قراءة نقدية: "القصيدة بين الألم والأمل"
القصيدة: "لم يتعبني الانتظار"
الشاعر : طاهر مشي (تونس)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: "القصيدة بين الألم والأمل"
أ- العنوان:" لم يتعبني الانتظار"
لقد ورد العنوان جملة فعلية منفية بحرف الجزم (لم) فماذا ينفي الشاعر عن نفسه؟
ان الشاعر ينفي عن نفسه تعب الانتظار.
والانتظار مشحون بالزمان والمكان فالانتظار يخضع لزمن معين ويقتضي مكانا معينا .وبالتالي:
هل أن نفي الشاعر لنفسه تعب الانتظار فيه تحدّ للزمان والمكان؟
والشاعر باستخدام حرف الجزم "لم" فهو ينفي عن نفسه تعب الانتظار في الحاضر وقد لا يشمل هذا النفي للمستقبل. ولعل في هذا بصيص من أمل.
فأي انتظار في الزمان والمكان لم يُتعب الشاعر؟
وأي أمل يبثه الشاعر في نفس القارئ؟
ب- التحليل:
استهل الشاعر قصيدته بنفس جملة العنوان(لم يتعبني الانتظار) وهو أسلوب انزياحي ايقاعي قائم على التكرار. ولعل هذا التكرار فيه:
+ تأكيد على نفي تعب الانتظار من ناحية .
+ فيه إيقاع يحلو للشاعر سماعه لعله يحمل له بصيصا من الأمل .
+ فيه إثارة لفضول المتلقي لطرح عدة تساؤلات:
- أي انتظار لم يتعب الشاعر؟
- اي انتظار في الزمان لم يتعب الشاعر؟
- أي انتظار في المكان لم يتعب الشاعر؟
- أي أمل قد يبثّه الشاعر في نفسه من ناحية وفي القارئ من ناحية أخرى؟
إن الشاعر ينفي تعب الانتظار ليستدرك بأن شهقة الروح هي التي ترجو أن تحرره من براثن الشوق وأهازيج الغياب فيقول:
لم يتعبني الانتظار
بل شهقة الروح
ترجو عتقا من براثن الشوق
وأهازيج الغياب
وشهقة الروح حسب بعض الدارسين قد تعني حالة من الألم أو الصدمة الشديدة التي تجعل الانسان يلهث أو يتوقف عن التنفس أو تتردد أنفاسه.
ويمكن أن تشير إلى لحظة تحرّر أو تغيير عميق أو تجديد للحياة.
وقد تكون شهقة الروح في لحظة الموت.
لعل القارئ هنا يرجّح أن شهقة الروح هي لحظة تحرّر وانعتاق للشاعر ممّا كبّله به الشوق حتى أن الشاعر قد شخّص الشوق بأن جعل له براثن.
والبراثن تعني مخالب السبع أو الطيور الجارحة للهجوم والانقضاض
ومجازيا للدلالة على ما يضر من عِللٍ أو ظروف اجتماعية قاسية أو العدوان والشراسة.
وفي هذا الاطار قد يتساءل القارئ:
- هل بلغ الشوق بالشاعر حدّا أصبحت له براثن تهدده بالقتل وتخنقه وتنقض عليه؟
- هل الشوق مؤلم الى هذه الدرجة؟
ان الشوق حسب بعض الدارسين هو "ذاك الألم الجميل , الشوق ليس مجرد إحساس عابر بل هو نار هادئة تشتعل في القلب دون أن تحرق, تأكل من الروح بصمت وتترك خلفها حنينا لا يهدأ".
هل ان الشوق ذاك الألم الجميل قد تحول عند شاعرنا كما رسمه بشراسته الى نار مشتعلة تحرق القلب وتأكل الروح وتترك حنينا لا يهدأ؟؟؟.
أما أهازيج الغياب فهي حسب بعض الدارسين عبارة تستخدم في سياقات أدبية للتعبير عن مشاعر الحنين والفقدان وفي التأملات الشعرية الوجودية.
في هذا الاطار فان شاعرنا طاهر مشي تتجاذبه ثلاثة أقطاب:
- صبر على الانتظار في الزمان والمكان.
- شوق بلغ شراسة الحيوانات الجارحة الذي يهدد حياته.
- حنين يهدئ من لوعة الشعور بالشوق المميت ويجعله يتأمل في وجوده:
وهذا ما يجعل صبر شاعرنا(لم يتعبني الانتظار) غير محدود في الزمان والمكان.
- ان الشاعر يعيش صراعا بين صبر وشوق وحنين.
- انه يعيش صراعا بن ألم عنيف وأمل قد يكبح جماح هذا الألم المميت.
وداخل هذا الصراع يستخدم الشاعر المعادل الموضوعي للموت وهي تلك الخرقة البالية التي يلتحف بها كما جلباب .
والجلباب عادة ما يكون مطرزا للزينة لكن جلباب شاعرنا مطرز بالوجع الذي يلفه ويحتويه فيقول:
تلك الخرقة البالية
جلباب يلحفني
مطرز بالوجع
ان الشاعر استوت عنده الحياة بالموت. فالشوق المميت سلبه كل معاني الحياة فشتاته قد تناثر وأوتاره مضمخة بالحزن والأسى بسبب الفقد والحرمان. يقول:
كم من شتات تناثر.
