السبت، 6 يناير 2024

- من رواية (ملح السّراب) بقلم:الأديب مصطفى الحاج حسين.

 تسلّق جدار المدرسة، قفز إلى باحتها ودخل صفّ (سامح)من النّافذةِ المكسورة، وفي الصّفّ كان بمفرده، شعر بالفرحة تجتاحه، جلس على المقعد، واضعاً يديهأمامه، مستنداً على المسند، دار على المقاعد، وجلس الجّلسة ذاتها، وجد قطعة (طباشير)، فأسرع نحو السّبورة، وبدأ يرسم خطوطاً كثيرةً، خطوطاً لا معنى لها، فكثيراً ما كان يسأل والديه، عن سبب حرمانه وشقيقته (مريم) من المدرسة، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة. والده يقول:

ـ نحن أسرة فقيرة، والمدرسة مكلفة، وأنا كما تراني.. عاجز عن إشباع بطونكم.
ـ وكيف أدخل عمّي (قدور) أولاده إلى المدرسة وهو فقير مثلك؟!:
ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور، غداً ترى، سوف يضطرّ إلى سحبهم، حين يعجز عن دفع النفقات.
ويتابع الأب كلامه، كأنه يزفّ إليه بشرى:
ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ (حمزة)، ليحفّظكَ القرآن الكريم..وهذا خير بألف مرّة من المدرسة.
وتحاول أمّه جاهدة، أن تقنعه لتخفّف عنه حزنه:
ـ حفظ القرآن عند الشّيخ (حمزة) سينفعك في الدّنيا والآخرة، أمّا المدرسة فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما.
ومن شدّة تلهفه وإلحاحه، فقد تقرّر أخيراً، ذهابه لعند الشّيخ، ولقد اجبر أمّه، على خياطة صدّارة، تشبه صدّارة (سامح) وعطفاً على بكائه المرّ، اشترى له أبوه محفظة جلدية، ودفتراً صغيراً مثل سامح.
بات ليلته وهو في غاية السّعادة، لم يغمض له جفن، كان يتحسّس صدّارته التي ارتداها، ومحفظته بمحتوياتها التي تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني. أمّا أحلام اليقظة، فقد بلغت أوجها في مخيّلته، الواسعة الخصوبة:
ـ سأتعلم.. مثل (سامح)، سأتحدّاه.. وأكتب على الجّدران اسمي، واسم (مريم وسميرة) وسأكتب بابا وماما ودادا، وسأحفظ الأرقام.. وأنا في الأصل أعرف كتابة الرقم واحد، تعلمته من (سامح)، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم، وأضغط بالقوة، راسماً خطاً من الأعلى إلى الأسفل، وسأرسم قطتي أيضاً، ودجاجات جارتنا، وحمار خالي، وسيّارة رئيس المخفر، التي يخافها الجّميع.. والطّائرة التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا..سأرسم كلّ شيء يخطر
لي، القمر، الشّمس، النّجوم ،والعصافير،
والكلاب، الأشجارالعالية.. نعم سأفعل كلّ هذا، لأنّ (سامح) ليس أفضل منّي.. فأنا أطول قامة، وأقوى منه، عندما نتعارك.
وشعّت ابتسامته في الظّلام، تقلّب في فراشه.. متى سيأتي الصّباح
؟.. هكذا كان يتساءل.. ثمّ أرسل نظرة إلى (مريم) النائمة، وتحسّر من أجلها، لقد بكت طويلاً، لأنّ والدها لم يشترِ لها صدّارة ومحفظة، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر، فقد قال لها أبوها، بعد أن ضربها:
ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ بنت.. ما شأنكِ بالمدرسة؟!.
سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً كثيرة أكثر من كتب (سامح وسميرة)، سأقوم بتجليدها، ولن أسمح لأحد أن يلمسها، سوى أختي (مريم)، لأن (سامح وسميرة) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما.. وفي كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة الجيد، ولن أكون كسولاً مثل (سميرة)، وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ، وسأوزّع السّكاكر على كلّ اهل الحارة، ولن أطعم وَلَدَي عمّي، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما، مثلما فَعَلَا معي، يوم نجح إلى الصّف الثاني، لا فرق بيني وبين (سامح) سوى أنّه ينادي معلمه (أستاذ) وأنا أناديه، كما أوصاني أبي، سيدي الشيخ.
في الصّباح الباكر، وعلى صياح الدِّيَكَة، قفز ليوقظ أمّه، وبسرعة غسّل وجهه ويديه، سرّح شعره الخرنوبي، حمل حقيبته الزّرقاء، وانطلق رافضاً تناول الزعتر والشّاي.
دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة، الضاربة للبياض، ربع ليرة أجرة الأسبوع سلفاً، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة، بين كومة الأولاد، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ المسنّ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ، حتّى أمره الشّيخ بالوقوف، تأمّله بعينيه الحمراوين، فارتعش الفتى، لكنّ الشّيخ لم يشفق عليه، بل صرخ:
ـ ما هذا الذي تلبسه؟.. صدّارة!!.. ما شاء الله، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة؟!.
انهارت أحلامه، لم يكن يتوقّع مثل هذه المعاملة، من الشّيخ، أراد أن يسأله عن رفضه الصدّارة والحقيبة، غير أنّ الخوف عقل لسانه، فجلس دامع العينين.
ما أسرع ما ينهال الشّيخ، على الأطفال بعصاه الغليظة، وما أكثر ما يغضب ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين، وخلال أيّام قليلة تعرّض (رضوان) إلى عدّة (فلقات) منه.
وذات يوم.. ضبطه الشّيخ وهو يقتل ذبابة بيده، فانهال عليه ضرباً، غير عابئ بصرخاته ودموعه، وأخيراً أصدر أمره الحازم:
ـ التقط الذّبابة.. وضعها في فمكَ..
وابتلعها.
لم يخطر في باله مثل هذا الأمر، بكى.. توسّلَ.. ترجّى.. تضرّع.. سَجَدَ على قدمَي الشّيخ يقبلهما، استحلفه بالله وبالرسول، فلم يقبل.. تناول الذبابة.. ووضعها في فمه، فوجد نفسه يتقيّأ فوق الحصيرة، وضجّ الأولاد بالضحك بينما جنّ جنون الشّيخ، فأخذ يضربه ، ويركله، كيفما اتفق، وبعد أن هدأت ثورته، واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام، أمره أن يغسل الحصيرة والأرض. ولمّا كان صنبور الماء قريباً من الباب، أسرع وفتحه وأطلق العنان لقدميه المتورمتين.. فأرسل الشّيخ على الفور، من يطارده من الأولاد.. ولكن هيهات أن يلحق به أحد.
في المساء.. عاد والده من عمله، تعشّى مع أسرته، ثمّ أخبرته زوجته، بأمر هرب (رضوان) من عند الشّيخ، فغضب الأب وصفع ابنه، وأمره أن يذهب معه، في الصّباح لعند الشّيخ، ليعتذر منه، ويقبّل يده الطّاهرة.
ـ الولد ابنك.. لكَ لحمهِ ولنا عظمه.
قال الأب للشيخ:
ـ لا عليكَ يا أبا (رضوان). الولد امانة في رقبتي. قال الشّيخ مكشراً عن أسنانه المنخورة.
في ذلك اليوم، لم يضربه الشّيخ، واكتفى بتحذيره، أنذره من الشّيطان الذي بداخله.
وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة، وكان الوقت ظهراً، وكان الأولاد محشورينَ مثل السُّجناء، في غرفة صغيرة، لا نافذة لها، كانوا يتصبّبونَ عرقاً، شعر الطّفل برغبةٍ لا تقاوم في النّوم، رغبة اشدّ من قسوةِ الشّيخ، ولا يدري كيفَ سها، وعلى حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ قدمهِ، فانتبه مذعوراً ،وقبل أن يسبقه
بكاؤه، تبوّل في مكانه.. بلّل ثيابه والحصيرة، وتعالت الضّحكات من رفاقه، وفقد الشّيخ رشده، فلم يجد (رضوان) وسيلة للتخلص سوى بالبكاء، بكى كثيراً، حتى رأف الشّيخ بحاله، وسمح له بالإنصراف.
منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد، لقب (الشخاخ).
من أجل هذا، أخذ يجامل الأولاد، ويكسب ودهم، ولكنهم كانوا أوغاداً، ازدادوا استهتاراً به، وبمحاولاته لكسب صداقتهم، وكان الجميع يتشجّعون وينادونه الشخاخ، إلى أن جاء يوم من أيام الشتاء، عجز فيه والده، عن دفع ربع الليرة، فطرده الشّيخ، وكان سعيداً، لأنه أصبح حرّاً.. بعيداً عن الشيخ والأولاد.
وجلس (رضوان) يترقّب موعد طرد (سامح وسميرة) من المدرسة، لكنّ عمه لم يعجز حتّى الآن، عن دفع النفقات، كما كان يتوقّع والده، وذلك أمر كان يحزّ في قلبه.
