السبت، 15 أكتوبر 2022

تركتني كائنا أسطوريا يسكن الرّيح،ويعوي مع ذئاب بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 تركتني كائنا أسطوريا يسكن الرّيح،ويعوي مع ذئاب الفيافي..قمر في بلاد ليس فيها ليال مقمرة ولا أصدقاء..!

مشتاق إلى ذوات كثيرة وأشياء شتى..بي حنين عاصف إلى أمّي،تلك الشجرة الباسقة التي انتهت قبرا واجما،زاده البياض حيادا..
 أين منّي وجه أمّي في مثل ليل كهذا..بسمتها العذبة..بسمتها الأصفى من الصفاء..عتابها لي آخر الليل حين أعود ثملا وقد لفضتني حانات المدينة..أين منّي حضنها الدافئ وهي تهدهدني وأنا الطفل والشاب والكهل..
لم أعرف اليتم يوم غاص أبي الرحيم إلى التراب..واليوم تشهد كائناتي وأشيائي أنّي اليتيم..
شيخ تجاوز الستين بثلاث عجاف..
ولكنّي أحتاج أمّي بكل ما في النّفس من شجن وحيرة وغضب عاصف..
أحتاج إبني أيضا لألعن في حضرة عينيه المفعمتين بالآسى غلمانا أكلوا من جرابي وشربوا من كأسي واستظلّوا بظلّي عند لفح الهجير..
لم أبخل عليهم بشيء وعلّمتهم الرماية والغواية والشدو البهي..
واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمي وحروف إسمي ..
آه إبني كيف سمحت لنفسي بتسليمك إلى التراب..؟
حنيني شائك ومتشعّب مثل حزني تماما،وكياني مكتظّ بالوجوه والذوات..
لكم أتوق إلى عناق -أميرة الجيران-تلك التي تركتني نورسا للعناق الوجيع..
مازلت أذكر هودجها وقد مرّ بحذوي..أذكرها وهي تتهودج في غنج أمامي وقد عجز الشارع الفسيح على إحتضانها،أما عطرها الباريسي فقد انتشر في خلايا جسدي وأنا الكهل الكئيب الجالس أمام عتبة بيت ضجّ بالصراخ في إستقبال الغروب العظيم..
أشتاق إليها الآن ..أشتاق إلى عينيها السوداوين المفعمتين بالجمال..لقد ترنّحنا معا في حرائق الشتاء والصيف..أين مني جسدان شرهان لشاب وفتاة..أين من رأسي المتصدّعة خلوّ الذهن من كل همّ و إزدحام القلب بوجه فاتنتي البريئة من كل دم..
أين منّي هودجها العظيم في شارع طارق بن زياد..
خساراتي فادحة أيّها الزمن اللعين..خساراتي مؤلمة أيتها الدنيا اللئيمة وأرباحي سقط متاع..فقدت أبي ذات مساء قاتم..وتوارت أمّي خلف الغيوم..واختطفت الأضواء الباريسية تلك التي ظلّت لسنوات طوال -رغم عنادي-هاجعة خلف الشغاف..
خساراتي فادحة أيتها المهزلة،أضعت في الطريق رفاقا كثرا عدا أولئك الذين أسقطتهم القافلة سهوا عنهم..ما أطول طابور خساراتي وما أحلك هذا الليل الذي صار جزءا منّي.هل أنا حي لأموت..؟وهل من فقدتهم -الأحياء والأموات-ليسوا جزءا منّي..؟! ألم يقتطع منّي الموت أشجارا شاهقة ونفوسا عظيمة؟..فكيف لم يزرني هذا المتسربل بالعدمية إلى حد الآن..بل إلى هذا الحزن والألم والجنون..؟
ألا بد من إنقطاعي عن توريد السجائر إلى رئتيّ المذهولتين ليتمّ إعلان موتي..؟
 ألا بد من تخريب جسدي عمدا بما أسكبه في جوفي من نبيذ..؟ وهل عليّ تغيير لحاف كوابيسي بكفن شديد البياض لكي يصعق الأصدقاء ويرقص الأعداء ويوقنوا أنني جثّة تتدحرج على هضاب الحياة وتصطدم بالحواجز والأضداد..
ميّت أنا..ومشتاق إلى الحياة..يا أيّها الموتى بلا موت.. تعبت من الحياة بلا حياة..
مشتاق إلى القصيدة..لم تزرني منذ ليال طويلة..هجرتني كما هجرتني صديقة العمر بعد أن أيقنت أنّي كتلة من عذاب..حاولتْ-بعذابها- رتق الفتق..فتغلّب الفتق على الرتق..عاودتْ الكرّة مرتين واقتطعت من عرق جبينها كرما إضافيا فذهب أدراج الرياح....
تركتني أخيرا كائنا أسطوريا يسكن الرّيح،ويعوي مع ذئاب الفيافي..قمر في بلاد ليس فيها ليال مقمرة ولا أصدقاء..
ومع ذلك مازلت أحبّها..مازلت أهذي من حنين وحمّى..
انتصف الليل ولم يأتني طيفها ولعلّ هذا نذير شؤم..أو مؤشّر للفراق العظيم..
لكني مازلت أقاوم بعنادي اللعين..

محمد المحسن


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق