وجه الحياة المتجدّد،تحية للقصيدة المتشبثة بهويتها كقصيدة،فمكانها ومكانتها بقامة أبجديتها،وليس بمهارتها في استرضاء السلطة وتملقها،وإن كانت سلطة شعبية..

إن التطلعات كلها مشروعة أمام”ثورة الشعر” لتحلّق القصيدة في فضاء الحرية بأجنحتها وأسلحتها وجمالياتها الخاصة كظاهرة فنية أصيلة..

ختاما،لا ينبغي أن نظلم الشعر،إذ من المؤكّد أن الأبيات الشهيرة لأبي القاسم الشابي وجدت سياقها الطبيعي في الشعب الذي أراد الحياة، فاستجاب القد،وفي القيود التي انكسرت بمجرد الانتصار على الخوف،وإجبار طاغية على الفرار خوفاً من الشعب،لكننا سنظلم الشعر كثيراً إذا اعتبرناه مجرد حطب للثورة،إن الشعر يستطيع كل شيء حتى عندما لا يستطيع شيئاً..


محمد المحسن



هل آن الأوان لوضع خطط مرحلية وأخرى طويلة المدى..للتصدي للحملة الغربية الموجّهة ضدنا..؟! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش المشهد الإعلامي العربي:


هل آن الأوان لوضع خطط مرحلية وأخرى طويلة المدى..للتصدي للحملة الغربية الموجّهة ضدنا..؟!


هل يمكن القول بأنّ الدولة العربية قد وضعت خططا إعلامية واضحة، سواء على المستوى القطري أو القومي؟ أم أنّ ما نلحظه هو مجرّد توجيه استثماري أو تخطيط برنامجي قصير الأمد؟.. وبسؤال مغاير:هل فكّر القادة العرب في وضع خطّة إعلامية دقيقة، من شأنها الرد على الحملات الغربية في محاولة لتغيير اتجاهات الرأي العام العالمي المضادة للعرب، ليس تجاه قضايا سياسية معينة،وإنّما حيال الصورة العربية إجمالا، ليكون ذلك أساسا لتغيير اتجاهات الغرب حيال القضايا العربية السياسية في ما بعد؟

إنّ هذه التساؤلات- البريئة-يمكن أن تطرح على المستوى القطري، كما يمكن أن تطرح على المستوى العربي،فإلى جانب التخطيط الإعلامي في كل قطر عربي، فإنّ التخطيط الإعلامي في عالمنا الراهن، الذي تزداد فيه الفجوة الإعلامية بين الدول المتقدّمة والنامية، وحيث يختلّ فيه التوازن في تبادل الأنباء والأفكار في ما بينها، يحتاج إلى أن يرتفع إلى المستوى الإقليمي حتى يتمكّن من الوقوف في مواجهة التسلّط الجديد لوسائل الاتصال في الدول المتقدّمة.

في ضوء هذه النقطة فإنّ الدعوة إلى تخليص الخطاب الإعلامي العربي من قيود الترهّل، والإرتقاء به إلى مستوى التحديات التي يفرضها الراهن الإعلامي الكوني، ليست مقصورة على هذا القطر أو ذاك، بقدر ما هي دعوة قومية شاملة، ذلك أنّ الإعلام القطري وإن نادى بعضه بشعارات قومية،لا يحقّق الوعي القومي، أي أنّنا على صعيد الأقطار العربية مجتمعة، وعلى صعيد جامعة الدّول العربية، نحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى، إلى ثورة إعلامية شاملة لا تتوقّف عند حدود ثورة المواصلات والتكنولوجيا وفن صياغة الخبر، وإنّما تتماهى مع كل هذا، جنبا إلى جنب مع توعية قومية أصيلة في أخطر مرحلة يجتازها الفكر القومي العربي على مدى تاريخه.

فلأوّل مرّة هناك شعب عربي كامل مسيج بالأكفان، داخل أسوار عالية،هو الشعب الفلسطيني، يتعرّض لحملة دموية مرعبة تستهدف مسخ هويته وسلخه من جلده.

وبالأمس فقط،ولأوّل مرّة هناك شعب مسلم، تعرّض لحملة إبادة جماعية عبر قصف جوّي مرعب اختلط فيه اللّحم البشري بالتراب- هو الشعب الأفغاني- الذي استغاث بكل ضمير ينبض إيمانا بوحدة هذه الأمّة وقدسية هذا الدّين.

ولأوّل مرّة هناك تراجع وانحسار للفـــــكر القومي نفسه،حتى أنّه يتخذ في أحسن الحالات موقفا دفاعيا، يصل بالمواطــــــن العادي إلى حافة الإحباط.. لذلك نحن جميعا في منعطف تاريخي حاسم ومحفوف بالمخاطر، حيث يرقى الإعلام إلى درجة قصوى من الأهمية، لا باعتباره جزءا تقليديا من مهام الدّولة، أي دولة، بل باعتباره جيشا حقيقيا في أشرس المعارك.

ما أريد أن أقوله انّ إسرائيل تحاربنا بجيش إعلامي يستهدف اقتلاع جذور الهوية القومية العربية من أعماق النّفس البشرية،من خلال إرباك خط الدّفاع الأوّل، العقل العربي،ثم إنهاكه وتركيعه خارج حدودنا العربية أيضا، والولايات المتحدة والغرب كله معها، يحاربنا بجيش إعلامي يصوغ الأحداث السالفة والآنية عبر تغطية كاملة تستند إلى خلفيات تاريخية مغلوطة،وتحليلات سياسية مغرضة، من شأنها تشويه صورة العرب وتمجيد العنصرية الصهيونية،ولعلّ أبرز مثال لذلك الصورة الأمريكية عن العرب التي تضعنا جميعا في نمط جامد في أذهان الشعب الأمريكي تماهيا مع أهداف الصهيونية،وقد تجلّى هذا بوضوح إثر حرب 1973،حين صوّر العربي"بالنفطي" الذي يوظّف ماله ‘لابتزاز الغرب’، كما صوّر العربي الفلسطيني "بالإرهابي"الذي يزعج العالم بسلوكه العنيف!

إنّ نقاط الالتقاء والاتفاق بين الإعلام الأمريكي ونظيره الغربي جدّ متشابهة ولا اختلاف بينها إلا من حيث اختيار نقاط الإساءة التي تصبّ جميعها في خانة التجريح لضمير هذه الأمّة ودمغ السلوك العربي بالاهتمام المفرط بالجنس والتخلّف والتعصّب والوحشية.

ماذا يعني هذا؟

هذا يعني أنّ التداعيات السلبية للخطاب الإعلامي العربي حيال نجاح الإعلام الغربي الصهيوني، جدّ مؤثّرة، وهذه مسألة مردّها افتقار الإعلام العربي للعناصر الموضوعية التي يتشكّل منها التخطيط الإستراتيجي القصير والطويل المدّة، التي تصوغ جدلية العلاقة بين هذا وذاك، مما يفضي في النهاية إلى تلميع صورة العرب والارتقاء بمضامينها إلى مستوى أفضل يزيل الظلال والتشويهات عنها.