صار يتسلق جدران المدرسة، ليراقب
(سامحاً) الذي يلعب في الباحة، مع رفاقه أثناء الفرصة، صار همّه الوحيد المراقبة والانتظار، لحين انصراف (سامح). وكم كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من (سامح)، ليحملها عنه، متخيّلاً نفسه تلميذاً، وفي تلك الأيام، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من أحد المعلّمينَ، ليرمي عليه السلام، وكم كان يشعر بالغبطة، حين يردّ عليه، ظانّاً أنّه أحد تلامذته.
وما كان يضايقه.. سوى الآذن ( أبي
لطّوف)، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته،
كلّما رآه متسلّقاً على الجدار، وكم كان يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن أمسكه.. وفي إحدى المرّات ، استطاع الإمساك به، كان قد تسلّق الجدار، وجلس يطوّح بقدميه، ينظر إلى التلاميذ، وبينهم (سامح)، وهم ينفّذون درس الرياضة.. كان يراقبهم بشغف، وهم يركضون خلف الكرة، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير..
وفجأة أمسك (أبو لطّوف) بقدمه.. وأخذ يشدّها بقوة، و (رضوان)الذي صعقته المفاجأة يصرخ.. وهو يحاول التملّص، غير أنّ (أبا لطّوف) تغلّب على الصغير، فارتمى بين ساعديه حيث قاده إلى غرفة المدير، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في ثيابه.
كان المدير بديناً وأعورَ، صارماً أشدَّ قسوةً من الشّيخ(حمزة)،أمره بالجلوس
على الكرسي، وأمسك الآذن به، ورفع له قدميه، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة، ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل، آلاف المرّات، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار، حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه، ينتحب بغزارة وحرقة، في حين كانت(كلابيّته) تقطر بولاً.
منذ ذلك اليوم، أقلع (رضوان)عن تسلّق الجّدار، صار يكتفي بالدَّوَران حول سور المدرسة ينتظر (سامحاً)، وكان يصيخ السّمع، إلى صوت المعلم، المتسرّب من النّافذة، وهو يهتف:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
فيردّد التلاميذ خلفه:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
وكان يتناهى إلى سمعه، صوت (سامح) من بين الأصوات، أو هكذا كان يتخيّل، فيشعر بالحسد.. ويتمنّى ذلك اليوم ، الذي سيعجز عمّه (قدّور) عن دفع النّفقات. في تلك اللحظة فقط، سوف يسخر من (سامح)، لأنّ هذا لن يكون متميّزاً عنه بشيء، بل على العكس:
ـ فأنا أطول منه قامةً..وأشدّ قوةً.. واسرع ركضاً.. وكذلك أنا أمهر منه في قذف الحجارة، ولا أخاف الاقتراب، من الحمير والكلاب.
في أحد الأيام، سقط العمُّ (قدّور)
عن (السّقالة)، في أثناء عمله في البناء، وانكسرت رجله، فاستبشر خيراً، ولكن زوجة عمّه(نجوى)، سرعان ما خيّبت رجاء (رضوان) إذ باعت قرطها وخاتمها الذهبيّين، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة العيش، وكم كره زوجة عمّه هذه.. بل إنّه يكرهها من قبل، لقد رضع كرهها من أمّه، التي تطلق عليها.. لقب (أمُّ عُصٍّ)، لأنّها نحيلةً جدّاً، في حين كانت أمّه ضخمة جداً.. وهكذا توالت الأيّام، وهو يمضي نهاره، حول سور المدرسة، في انتظار (سامح) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية.
فينتهزَ الفرصة، ويقتحم صفّ (سامح)، ويرسم على السّبّورة خطوطاً كثيرة، حتّى انتابته حالة انفعالية، غريبة.. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ.. ولم يخرج من الصّف، إلّا بعد أن رفعَ (كلّابيَّتهُ)، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم.. وأمامَ السّبّورَة.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
يتبع.....