وأوتاري
مضمخة بأصفاد الفقد والحرمان
كأني بالشاعر يعيش لحظة تأمل وجودي جعلته بين تشخيص لحالته المتأزمة وتحليل لنفسيته المشتتة وتقييم لها ليجعل صبره لا يعدو أن يكون مُسَكِنا مُؤقتا لأوجاعه ليجعله غير واع بها. فيقول:
ها أنا لا أزال
في غفوة الصبر
أداعب الأحلام
وأشق لهفة شوق
يعاقره الوجع
وكأني بالشاعر( الحبيب) يراجع ما أوْهم به القارئ من صبر في العنوان والاستهلال (لم يتعبني الانتظار) فيُشخّص الصبر ليجعله في غفوة والغفوة هي النوم الخفيف الذي سرعان ما يستفيق منه الشخص وبالتالي :
- هل سيطول صبره على وجع الشوق الى الحبيبة الغائبة سواء بالفقد أو بالحرمان؟
- هل يستطيع أن يتحدّى لهفة شوق يعاقره الوجع.
ان الشاعر استخدم مفارقة مدهشة بين لهفة الشوق ومعاقرة الوجع
فالمعاقرة في معناها اللغوي هي إدمان على ما يجد فيه المُدْمن متعة كمعاقرة الخمر أو معاقرة النساء.
أمّا شاعرنا (الحبيب) فلهفة شوقه الى الحبيبة تدمن الوجع والتالي وجعه ليس عابرا ليُشفَى منه بل هو وجع أبديّ ..إنه معاناة وجودية :
فلا الصبر يرحمه بقصر مدته(غفوة الصبر) .
ولا الشوق يبعث في نفسه الأمل في اللقاء(شوق يعاقره الوجع).
إن الشاعر باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الاستفهام الاستنكاري يتساءل وهو في قرارة نفسه يحمل الجواب.
ان الشاعر بين سؤال وجواب يشي للقارئ أنه بين يأس وأمل:
- اليأس :ان الشاعر يدرك تماما أن الزمن لن يعود لذلك فهو على يقين أن حنينه سيبقى أطلالا مهجورة ولذلك فحنينه لن يمنحه فرصة الوقوف على الاطلال ككل العاشقين.
- الأمل : إنه يرى بصيصا من الأمل يعيد له الحياة من جديد.
ان هذه الحالة النفسية المتأزمة بين يأس وأمل جعلت الشاعر الحبيب يلتجئ الى طباق لفظي(الليل/ فجر) يعكس مقابلة معنوية تشي للقارئ بحالته النفسية المتعبة
انه يسعى الى التغلب على الليل بظلامه وقسوته وعنف وِحْدته وغربته في غياب الحبيبة او الفقيدة ليرضى بالقليل الذي يجود به عليه فجر متعب.
ان الشاعر بين ليل ظالم ومظلم وفجر متعب شحيح بنوره.
بيد أن الشاعر(الحبيب) يبدو متفائلا ومُفعما بالأمل حتى لو كان طيفا في حلم.فيقول:
أراقب الليل
يتساقط في قلبي
قطرات من فجر متعب
لعل الأمل يعود
حتى لو كان في حلم بعيد
يداعب أطيافنا في الغياب.
ان الشاعر استخدم ضمير المتكلم المتصل(أطيافنا) طمعا في التلاقي و"لو كان في حلم بعيد".
ان هذا التشبث بالأمل يجعل شاعرنا طاهر مشي يتقاطع في هذا الشعور مع الشاعر فرانز كافكا حين قال:
"الأشياء التي نحبها قد نفقدها يوما ما
ولكن في النهاية سيعود الحب بطريقة أخرى
إنا على يقين أن الحب الذي أهديناه بقلب مخلص لن يضيع
سيعود حتما.
ان هذا الأمل في عودة من نحب هو قاسم مشترك بين الشاعر طاهر مشي وفرانز كافكا.
سلم قلم الشاعر طاهر مشي الذي صور لنا معاناة الوجع بين ألم وأمل.
بتاريخ 30/ 08/ 2025
لم يتعبني الانتظار : القصيدة :طاهر مشي
ااااااااااااااااا ااااااااااا
لم يُتعبني الانتظار
بل شهقةُ الروح
ترجُو عتقًا من براثنِ الشوق
وأهازيجِ الغياب
تلك الخرقةُ البالية
جلبابٌ يلحفني
مُطرزٌ بالوجع
كم من شتاتٍ تناثر
وأوتاري
مضمخةٌ بأصفادِ الفقدِ والحرمان
ها أنا لا أزال
في غفوةِ الصبر
أُداعبُ الأحلام
وأشقُّ لهفةَ شوق
يعاقرُه الوجع
فهل يعود الزمان؟
أم يبقى الحنين أطلالًا مهجورة؟
أم أنّ في عينيّ ضوءًا جديدًا
يُعيد رسم الوجوه؟
أراقب الليل
يتساقط في قلبي
قطرات من فجرٍ مُتعب
لعلّ الأمل يعود،
حتى لو كان في حلمٍ بعيد
يُداعب أطيافنا في الغياب
ااااااااااااااااا ااااااااااا
طاهر مشي