ولذا بات لزاما علينا ونحن نرنو بأبصارنا إلى أفق كوني قاتم، أن نعيد قراءة ذواتنا قراءة واعية تستجيب للتحوّلات العالمية بكل تناقضاتها، بما يمنحنا هامشا فسيحا لاستجلاء ملامح الواقع الغربي واستبصاره من زاويتين مختلفتين:

الأولى تطلعنا على طبيعة "المنتوجات الغربية"التي سُوّقت إلينا، ونعني منتوجاتهم ‘المأسوية’ التي لا علاقة لها بالجريمة.. أو الانتحار، ولا كذلك الجنون، فهذه البضائع متوفّرة لدينا، ولهم ‘الفضل’ في ذلك، وإنّما نقصد التضخّم والبطالة والعجز في ميزان الدفوعات، علاوة على الحروب والتخلّف وهجرة الأدمغة. والزاوية الثانية تجعلنا ندرك، خصوصا في لحظة صفائنا الذهني، أنّ نفطنا العربي وأموال دولنا الغنية وما تسميه هذه الأخيرة بالمساهمة الفعّالة في استقرار الاقتصاد العالمي، ليس معترفا به على الإطلاق، لأنّ الصّور المزدهرة للمأساة في الإعلام الغربي عكسية تماما، فالشائع هو أنّ الابتزاز النفطي من جانب العرب هو المسبّب في ارتفاع الأسعار والتضخّم والبطالة وبقية الأمراض الغربية المزمنة، وعليه فمن الغباء أن نقبع خلف التخوم، اعتقادا منّا أنّ هذه المساهمة ستعود إلينا بمردود سياسي في قضية الشرق الأوسط! ولنا أن نعتمد من الحقائق والوقائع والمعلومات ما يفيض بها الإعلام الغربي نفسه، وفي مقدمته الإعلام الأمريكي.

ماذا بقي أن أضيف؟

بقي أن نعترف بحقيقة محبطة مفادها أنّ الإعلام العربي ما فتئ يبحث بجهد غير ملول عن مشجب لإخفاقاتنا وأزماتنا بالمحيط العربي، من دون أن يتمكّن من رؤية ذواتنا في مرآة أزماتنا المأسوية، أو ينخرط في اشكالات المجتمع العربي التي تمثّل فلسطين بؤرة التكثيف التاريخي والثقافي والسياسي لإخفاقاته وهزائمه.

وإذن، كان لا بد من فهم صريح لتناقضات الواقع ما دمنا قد غدونا نعيش لحظة كونية موسومة بكل أشكال الانكسار، ومطوقّين بتراكمات دراماتيكية تنهشنا حد النخاع، ذلك في الوقت الذي يشكو فيه خطابنا الإعلامي العربي من حالات الترهّل والتكلّس، حيث لم يرق إلى مستوى التحديات التي يمليها الراهن الإعلامي الكوني بكل تداعياته،وقد أصبحنا تبعا لذلك نؤسّس من دون وعي منا، لمصالحة وهمية مع العدوّ بدل أن نفكّر في صياغة خطة إعلامية محدّدة نعتمد في جوهرها على فهم أساليب الدعاية المضادة لنا كي نتخيّر أساليب الرد المناسب لها.

ما العمل؟

إذا كان التخطيط الإعلامي على المستوى القطري لا يخلو من إشكاليات يمكن لكل دولة معالجتها وفق نظامها السياسي والاقتصادي، فإنّ التخطيط الإعلامي على المستوى القومي العربي في أمس الحاجة إلى توافق إرادة هذه الأقطار بما يجعله يرتكز على القضايا المشتركة وينبع من التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على مستوى الجامعة العربية ومنظماتها، وهو أمر له أهمية قصوى في ظل الظروف الراهنة، حيث يشكّل عنصرا فعّالا في قضــــية الصراع العربي الإسرائيلي، التي ظلّت حتى اليوم مفتقرة إلى تخطيط إعلامي بعيد المدى على المستوى العربي.

وعليه، فنحن مطالبون- الآن.. وهنا- بوضع خطط مرحلية وأخرى طويلة المدى للتصدي للحملة الغربية الموجّهة ضدنا، التي لا يمكن تفسيرها إلا كونها صدى للصراع الحضاري والتاريخي بين الشرق والغرب، وهي تهدف بالأساس إلى اجهاض المد الإسلامي المتنامي، علاوة على الرغبة في تكريس التخلّف العربي وكل مظاهر الانكسار والتصدّع.. وحتى لا يسوء حالنا أكثر مما نحن فيه، بات لزاما علينا اعتماد تخطيط إعلامي ينأى عن الارتجال، ويتلاءم مع التنمية العربية،والإعلام المحلي والإقليمي الرامي إلى تغيير الصورة، ولن يتأتى ما نرومه إلا من خلال التخلّص من التبعية الحضارية التكنولوجية التي تطبع التكوين الإعلامي، والنجاح في خلق فكر إعلامي عربي لا يرتهن لنفوذ الخطاب الغربي، بالإضافة إلى هذا وذاك أصبح من الضروري التفكير في إنشاء محطة فضائية عربية تتجه إلى الغرب وتخاطبه بالأسلوب المقنع والمناسب، وتردّ في ذات الوقت على الافتراءات،بما من شأنه أن يظهر الحقائق،عبر إيصال الصّوت العربي إلى الأجهزة الإعلامية المباشرة، لاسيما أنّ العديد من الأصوات الإعلامية العربية تعالت في المدة الأخيرة منادية بتجسيد هذا الطموح.


محمد المحسن




الساحة الأدبية تحتفي ب" أصوات بعيدة" ( مولود شعري فاخر ) للشاعرة التونسية السامقة سميرة بنصر بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 (الجديد )


الساحة الأدبية تحتفي ب" أصوات بعيدة" ( مولود شعري فاخر ) للشاعرة التونسية السامقة سميرة بنصر


ربما يصعب على الناقد أو الأديب أن يقدم لديوان شعر،لأن الشعر هو الذي يقدم ذاته إلى المتلقين،والشعر سيد الكلام لأنه لغة الأحاسيس وفيض المشاعر،والشاعر هو الذي يتحكم بزمام اللغة والمجتمع،وطالما أقيمت الحفلات وأوقدت الولائم ابتهاجاً بولادة شاعر عند القبائل العربية،يكفي الشاعر أنه سفير الكلمة من جمودها إلى حيويتها،ومن معجميتها إلى اصطلاحها إنه يخرجها من قوقعتها إلى عالم الحياة فيلقيها في القلب لتأخذ معانيها التي تتعدد بتعدد المتلقين.هكذا الشاعر دائماً،فكيف إ ذا كانت شاعرة تكتب بأحاسيسها ومشاعرها،تكتب لكي تغازل الغيم و الأنهار، وتنشد للشمس وهي تمد أول خيوطها في هذا الوجود..إنها الشاعرة التونسية السامقة سميرة بنصر التي  تستفيق على أيقونة التاريخ تحمل قلمها الفذ وتجسد روعة الفن،وفنية الروعة من خلال ما تقدمه للمتلقي من شعور فياض نبيل..