الف من رواية (ملح السّراب) بقلم: الأديب مصطفى الحاج حسين.

 تسلّق جدار المدرسة، قفز إلى باحتها ودخل صفّ (سامح)من النّافذةِ المكسورة، وفي الصّفّ كان بمفرده، شعر بالفرحة تجتاحه، جلس على المقعد، واضعاً يديهأمامه، مستنداً على المسند، دار على المقاعد، وجلس الجّلسة ذاتها، وجد قطعة (طباشير)، فأسرع نحو السّبورة، وبدأ يرسم خطوطاً كثيرةً، خطوطاً لا معنى لها، فكثيراً ما كان يسأل والديه، عن سبب حرمانه وشقيقته (مريم) من المدرسة، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة. والده يقول:

ـ نحن أسرة فقيرة، والمدرسة مكلفة، وأنا كما تراني.. عاجز عن إشباع بطونكم.
ـ وكيف أدخل عمّي (قدور) أولاده إلى المدرسة وهو فقير مثلك؟!:
ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور، غداً ترى، سوف يضطرّ إلى سحبهم، حين يعجز عن دفع النفقات.
ويتابع الأب كلامه، كأنه يزفّ إليه بشرى:
ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ (حمزة)، ليحفّظكَ القرآن الكريم..وهذا خير بألف مرّة من المدرسة.
وتحاول أمّه جاهدة، أن تقنعه لتخفّف عنه حزنه:
ـ حفظ القرآن عند الشّيخ (حمزة) سينفعك في الدّنيا والآخرة، أمّا المدرسة فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما.
ومن شدّة تلهفه وإلحاحه، فقد تقرّر أخيراً، ذهابه لعند الشّيخ، ولقد اجبر أمّه، على خياطة صدّارة، تشبه صدّارة (سامح) وعطفاً على بكائه المرّ، اشترى له أبوه محفظة جلدية، ودفتراً صغيراً مثل سامح.
بات ليلته وهو في غاية السّعادة، لم يغمض له جفن، كان يتحسّس صدّارته التي ارتداها، ومحفظته بمحتوياتها التي تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني. أمّا أحلام اليقظة، فقد بلغت أوجها في مخيّلته، الواسعة الخصوبة:
ـ سأتعلم.. مثل (سامح)، سأتحدّاه.. وأكتب على الجّدران اسمي، واسم (مريم وسميرة) وسأكتب بابا وماما ودادا، وسأحفظ الأرقام.. وأنا في الأصل أعرف كتابة الرقم واحد، تعلمته من (سامح)، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم، وأضغط بالقوة، راسماً خطاً من الأعلى إلى الأسفل، وسأرسم قطتي أيضاً، ودجاجات جارتنا، وحمار خالي، وسيّارة رئيس المخفر، التي يخافها الجّميع.. والطّائرة التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا..سأرسم كلّ شيء يخطر
لي، القمر، الشّمس، النّجوم ،والعصافير،
والكلاب، الأشجارالعالية.. نعم سأفعل كلّ هذا، لأنّ (سامح) ليس أفضل منّي.. فأنا أطول قامة، وأقوى منه، عندما نتعارك.
وشعّت ابتسامته في الظّلام، تقلّب في فراشه.. متى سيأتي الصّباح
؟.. هكذا كان يتساءل.. ثمّ أرسل نظرة إلى (مريم) النائمة، وتحسّر من أجلها، لقد بكت طويلاً، لأنّ والدها لم يشترِ لها صدّارة ومحفظة، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر، فقد قال لها أبوها، بعد أن ضربها:
ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ بنت.. ما شأنكِ بالمدرسة؟!.
سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً كثيرة أكثر من كتب (سامح وسميرة)، سأقوم بتجليدها، ولن أسمح لأحد أن يلمسها، سوى أختي (مريم)، لأن (سامح وسميرة) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما.. وفي كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة الجيد، ولن أكون كسولاً مثل (سميرة)، وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ، وسأوزّع السّكاكر على كلّ اهل الحارة، ولن أطعم وَلَدَي عمّي، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما، مثلما فَعَلَا معي، يوم نجح إلى الصّف الثاني، لا فرق بيني وبين (سامح) سوى أنّه ينادي معلمه (أستاذ) وأنا أناديه، كما أوصاني أبي، سيدي الشيخ.