سميرة بنصر الشاعرة والإنسانة،شاعرة أنجبتها مدينة منزل بورقيبة الشامخة وسحرتها محبة الشعر وهي المالكة للجمال إن أومأت بهذيانها.

تداعب الشاعرة قصائدها العاشقة بأناقة أرستقراطية عريقة كما لو أنها أميرة غجرية،كما لو كانت سليلة قصيدة باذخة في تمجيد الندى..المدى،الهدى والتجلي..تعزف بمهارة على أوتار الحرف،فنستمتع برجع صداه..

ألم تعنون مولودها الشعري الجديد ب "أصوات بعيدة" أصوات تراقصها كلما ابتعدت،وتداعبها كلما اقتربت..

كما لو كان شعرها هو حارس أربجها الثمين،كمال لو كان من على موكبها العرائسي الرمزي يغني قصائدها في الزحام،فتراها منقادة لمعشوق لا تراه العين.

 فبمجرد ما تشرع في قراءة قصائد الديوان واقتحام  هذا الحريم الشعري المهيب،يغمرك انتشاء متوهج فتتورط في وله لا فكاك منه.

و"أصوات بعيدة" محاولة عاشقة لمشاغبة القصيدة في كينونتها وإغراء الفضول المعرفي وسحر الكتابة وعشق اللغة المفتونة بذاتها وقراءة تستمد نفسها من الذوق والجمال.

وهذا "على الحساب..إلى أن تداعب عيونكم وأناملكم الكتاب.."


محمد المحسن




حين تحرّك فينا الثورة التونسية ما أسن من أفكار وأساليب،علها تتنفّس هواءها الطازج. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين تحرّك فينا الثورة التونسية ما أسن من أفكار وأساليب،علها تتنفّس هواءها الطازج.


-نحبُّ البلادَ…

كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ

صباحًا

مساءً

وقبل الصّباحِ

وبعد المساءِ

ويوم الأحدْ


(الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد)


-كنت على الأرض التي انتفض لحمها البشري في السابع عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول 2010، فشاهدت وشهدت،وإن كانت مشاهدة لم تخرج من حيز الشهود-أسفا-إلى فضاء الإستشهاد..!( الكاتب)

-لا يفنى ثائرٌ ولا تموت ثورة قامت لإحقاق العدل وإزهاق الباطل..( الكاتب)


كيف يمكن للغة أن تنجو من لغوها،وهي يحك بعضها بعضاَ،في محاولة يائسة للتعبير عما انطبع وينطبع في الذات من مشاعر وخواطر، يثيرها ويركض أمامها حدث الروح التونسي الأعظم: الثورة؟!

وبعيدا عن التجريد المشخصن الذي آلت إليه كلمة “الثورة” وعن تصدرها قائمة أسهم الخطاب في بورصة العجز العربي الثرثار، بل بعيدا حتى عما تفجّره من تداعيات معنوية وحلمية، أجدني أميل إلى العودة إلى التجسيد،إلى القبض على الشيء والمعنى بالحواس المتأتئة، قبل أن تقتنصهما التسمية، وتحبسهما في أقفاصها الرنانة.

وما كنت لأجرؤ على مجازفة كهذه،لولا أنني كنت على الأرض التي انتفض لحمها البشري في السابع عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول 2010، فشاهدت وشهدت،وإن كانت مشاهدة لم تخرج من حيز الشهود-أسفا-إلى فضاء الإستشهاد..!

ثمة سؤال أبله يدور في خلدي، قد يصلح ليكون بداية،وإن كانت فجة، للملامسة المقصودة هنا: لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا،عن الثورة؟!

هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية، وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة، أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.

والوجوب المفترض عن الشعراء-أو المفروض عليهم،هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه، من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة، لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق، أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة،وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرض-الثورة.

وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الآخرون،صوت أمته، وضميرها الحي، الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها، المعدّد لمناقبها، الممجّد لإنتصاراتها،الرائي لقتلاها، الشاتم لأعدائها.وربما هو كذلك، أو كان كذلك، في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)، قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ، وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات، فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته، وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام، حتى علماء الكلام!

لكن الناس ينتظرون من الشاعر،الشاعر وحده،أن يقول ويكتب! وهو في داخله يحس أنها مهمته هو، دون غيره! وكأنه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ،وسيرورة الواقع، ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف، هذه المرة،لا المحفوظ! وكأننا ما نزال ننظر إلى وجودنا نظرة شاعرية، تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي، بانثيالات عاطفية،وتهويمات مدغدغة،وبلاغات لفظية،لا تعمل على تحويل الدم إلى حبر فحسب، بل أيضا على تحويل الشهادة إلى رمز، والألم البشري إلى مجاز،والفجائع اليومية إلى استعارات..!

والسؤال الأبله السابق يلد أسئلة أخرى ليست أقل بلاهة: هل تعد قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في الثورة، أم أنها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها؟

وبسؤال مغاير أقول: هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في التأسيس للديموقراطية، الحرية والعدالة الإجتماعية،أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس باللانفع، وإراحة ضمائر متلقيه من الرهق الذين يرين عليها، بسبب ما تعانيه من شلل شامل؟!

وحين يستعمل أحدهم لغته لتصوير رمية حجر أو نظرة غضب أو مصرع شاب أو نواح أم.. هل يكون في روعه أنّ صوره أصدق وأبلغ وأبعد أثرا من صورة الحقيقة التي رآها عيانا، أو عبر ما بثته أجهزة الإعلام إبان المد الثوري الخلاّق؟!

وهل في ظن أحدهم أنّ أولئك البسطاء الواقعيين،ولا أقول الأسطوريين،الذين ثاروا على القهر، الظلم والظلام،قرؤوا قصائده،أو فهموها،أو اتخذوا من تكاثرها وتراكمها ذخيرة لهم في مواصلة نضالهم، وهم الذين ما انتظروها حين أشعلوا الثورة التونسية الخالدة واشتعلوا بها؟!

وإذا كانت هذه القصائد موجهة إلى بقية الشعب والجماهير والحكّام العرب وصنّاع القرار، أن”تنبهوا واستفيقوا أيها…” فلماذا لم تصل رسالتها بعد،على الرغم من تلال القصائد المتلّلة،التي تكرّر الفحوى ذاتها دون هوادة،بالألفاظ ذاتها دون هوادة،عبر عقد ونيف من عمر الثورة التونسية..وأقل بقليل من عمر ما يسمى “بالربيع العربي”؟!

أما إذا كان يراد من هذه القصائد والكتابات أن تكون أعمالا فنية جمالية، تسعى، بأدوات دقيقة ومحترفة،إلى استلهام الحدث لتخليده، وجعله عبرة وراقة وجدانية أصيلة، تنفعل بها وتتعلّم منها الأجيال القادمة، فلعمري ألا تكفي قصيدة جيدة واحدة، أو بضع قصائد لتلبية هذا المطمح؟

أجل، إنها أسئلة بلهاء،لا أظنها ترد على خاطر كثير من الشعراء وغيرهم من ممتهني الحرف،وهم يحاولون صياغة تجليات الثورة في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث؟

ولعل هذه أن تكون إحدى شؤون الثورة التونسية وغاياتها،أن تكشف فنيا بلاهتنا،وتفضح ادعاءاتنا وأكاذيبنا على صفحة مرآة صدقها الجارحة،وتثير فينا شهية،الثورة،بدورنا،على ما تواتر واستتب حتى أصبح أعرافا وتقاليد،وتحرّك فينا ما أسن من أفكار وأساليب،علها تتنفّس هواءها الطازج.


محمد المحسن



على هامش المشهد العربي المترجرج..في ظل سيلان الدم الفلسطيني بغزارة بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش المشهد العربي المترجرج..في ظل سيلان الدم الفلسطيني بغزارة


العرب بين-ثنائية-تاريخ الإغتصاب..وأوهام"ربيع عربي" ذبلت زهوره وأغصانه..!


  

أمد/ ّلمن في الظلام الدماء؟..سؤال يلح وتزهر من حوله أغنية السائرين على جثث زيتتها المكائن والدم والكبرياء.."(الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب)


..الآن..وهنا،ودون أيّة مبالغة،بدأنا نجتاز أخطر المراحل في تاريخنا العربي الحديث،وذلك بعد أن ولجنا ألفية ثالثة وسنصافح سنة ميلادية جديدة (2024)..

والآن..وهنا،مازلنا نقبع خلف خطوط الإنكسار،نتجرّع مرارة هزيمة مضى على-جرحها الدامي-أربعة عقود ونيف..

والآن كذلك نتساءل بأسى:هل غدا تاريخنا امتدادا لواقع مهزوم ما فتئ يكرّس مظاهر الإنكسار والتصدّع إلى حد أصبحنا فيه في وئام ووفاق مع كل تداعيات الترجرج والتخلّف،بما يفسّر أنّ هزيمة 67 لم تكن هزيمة عسكرية على الحدود،بل كانت هزيمة موقف عربي لا يزال مرتجّا،ورؤيا عربية لم تلتصق حميميا بطين الأرض ولم تستبصر آفاق الدروب..

أفلم نخض حربا مهزومة عام 67 وأخرى بديلة عام 73 وحربا أهلية عام 75 ومازالت هذه الحروب علاوة على أخرى غير معلنة تنزف،ومازال كذلك صفّنا العربي مبعثرا،كما ظلّت فلسطين تبكي بصوت مشنوق حظّها العاثر..!

ألم نتغافل عن تفاصيل هذا الواقع المأزوم دون صياغته بما يسمو بطموحاتنا إلى ماوراء تخوم الراهن،واكتفينا بالإدانة والهتاف لثورة حتى النّصر!؟..

ألم تتجاهل تداعيات الهزيمة بدل التوغّل في أدغالها وشعيراتها الدقيقة لتعريتها وكشف انعكاساتها المريرة على الفرد والجماعة والوطن والعقيدة،واعتمدنا في علاجنا وريقات التّوت لتغطية جسد عربي عليل،ترهّل وأثخنته الجراح؟!..

فهل اختلطت علينا الأمور إلى حد لم نعد نميّز بين تجليات-الهوية-في مواجهة الإغتصاب الأجنبي،وإفرازات-الإقليمية-كأحد ثمار الهزيمة،وتصالحنا تبعا لذلك مع الوهم وأدرنا ظهرنا للحقيقة،وافتقدنا كنتيجة لهذا وذاك-الحساسية- القومية كأحد العناصر الجوهرية في بناء أي صرح حضاري !؟..

إنّ لتراكمات التاريخ المؤلمة عميق الأثر في تهرئة أوضاعنا المترجرجة،فالقبول العربي التدريجي لما كان مرفوضا من البعض كقرار مجلس الأمن رقم 242 قد أصبح القاسم المشترك أو الحد الأدنى بين العرب جميعا،الأمر الذي يعني أنّه الحد الأقصى لغالبية العرب وبدلا كذلك من أن تصبح-القدس-مركزا للمشكلة برمتها،كان بالإمكان لهذه المدينة التاريخية أن تصبح بوابة السّلام بالعودة إلى جوهر قرار التقسيم عام 1948،لابالعودة إلى قرار 242 الذي صاغته ظروف الهزيمة العربية عام1967 أكثر مما صاغته المقومات الأكثر عمقا وأمنا،إلا أنّنا وفي ظل التشرذم العربي وعلى امتداد المسافة الفاصلة بين الهزيمة والإستسلام،صرنا نقبل كل المقدمات ونرفض بعض البعض من جزئيات النتائج وتفاصيل النهايات،وحتى هذه لا نرفضها سرا،الأمر الذي يكرّس زحف الهزيمة الطويل في التخلّف ونقصان السيادة الوطنية،ويؤجّج كذلك حروب القبائل والعشائر والطوائف،ويغيّر اتجاه البنادق إلى حروب الإخوة-الأعداء:

حرب لبنان-حرب اليمن-حرب الصحراء الغربية..ألا يكفي هذا ؟!..

ألا يكفي أن تضيق-بعض السجون العربية-بنزلائها من العرب،كالسجن الصهيوني تماما،وترتفع أسعار النّفط في بلاد النّفط،وأسعار القطن في بلاد القطن،ويتحوّل النفط العربي في أنابيب أمريكا إلى قذائف إسرائيلية وأمريكية حارقة على الشعب الفلسطيني الأعزل وعلى بغداد..هذا في الوقت الذي تكفكف فيه حلب دموعها الساخنة وتبكي الموصل بدموع حارقة؟!..

ألم نكتفي ومن خلال التصوير السياسي العقيم بتجسيم”الحائط الصهيوني المسدود”دون التفكير في اختراقه وظللنا في المقابل نرنو إلى-المنتظم الدولي-بعيون تدعو للشفقة،علّه يدفع بالإسرائيليين إلى مبادرة في حجم الخروج الأمريكي من فيتنام والإقبال الأمريكي على الصين،أو في حجم الخروج الفرنسي من الجزائر..ألم تخض أغلب الشعوب حروبا وخرجت منها تحمل رايات الإنتصار،وبقينا في المقابل في منعطف التاريخ ننتظر إنتصارا طال اختماره في ظل أكثر المراحل سوادا في تاريخنا العربي،ونراقب بأسى خط الإنكسار العربي وهو يتناقض بصورة مآسوية مع بقية خطوط العرض والطول في خريطة العالم !