في الصّباح الباكر، وعلى صياح الدِّيَكَة، قفز ليوقظ أمّه، وبسرعة غسّل وجهه ويديه، سرّح شعره الخرنوبي، حمل حقيبته الزّرقاء، وانطلق رافضاً تناول الزعتر والشّاي.
دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة، الضاربة للبياض، ربع ليرة أجرة الأسبوع سلفاً، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة، بين كومة الأولاد، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ المسنّ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ، حتّى أمره الشّيخ بالوقوف، تأمّله بعينيه الحمراوين، فارتعش الفتى، لكنّ الشّيخ لم يشفق عليه، بل صرخ:
ـ ما هذا الذي تلبسه؟.. صدّارة!!.. ما شاء الله، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة؟!.
انهارت أحلامه، لم يكن يتوقّع مثل هذه المعاملة، من الشّيخ، أراد أن يسأله عن رفضه الصدّارة والحقيبة، غير أنّ الخوف عقل لسانه، فجلس دامع العينين.
ما أسرع ما ينهال الشّيخ، على الأطفال بعصاه الغليظة، وما أكثر ما يغضب ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين، وخلال أيّام قليلة تعرّض (رضوان) إلى عدّة (فلقات) منه.
وذات يوم.. ضبطه الشّيخ وهو يقتل ذبابة بيده، فانهال عليه ضرباً، غير عابئ بصرخاته ودموعه، وأخيراً أصدر أمره الحازم:
ـ التقط الذّبابة.. وضعها في فمكَ..
وابتلعها.
لم يخطر في باله مثل هذا الأمر، بكى.. توسّلَ.. ترجّى.. تضرّع.. سَجَدَ على قدمَي الشّيخ يقبلهما، استحلفه بالله وبالرسول، فلم يقبل.. تناول الذبابة.. ووضعها في فمه، فوجد نفسه يتقيّأ فوق الحصيرة، وضجّ الأولاد بالضحك بينما جنّ جنون الشّيخ، فأخذ يضربه ، ويركله، كيفما اتفق، وبعد أن هدأت ثورته، واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام، أمره أن يغسل الحصيرة والأرض. ولمّا كان صنبور الماء قريباً من الباب، أسرع وفتحه وأطلق العنان لقدميه المتورمتين.. فأرسل الشّيخ على الفور، من يطارده من الأولاد.. ولكن هيهات أن يلحق به أحد.
في المساء.. عاد والده من عمله، تعشّى مع أسرته، ثمّ أخبرته زوجته، بأمر هرب (رضوان) من عند الشّيخ، فغضب الأب وصفع ابنه، وأمره أن يذهب معه، في الصّباح لعند الشّيخ، ليعتذر منه، ويقبّل يده الطّاهرة.
ـ الولد ابنك.. لكَ لحمهِ ولنا عظمه.
قال الأب للشيخ:
ـ لا عليكَ يا أبا (رضوان). الولد امانة في رقبتي. قال الشّيخ مكشراً عن أسنانه المنخورة.
في ذلك اليوم، لم يضربه الشّيخ، واكتفى بتحذيره، أنذره من الشّيطان الذي بداخله.
وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة، وكان الوقت ظهراً، وكان الأولاد محشورينَ مثل السُّجناء، في غرفة صغيرة، لا نافذة لها، كانوا يتصبّبونَ عرقاً، شعر الطّفل برغبةٍ لا تقاوم في النّوم، رغبة اشدّ من قسوةِ الشّيخ، ولا يدري كيفَ سها، وعلى حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ قدمهِ، فانتبه مذعوراً ،وقبل أن يسبقه
بكاؤه، تبوّل في مكانه.. بلّل ثيابه والحصيرة، وتعالت الضّحكات من رفاقه، وفقد الشّيخ رشده، فلم يجد (رضوان) وسيلة للتخلص سوى بالبكاء، بكى كثيراً، حتى رأف الشّيخ بحاله، وسمح له بالإنصراف.
منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد، لقب (الشخاخ).
من أجل هذا، أخذ يجامل الأولاد، ويكسب ودهم، ولكنهم كانوا أوغاداً، ازدادوا استهتاراً به، وبمحاولاته لكسب صداقتهم، وكان الجميع يتشجّعون وينادونه الشخاخ، إلى أن جاء يوم من أيام الشتاء، عجز فيه والده، عن دفع ربع الليرة، فطرده الشّيخ، وكان سعيداً، لأنه أصبح حرّاً.. بعيداً عن الشيخ والأولاد.
وجلس (رضوان) يترقّب موعد طرد (سامح وسميرة) من المدرسة، لكنّ عمه لم يعجز حتّى الآن، عن دفع النفقات، كما كان يتوقّع والده، وذلك أمر كان يحزّ في قلبه.
صار يتسلق جدران المدرسة، ليراقب
(سامحاً) الذي يلعب في الباحة، مع رفاقه أثناء الفرصة، صار همّه الوحيد المراقبة والانتظار، لحين انصراف (سامح). وكم كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من (سامح)، ليحملها عنه، متخيّلاً نفسه تلميذاً، وفي تلك الأيام، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من أحد المعلّمينَ، ليرمي عليه السلام، وكم كان يشعر بالغبطة، حين يردّ عليه، ظانّاً أنّه أحد تلامذته.
وما كان يضايقه.. سوى الآذن ( أبي
لطّوف)، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته،
كلّما رآه متسلّقاً على الجدار، وكم كان يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن أمسكه.. وفي إحدى المرّات ، استطاع الإمساك به، كان قد تسلّق الجدار، وجلس يطوّح بقدميه، ينظر إلى التلاميذ، وبينهم (سامح)، وهم ينفّذون درس الرياضة.. كان يراقبهم بشغف، وهم يركضون خلف الكرة، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير..
وفجأة أمسك (أبو لطّوف) بقدمه.. وأخذ يشدّها بقوة، و (رضوان)الذي صعقته المفاجأة يصرخ.. وهو يحاول التملّص، غير أنّ (أبا لطّوف) تغلّب على الصغير، فارتمى بين ساعديه حيث قاده إلى غرفة المدير، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في ثيابه.
كان المدير بديناً وأعورَ، صارماً أشدَّ قسوةً من الشّيخ(حمزة)،أمره بالجلوس
على الكرسي، وأمسك الآذن به، ورفع له قدميه، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة، ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل، آلاف المرّات، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار، حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه، ينتحب بغزارة وحرقة، في حين كانت(كلابيّته) تقطر بولاً.
منذ ذلك اليوم، أقلع (رضوان)عن تسلّق الجّدار، صار يكتفي بالدَّوَران حول سور المدرسة ينتظر (سامحاً)، وكان يصيخ السّمع، إلى صوت المعلم، المتسرّب من النّافذة، وهو يهتف:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
فيردّد التلاميذ خلفه:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
وكان يتناهى إلى سمعه، صوت (سامح) من بين الأصوات، أو هكذا كان يتخيّل، فيشعر بالحسد.. ويتمنّى ذلك اليوم ، الذي سيعجز عمّه (قدّور) عن دفع النّفقات. في تلك اللحظة فقط، سوف يسخر من (سامح)، لأنّ هذا لن يكون متميّزاً عنه بشيء، بل على العكس:
ـ فأنا أطول منه قامةً..وأشدّ قوةً.. واسرع ركضاً.. وكذلك أنا أمهر منه في قذف الحجارة، ولا أخاف الاقتراب، من الحمير والكلاب.
في أحد الأيام، سقط العمُّ (قدّور)
عن (السّقالة)، في أثناء عمله في البناء، وانكسرت رجله، فاستبشر خيراً، ولكن زوجة عمّه(نجوى)، سرعان ما خيّبت رجاء (رضوان) إذ باعت قرطها وخاتمها الذهبيّين، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة العيش، وكم كره زوجة عمّه هذه.. بل إنّه يكرهها من قبل، لقد رضع كرهها من أمّه، التي تطلق عليها.. لقب (أمُّ عُصٍّ)، لأنّها نحيلةً جدّاً، في حين كانت أمّه ضخمة جداً.. وهكذا توالت الأيّام، وهو يمضي نهاره، حول سور المدرسة، في انتظار (سامح) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية.
فينتهزَ الفرصة، ويقتحم صفّ (سامح)، ويرسم على السّبّورة خطوطاً كثيرة، حتّى انتابته حالة انفعالية، غريبة.. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ.. ولم يخرج من الصّف، إلّا بعد أن رفعَ (كلّابيَّتهُ)، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم.. وأمامَ السّبّورَة.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
يتبع.....