ألم نواجه-همومنا النبيلة-بموقفين فقط:الأوّل هو الدعوة إلى”الجهاد المقدّس”الذي يصل إلى أعلى ذراه بقطع العلاقات مع الدول التي لا تنقل سفاراتها-من القدس-

والآخر هو المقاومة:مقاومة الشعب الفلسطيني الباسل في الأراضي المحتلة،بقطع الطريق على العدوّ بكل ما لديه من طاقة على المقاومة،وما عدا ذلك كان الصّمت رهاننا،ولا عجب في ذلك طالما أنّ “مونولوغ الحاكمين ” سائد و”ديالوغ المحكومين ”غائب،وما علينا إذن إلاّ أن نحدّد للأجيال القادمة من كان القاتل ومن كان القتيل (!)..

نقول هذا،لأننا غدونا في قبضة التاريخ..تاريخ الإغتصاب-الذي أباحته المواثيق الدولية وصاغه صمتنا المريع،بعد أن أدرنا ظهرنا للحوار الحضاري والعقلانية والحرية وتبني المنظور التاريخي لحركة الوجود والمجتمع-الإنسان-وتماهينا مع-الخراب-دون أن نسأل: لمَ لا تزال فلسطين تبكي بقهر جرحها الدامي..تستغيث حلَب..وترفع الموصل يديها إلى السماء طلبا للرحمة!..

لمَ لمْ تزل بغداد تندب بصوت مشنوق حظّها العاثر ..؟

و..لمَ تحرّرت بقية الشعوب من عقال الوهم وتصالحت مع الحقيقة..؟

ألم تزح أنغولا عن كاهلها أركان امبراطورية دامت أربعة قرون ! وتمكّن البرتغاليون من التخلّص من سطوة دكتاتورية دامت أربعة عقود،وتخلّت إسبانيا عن صحراء المغرب بعد أن أزاحت من على عينيها غشاوة فرانكو !

فهل كان يستطيع الصّمت-وهذا حالنا-إلا أن يصبح لغة العصر العربي الجديد،بسقوط الشهداء،وتدنيس القدس،وقضم الأراضي الفلسطينية بأنياب قطعان المستوطنين!..

ماذا بقي إذن !؟

ألا يكفي نصف قرن من الإحتلال لوقف النزيف الفلسطيني واسترداد الأرض ودحر الإحتلال وتحرير الشعوب العربية من قمقم الوهم العقيم لتستوعب دروس التاريخ وتتمثلها على نحو يعيد لمجدنا بريقه الخلاّب..أم أننا انخرطنا-دون وعي منا-في جوقة الرقص مع الذئاب..احتفاء “بربيع وهمي” ذبلت أغصانه..؟

ألم ندرك بعد،أنّ الغرب الإستعماري لا يزال حاضرا في عمقنا بوجهه البشع يحاربنا برفقة-رموزه-وعبر أساليبه المخاتلة ويجرّنا صوب مهاوي الضياع.

قلنا هذا،لأننا أشرفنا جميعا على على هوة العدم وغدونا منها على الشفير بعد أن أصبحنا في مواجهة الحقيقة العارية التي ستصرخ في وجوهنا للمرة الواحدة بعد الألف:الوجود أو الإنقراض..ولا بديل آخر..إما أن نكون عربا أو لا نكون على الإطلاق..

فهل نبرهن للتاريخ مرّة واحدة أننا أصحاب مجد وحضارة،وأننا مازلنا قادرين على أن نعيد لتاريخنا مجده الوهّاج ونتجاوز رد الفعل إلى مختلف مجالات الفعل الهادف،الخلاق والمفتوح على كامل المفاجآت..؟!

وإلى أن يتحقّق ذلك- ها أنا كاتب هذه السطور- غارق في عجزي، أحس اني على حافة ليل بلا تخوم، ولا أستطيع أن أعزي النّفس بأنني أنتظر فجرا أو قيامة، فالواضح والمؤكّد أنّ ما نشهده الآن.. وهنا، مرشّح للاستمرار في المدى المنظور.


محمد المحسن



حتى لا ننسى بطل الأمة في مثل عيد كهذا ( أبو عدي-28 أفريل 1937- 3o ديسمبر 2006 ) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حتى لا ننسى بطل الأمة في مثل عيد كهذا ( أبو عدي-28 أفريل 1937- 3o ديسمبر 2006 )

          

         (ليث..يزأر تحت أعواد المشنقة)


نَم “هانئا” أيّها الشهيد..فالأشجار تموت واقفة..


الإهداء: إلى الشهيد/الرمز صدام حسين..في رحيله الشامخ


“وبغداد الرحيمة لا ترحم السفهاء..ومهما الرّصاص يجزّ رقابا.. يظلّ على شفاه العراقيين الغناء..”(مظفر النواب-بتصرف طفيف)


“..وسألت عن شجر قديم،كان يكتنف الطريق إلى التلال/وبحثت عن-دجلة والفرات-دون جدوى/وانتبهت إلى رماد نازل من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال..”(عن الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي-بتصرف طفيف)


قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ العراقيين وحدهم يستطيعون أن يتحدثوا عن أمل ممكن ينبجس من دفقات الدّم ووضوح الموت.المقاومة عندهم تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا،وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام كل العالم بأنّ الإستعمار غير مقبول وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة –اليانكي-وخيانة-المجوس-وعماء الدول الكبرى المتفرّجة على قوّات المارينز وهي تستعرض عضلاتها على ضفاف دجلة والفرات..

أكتفي بأن أتابع المشهد.أنام وأصحو لأحصي عدد المستشهدين،أتابع مواكب الدّفن،وأسترق السّمع لصراخ الثكالى وهو يخترق سجوف الصمت العربي..

من أيّ موقع،إذن، أتكلّم ويكون لكلامي معنى أو ثقل ؟

صدّام الصامد:أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت قُبيل انبلاج الصباح دون وداع،فحين إكتفى العالم بالتفرّج على الدّم العراقيّ مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قياميّ مروّع بإتجاه المقابر..

ولكن..الرجال الأنقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..

ماذا تبقّى؟

إستنكارات تذروها الرّياح زبدا وطواحين ريح..دبابات وقتلة مأجورون..عساكر..تكبير وتفجير..جنائز تسير خببا بإتجاه المدافن..بيوت عراقية يجتاحها النّوح..قلوب يداهمها الوجع كاسرا.ثكل ودمع ولا عزاء.. وغيوم رمادية في سماء بغداد..

شهيدنا الفذ:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق.. ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من الفرات..

هي ذي الذكرى المؤلمة لرحيلك.مشهد الإستشهاد كان مهيبا مروّعا:ليث يزأر تحت أعواد المشنقة..شيء في قاع الرّوح يتفتّت..دمع حبيس يدمي أوردة القلب..قلوب تطفح بأسى مهلك صامت مبيد..بطل يغتال فجرا وتتناقل الفضائيات مشهد إعدامه..هكذا كان-موتك- فرجويا متوحّشا بدائيا ساديّا ضاريا عاتيا فاجعا.. هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب..