الجمعة، 5 يناير 2024

ما ذنب الحب ــــــــــ ربا رباعي


 ما ذنب الحب

حدثني عن أنفاس الفجر
فحنيني لضجيج نبضي
غزا قلبي قبل عيني وكأن
صقيع العشق بات كبرد
الشتاء يفتش عن طيف
أحلامك ويرتجف أنينا لماض
ويبتسم لخذلان حياة باحثا
عن إيقاع ابتسامة وتراقص
همسات أحاسيسها تعانق
القلب وتضيء الروح بياضا
لانوار أبجدية تزهر طيفك
بقلبي ثم أذبل لحكايا تبعثرت
تجاعيدها وانبثق موج حسرة
غربة عواصف صمتنا وهدوء
ألم انكساراتنا و مرارة أهاتنا
وقهر خذلان رووحنا تبحث عن
لحظة نهوض لذكريات أوت
في قيد الحياة تتبعثر في
جوف ليل متكسر..
.ما ذنب الحب...
أحيا أحلام القلب عشقا
وذاب القلب اشتياقا
والعين عشقت مراما
ما ذنب الحب آل زوالا وأوهاما
ما ذنب قلبي ذاب لوعة واشتياقا
ربا رباعي

الفدائي ـــــــــ كمال الدين حسين على


 الفدائي. صامدٌ إنْ تقدَّما

شامخٌ ما ترهَّما
في سبيلٍ ورفعةٍ
خاض نارًا ومعتما
وبعزمٍ فقد رمى
وابلاً ومضرما
فوقَ وغدٍ تجرَّما
ولئيمٍ بلا نهى
عَشِق َالظلمَ دائما
كمْ نرى فيهِ خسةً
ثمَّ وجهًا تفحَّما
كلُّ حُرٍّ بها هوى
بيدِ العزمِ أنجما
في غمارٍ وحروبٍ
مثلُ أسْدٍ تجهَّما
هزَّصخرا وجبالاُ
قد دناها تكتَّما
كمْ سرى بينَ حالكٍ
واللظى ما تكلَّما
مجمل مشاركتي
في سجال الفدائي
كمال الدين حسين على

قطار الحياة ـــــــ عبداللطيف المنصوري


 ********قطار الحياة*****/

يا قطار الحياة
الي أين انت ذاهب
بنا ياقطار الحياه
‏اعدنا الي الوراء
‏فقد اضعنا
في الطريق
أشياء
‏وفقدنا
أشخاصا
‏وهربت منا
أمنيات
‏اعدنا الى طفولتنا
فقد أدركنا
كم هو جميل
ذلك الوقت
الذي انصرم
منا
خاصة
الى اين تسير
بنا
يا قطار
الحياة
مهلا
دعنا نراجع
أنفسنا
نحاسب أنفسنا
نستعطف خالقنا
ياقطار الحياة
توقف قليلا
قليلا
بقلمي عبداللطيف المنصوري
إبن جرير 5/1/2024
المغرب

أكون أو لا اكون ـــــــــ الشاعر جمال أسكندر


 ( أكون أو لا اكون )