بغداد لم تصب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها”تأكل”بنيها.

ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..

الرجولة الفذّة والصرخة الإحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت،وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي ووحشية -اليانكي والمجوس-..

الآن بعد رحيلك-القَدَري -أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد العراقي كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الدّم والدموع..

أيّها القائد الرّمز:لقد احتمى إسمك بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة رمز في حجم شموخك يأتي منقذا ومخلصا..هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى،وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من الفرات..وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون.

هي ذي بغداد إذن.هي ذي عاصمة الرشيد وقد حاصرها الليل.

عاصمة غدر بها الزمان.وللعراقي أن يدفع الثمن دما ودموعا.ولنا نحن-الواقفين على شفا الهاوية-أن نسمّي ذلك-بطولة-! كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير..بل علينا أن “نبتهج”بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات.وكافر كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

سيدي الرئيس- الشهيد:الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة الجلاّد..

الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.هل كان الحمام العراقي يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من –قبيلته-،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟

نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.

في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟

في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى القدس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-دجلة والفرات-تضيئهما بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..

قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول تكريت التي أحببت،معقل الرجال،حيث يرثيك أهلك و-مريدوك- بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..

يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..

حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة عربية.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب العراقية..

أما أنتم -ياسادتي الكرماء-:إذا رأيتم –البطل البغدادي-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.

إذا رأيتم-الشهيد التكريتي-نائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.

اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..

أيّها الشهيد الشامخ: الإمام علي بن أبي طالب لم يمت !..ما زال يجوب الأرض على صهوة فرس أبيض كي يطهّرها من دنس الفاسدين وشذّاذ الآفاق..لقد قُتل وهو يصلي صلاة الفجر،قُتل غيلة.وكان أن بكاه المسلمون بدموع حارقة والدنيا أصابها رجف وسُمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب..و أنت أيضا، قتلوك ،غيلة،قتلوك فجرا وأنت تنطق بالشهادتين وترنو ببصرك إلى فلسطين وهي مضرّجة بالمؤامرات،الدسائس،الشرور والدّم المراق..لكنّك ستظلّ وصمة عار على جباههم..لعنة أبدية تلاحق بسخطها الغزاة ومن ورائهم-الصفويين-وأتباعهم..وها أنّي ٍأراك على فرس من أثير معجون بالنور.تطارد أعداءك ولن تترجّل إلا يوم ينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على عاصمة الرشيد.


محمد المحسن




حتى لا ننسى الشاعر الثوري..مظفر النواب.."شاعر الثورات..والشجن " بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حتى لا ننسى الشاعر الثوري..مظفر النواب.."شاعر الثورات..والشجن "


"الشعراء كالأوطان..لا يموتون.."


"أصابح الليل مصلوبا على أمل

  أن لا أموت غريباً ميتةَ الشبح" ( مظفر النواب)


تقديم :تقترب صورة مظفر النواب في الذاكرة الجمعيّة العراقية والعربية من صورة برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية،الذي انحاز إلى البشر حاملًا شعلة النار الإلهية من جبل الأوليمب لتكون قبسًا لهم،وهو ما أغضب منه زيوس،آلهة السماء والصاعقة الذي يمثّل قوّة الطبيعة غضبًا شديدًا.

الشاعرية تتميّز بالحساسية والجمال والإلهام،ومثلما ترتبط بفن الشعر فهي ترتبط بعموم الإبداع. وقد توقّف باختين عند شاعرية الروائي ديستوفسكي. وسبق للمعلّم الأول أرسطو أن تناول في كتابه «فن الشعر»  التكوين الفني ومحاكاة الطبيعة بصفتها جوهر الشعر بما فيه الملهاة والملحمة والحوار والموسيقى والرقص، فثمة فارق بين ما يسمّى شعرًا وبين ما يسبغ عليه حيّزًا جماليًا بحيث تشعر أنه «شعر»، وهو ما نشعر به ونتحسسه حين نقرأ شعر مظفر النواب، ناهيك حين نسمعه بصوته المؤثر ونبرته المتميزة مموسقًا وممسرحًا تتراقص صوره الفنية برشاقة فائقة، وهارموني عالي الانسجام.

مظفر النواب يكتب من خارج فلول الكتابة،إنه مهندس على المادة الورقية حيث يسور قصائده بقسوة التحدي،والتمرد،والمواجهة،والثورة..إنّ الكم الكبير من الاستلاب المتماهي في قصائده يجعل القارئ يعيش ارهاصات وجدانية وتاريخية مجمعة في المادة الشعرية من صور وتشظي وانبناء وانسحاب..وبقدر ما كان مظفر صاحب مدرسة الحداثة في القصيدة الشعرية الشعبية (المحكيّة)، فإنه كان بالقدر نفسه شاعر الحداثة في قصيدة الفصحى، حتى وإن كتب بعض القصائد العمودية، وقد سار في ذلك على خطى نازك الملائكة وبلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ومجايليه سعدي يوسف ورشدي العامل ويوسف الصائغ وألفريد سمعان وآخرين.

وبين الفصيح والمحكي كانت تتراوح أغراضه بين الغزل والثورة، ولا ثورة حقيقية وكاملة دون حب حقيقي،ومثلما ليس هناك نصف حب،فليس هناك نصف ثورة،فقد أعطى مظفر روحه للثورة والحب وتسامت صوره الشعرية في ذلك،مع وطنية وجدانية باهرة،وبقدر ما كان مغتربًا وحزينًا فإن ذلك ينعكس على المكان مدحًا أو قدحًا، سواء في هجائه أو في حنينه وأساه لفراقه..

الشعر يشبه الوحي،هكذا تقول قصائده،فهو يصدر عن رؤية ورؤيا وكلاهما ضرب من ضروب الامتداد الانثروبولوجي.فجمالية الاستلاب في شعر مظفر النواب تتأصل في انغراس معطياتها وافرازاتها في أعماق تاريخ المعارضة السياسية والتاريخية العربية الرافضة للاستبداد والقاطعة مع القمع وحكم البوليس السري.لقد سربل النواب ذاته بعباءة ظاهرها المبدع وباطنها الثائر المتمرد.

لم يكن إعلان اسم مظفر النواب مرشحا لجائزة نوبل للآداب ثم فوز الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو ايشيغورو سوى مواصلة لحالة الاستلاب التي عاشها الشاعر الراحل الكبير،ولو سنحت الفرصة بعيدا عن الموضوعية المطلوبة لقلت : مظفّر النواب لا يمكن أن يحيا دون استلاب.ولا يمكن أن يبدع دون مواجع..ولا يمكن أيضا أن يرحل دون أن يتركَ إرثا شعريا مذهلا..سيكون نبراسا يضيء دروب القادمين..في الآتي الجليل..

لروحك السلام..يا مظفر..

(فى الليل/يضيع النورسُ فى الليل،القارب فى الليل/ وعيونُ حذائى تشمُّ خطى امرأة فى الليل/../ يا امرأة الليل أنا رجل حاربتُ بجيش مهزوم/ ما كنت أحب الليل بدون نجوم/..والآن سأبحث عن مبغى/ أستأجر زورق/ فالليل مع الجيش المهزوم طويل).(مظفر النواب)


ها أنّي-يا مظفر-أراك في هدأة الصّمت..تنبجس من اختلاجات العزلة..فأقول :


..من يدقّ باب الرّوح

في خفوت الشمس والضّوء..

من يطهّر الجسد من دنس الركض

خلف صهيل الرّوح..

من يمنح حبّة قمح 

                   تعبق بعطر الأرض

ليمامة تاهت

في رعب السكون الهائم

من يجفّف الدّمع..

والمحزونون في سبات ملء الجفون

أوغلوا في الدّمع في لحظات الوَجْد

فأنطفأ الوجع..

إلى أين تمضي

 في مثل ليل كهذا !؟

والكلمات التي تركتها خلف الشغاف

تشعل شرفاتها

منارة

منارة

ولا يكتمل المكان..

..تمنيتَ لو كنتَ نورسا 

      على ضفاف دجلة..والفرات

كي تعيد ارتحالك..

 كلّ يوم في المياه

تمنيتَ لو تجعل من دموع الثكالى

                 قاربا يجتاز العتمة..

كي يرسي على ضفّة مرهقة

          تحتاج يد النهر كي تعبره..

تمنيتَ لو يتوقّف..الزّمان

لحظة أو أقل

     كي تعيدَ ترميم الحروف

..كي تسير بكل،فجاج الكون

بغير جواز سفر

كي تروح بنوم مفتوح الرّوح..

..يفيق على جمرة سقطت

             فوق شغاف القلب..

تمنيتَ لو تبرق للبعداء جميعا أن:

عودوا..أعطوا-لمظفر*-بعض وطن !!

ها أنتَ تئنّ..

وتئنّ..

إذا استرجعت غربتك

        من تيه الضجّة..

وعدت بلا وطن..

إلى أين تمضي

                في مثل ليل-عربيّ-كهذا ؟

إلى أين تمضي..

              بعربات الصّبح المبكرة

ها أنّي أراك تلوّح 

   للأمكنة الأمامية

وهي تغيب..

ثمة نورس يتلاشى في الأفق البعيد..

ثمة وجع بحجم الغيم ..

                    يتمطى في اتجاهنا

عبر التخوم

                    ثمة شيء ما ينكسر

يتهاوى..

ولا يصل المكان..

ها..أنّي أراك..في هدأة الصّمت

  تنبجس من اختلاجات العزلة..

تنبثق بياضا ناصع العتمة..

من عتبة القلب

نهرا

تجلّله رغوة الانتظار

أراك..

نهرا

تعتعه الرّحيل..فتهاوى

في أفلاج جفّ ماؤها..

ها أنّي أراك

         تعبر ممرّات الذاكرة

تترك حنجرتك زهرةَ بنفسج..

           تلج حجرات الرّوح

تاركا خلفك..

صهيل الرّيح

كي لا ينهمر..

         الوجع

ويسطو على ما تبقّى..

       من مضغة القلب

سخط الزّمان..


برحيل مظفّر النواب،نكون أمام مرحلة سياسيّة كبرى وموقف من الوجود والتحدّي الأبدي للطغيان،وليس أمام نهاية شكل من القصيدة فحسب.ودّعه-بالأمس-المستضعفون والحزانى الذين كتب عنهم ولهم،والذين تراءى لهم في انتفاضاتهم وثوراتهم التي يُراد لها أن تُجهَض وتذوي ويأبى الشاعر إلّا أن يقيمَها من جديد بوحيه إذ يقول:

"أين سيذهب من لا بيت له

ولا امرأة ولا وطناً؟

سبحانك مهما بلغ الطائر

يتعب من دون مطار."


وداعا..يا طائر البرق


محمد المحسن


*المقصود: الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب




كيف تشيحين بوجهك عنّي..وتصغر هذي البلاد بعيني..؟! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 كيف تشيحين بوجهك عنّي..وتصغر هذي البلاد بعيني..؟!


الإهداء: إلى تلك التي مازالت تتجوّل في خراب يسكنني.. ووحدها تراه..


..إنّ قلبي بيت لكِ


ولكنك تغمضين عينيك عنّي


     وتنسين اختلاط الورود


وشهقة كل هذي الحروف


            على تلّة في الجنوب


كيف تعبرين كل هذا الجمال


             ويعْلق الحزن بي..


كيف تشيحين بوجهك عنّي..


   وتصغر هذي البلاد بعيني


وتصهل الرّيح بقلبي..


           وقرب بقايا الركام


أصغي لأجراس صمتك


أحاور  رياحا تعبث بتاريخ وجدي


كأنّي السراب...


                     كأنّي تعبت..قليلا


كأنّ ثلج الدروب قد نال منّي..


         كم أحبّ إرتباك الفصول..


كم أحبّ سماء الخريف


                 متخمة بالغيوم..


كم أحبّ خيول السنين..


وهي تركض صوب الأقاصي


    ولا شيء يربك هذا العبور..


وخلف خطاك بقايا صدى مؤلم


هنا أحتفي بالرذاذ


ها هنا أداعب غصن زيتونة


جرفته السيول


ولم يبق لي غير عطرك


لم يبق لي غير حضن عتيق


 على شكل ذكرى


وبي شهوة لإحتضان الغيوم بصمت


أحاورها


أسائل فيها سر هذا الرذاذ


        وليس لي غير حلم نما دافئا


قبيل انبلاج الصباح


وبعض قصائد عن سيرة العاشقين..


وشهقتهم قبل مجيء الغروب


                    أنا لا أريد الرحيل


لا أريد القطار المعدّ لرحلتنا


لا أريد أن يهجع البحر 


               على كفتي


أو أن يسرج أفلاكه 


للرحيل


فقط ما تبقى سوى عزف غيم


تعاويذ ضد الفراق


ونجمة صبح تضيء هذي الطريق..


تمهلي..


ولا تتركي الغيم يبكي


تمهلي ودعي منك شيئا


                يرتّب موعدا لفجر يجيء


علّ تجيء الفصول بما وعدته الرؤى


لكن..


ترى ما سأقول..


                 إذا مرّت غيومك جذلى..


تداعب نرجس القلب


أو لاح لي بين ثنايا المدى.. طيفك


يطرّز وهْمَ المسافة..


             وشاحا للذي سوف يأتي


ربّما أظل أداعب صوتي


                      أحاور روحي..


أرتّب حزني


كزهرة لوز أهملتها الحقول..


كغيمة في الأقاصي..


            أربكتها الفصول..


محمد المحسن




هنا غزة : شعب ذبيح..لكنه كطائر الفينيق* ينبجس من رماده..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 هنا غزة : شعب ذبيح..لكنه كطائر الفينيق* ينبجس من رماده..!


لا شيء يثير الرّوح..في هذا المكان” (محمود درويش)


..قد لا أجانب الصّواب إذا قلت أنّ  اليهود لم يتعرّضوا بتاتا لأيّ إضطهاد من العرب،بل كانوا جزءا من المجتمع العربي،ولكن الغرب العنصري أراد التخلّص من اليهود،ولكن ليس عن طريق المحرقة النازية والعنف،إنّما بدفعهم إلى تأسيس دولة تقوم على أساس ديني،وعلى أساس إختلاق تاريخ كامل عناصره الأسطورة ومعاداة المنطق،من هنا كان دعم الغرب الإستعماري،العنصري لقيام دولة إسرائيل ليس كخطيئة وجريمة في حق العرب عامة والفلسطينيين خاصة،إنّما كخطيئة أيضا ضد اليهود بحشرهم في”غيتو” اتخذ هذه المرّة شكل دولة،دولة تقو م على أساس عنصري،المتميزون فيها هم اليهود لأنّهم يهود،وداخل اليهود أنفسهم تمييز آخر بين من هو غربي ومن هو شرقي..

وإذن..؟

ما الفرق إذا بين الفكرة العنصرية والفكرة الصهي..ونية،كلاهما يقوم على أساس الإنتقاء العنصري،والتعصّب لجنس ولفكرة.هكذا جنّد الغرب طاقته لإزاحة شعب كامل من مكانه،وإحلال اليهود مكانهم،وما نراه الآن على أرض غزة من قصف بأحدث الأسلحة الأمريكية لمنازل ومستشفيات وسيارات مدنية ما هو إلا فصل من فصول المأساة التي أُعلنت رسميا بإسم دولة إسرائيل..

والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:

كيف لم يفكّر العرب وأنظمة حُكْمه،طوال خمسين سنة من الوجود الإسرائيلي،في الأسس الناجعة التي تسمح بالحد من سطوة إسرائيل وتتيح للكفاح الفلسطيني أن يحقّق أهدافه العادلة،وللجماهير العربية أن تتخلّص من التخلّف و التبعية والحكم الفردي ؟

-هل سينتظر العرب السقوط الأمريكي الحتمي معولين على نظرية إبن خلدون حول صعود وهبوط الإمبراطوريات؟!

وهل سيستمرون عند المراهنة على حتمية تصدّع الكيان الغاصب وإنفجاره من الداخل وابتلاعه ديموغرافيا بالإعتماد على قوّة الخصوبة الإنجابية عند الفلسطينيين..؟

ألم ندرك بعد أنّ الواقع في الغرب بدأ يتغيّر،وبدأ الرأي العام يكتشف حقيقة جرائم الصهاينة،واستهدافهم العُزل بالرصاص الحي،لا سيما بعد أن أمطرتنا الفضائيات بمشاهد بربرية دموية لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في القرن الحادي والعشرين.

طائرات ال:ف16 تقذف البيوت”الغزاوية” الآمنة بأحدث أنواع الصواريخ.

مدافع الدبابات تصوّب تجاه الشقق والسيارات والمدنيين العزل.

و..ويستمرّ الدّم في النزيف ويستمرّ الشهداء في السقوط.

الأبرياء في مواجهة الدروع السميكة وأحدث الأسلحة.

إلى متى؟ !..

وكم يحتاج الأمر إلى مثابرة وزخم ودم ليضطرّ العالم إلى سماع الصّوت الفلسطيني الذي لا يصل إن لم يكن له هذا الثمن الفادح؟..

لن يصدّق العالم اليوم أنّ الديمقراطية الإسرائيلية هي ارستقراطية الأكثرية ودكتاتورية الأكثرية،وأنّها في عالم،قوام الديمقراطية فيه حقوق الأضعف وحقوق الأقليات،متخلّفة عن العالم وعن العصر.

الفلسطينيون وحدهم يستطيعون أن يتحدّثوا عن نصر ممكن ينبثق من دفقات الدّم ووُضوح الموت.المواجهة عندهم تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا،إنّما هي فعلُ وجود يصرخ أمام كل العالم بأنّ الإستعمار غير مقبول وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة الجيش الإسرائيلي وعمأء الدول الكبرى المتفرّجة على إسرائيل وهي تستعرض عضلاتها.

ولكن..في مثل هذه الوضعية،كيف أُقنع النّفس بأنّ عدالة القضية ستحميها من وحشية الذين يمارسون سياسة اليد الطولى ولا يحترمون قوانين المنظمات العالمية؟

أكتفي بأن أتابع المشهد.أنام وأصحو لأحصيَ عدد الشهداء،وأرى-بعيون دامعة- الدّم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قيامي مروّع بإتجاه المدافن.

كيف يستعيد المنطق قدرته على إقناعي بأنّ هذه المواجهة غير المتكافئة لن تعرّض جزءا كبيرا من شعبنا هناك،للإبادة..؟

لماذا الماسكون بزمام العالم يعبّرون عن تخوفاتهم من زعزعة دولة إسرائيل ولا يُنادون بتصفية الإستعمار في فلسطين..؟

من أيّ موقع،إذن،أتكلّم ويكون لكلامي معنىً أو ثقل ؟

أحسّ كأنّ حاجبات الوميض تنتصب من جديد،ودفقات الدّم الفلسطيني،عبر الفضائيات،تذكّرني أكثر فأكثر،بهذا العجز الخانق،وتضيف إليََّ وجعا قاسيا و-أنا- أرى وجوه الشهداء مرفوعة أمام سماء عمياء،فيما القذائف والصواريخ تواصل هجماتها،وليس هناك فعل عربيّ يساند بالملموس عظمة -هذا الشعب الجبّار-في صموده وتصديه..

لأكون صادقا أقول إنني الآن،وأنا غارق في عجزي،أحسّني على حافة ليل طويل،متخم بالدياجير،ولا أستطيع أن أعزّي النّفس بأنني أنتظر فجرا أو قيامة..

 

محمد المحسن


*لعلنا سمعنا عبارة "هالشعب مثل طير الفينيق بقوم من تحت الرماد". والفينيق عبارة عن كائن أسطوري يدعى طائر الفينيق-Phoenix كان له صدى واسع في التراث الشعبي القديم لدى الكثير من الشعوب الممتدة جغرافياً حول العالم، كالفينيقيين والإغريق والفرس والرومان والمصريين والصينيين، وتعددت الأسماء لكنها تكاد تتفق على ما يشير إليه. وحتى يومنا هذا ما زال له تأثير في الأدب والثقافات المعاصرة كرمز للتجدد والخلود رغم أنه لم يعد في صلب معتقدات الشعوب كما في الماضي.

تروي الأسطورة الكنعانية أن طائر الفينيق عاش في الجنّة لألف سنة. حجمه نسري،لونه ذهبي ناري،وعلى رأسه طرّة من الريش كأنها تاج،ويظهر له ذنب طويل من الريش الأحمر البرتقالي والأصفر.