كَأَنَّهُ مَا وَعَى لِلْمَرْءِ مِنْ بَعْدُ زَلَّتَهُ
كَبَلَادَةِ جَهُولْ أَوْ نُهى سَادِرٌ
وَكَمٌّ لِنَوَازِل اَلدَّهْرِ غَابَتْ مَدَارِكَ
كَمَنَ أَصَابَهُ اَلنِّسْيَانُ وَالْعَقْلُ ضَامِرٌ
لَهُ ذِكْرُ مَا اِنْفَكَّ يَحْسُبُ نَاصِحًا
فَمَا هُوَ مِنْهَا لِنُتْفَةِ اَلْفِطْنَة ظَافِرُ
وَلَيْسَ غَرِيبًا إِذْا عُصِبَ عَقْلٍ
وَهَلْ عَجِيبٌ لَوْ عُمِيّتْ لَهَا بَصَائِرُ
وَلَمَّا تُغيرْ اَلْفَجِيعَةَ تَلَقَّى وَاهِنًا
جَثى وَهُوَ لَلْرَزِيئَة لَهَا نَاظِرٌ
فَمَا دُمْتُ حَيًّا فَالشَّدَائِدَ مَعْقُودَةً
مُفَتَّتٍ غَايَاتِهَا أَوْ لَهَا صَاغِرُ
فَازَبْدَتْ ثُبُورًا بِأَسَى لَمَطَاوعَهَا
وَمَا مَغَبَّتُهَا إِلَّا لَظًى فِيهِ غَائِرٌ
وَبِالحِلْمِ لِكُلّ إِمْرَءْ تَرْقَى مَدَارِكَهُ
وَبِالْكَرْبِ مِنْ رَدعٍ سَما وَهُوَ قَاهِرٌ
كَأَنَّنَا وَقَدْ عَاثَتْ مِحْنَةَ عَقْلِنَا
وَكَمْ شِدَّةً أَضْحَى بِهَا اَلْوَهَنُ آسِرٌ
حَيْثُمَا كَوَاسِرَ اَلدَّهْرِ أَبْدَتْ مَخَالِب
وَمَا اَلْكُثُرَ قَدْ أَرْخَى لِلَفْتِكَ عَذَافِرُ
وَأَنِّي يَبْلُغُنِي مُرَادِي أَنْ أَرَى
سَبَرَا وْأَحِيا قَاهِرًا وَهُوَ دَابِرٌ
الشاعر جمال أسكندر العراقي

رخيصه الدنيا ــــــــــ عبدالمنعم عدلى


 رخيصه الدنيا

عبدالمنعم عدلى..مصر
يادنيا
وكنت فاكرك
حاجه حلوه
وأغنيك غنوه
أتاريك ظلمتينى
بمعرفة ناس تانيه
صاحبتهم وصنت ليهم
ودهم وحبهم
وسر الحياة
بحت بيه لهم
خانونى وقهرونى
وبعدت عنهم
ورخصت نفسى أمام نفسى
وأنا اللى
إديتهم عمر
فوق عمرى
وكنت فاكرهم
هيشيلواعنى همى
أتارينى كنت
شايل همهم
وأنا مش دارى
أخذواكل حاجه
وأصبحت ولاحاجه
يخساره على
ربيع العمر
اللى ضاع فى حبهم
وفاضل ايه يادنيا
خريف قصير
وليله طويل
أعيش فيه وحيد
والقلب يتجرع صديد
ومخاض علقم
سقونى منه
مر السنين
صاحبتهم وكنت فاكر
عندما أموت
يمشوا ورايا
أتاريهم خانوا العهد
وخربوا ماورايا
وماعاد صاحب
ولاحتى جار
يامصاحب الناس
وناسى نفسك
إنسى الناس
وصاحب نفسك
دعيونهم جراحه
والنظرة منهم دباحة
خليك بعيد
وخلى سرك
من وراء ظهرك
وبين الضلوع
وحدث نفسك
ورخصت يادنيا
وناسك فيك فالحه
قطعوا حبل الوصال
وقطعوا الكلام
وقبورك يادنيا
أحن من قهر الناس
إبكى معايا
يانجوم السماء
على دنيا رخيصه
الرخيص فيها غالى
وساكن فى العالى
والغالى فيها
تحت التراب
ومهوش دارى
داسوا عليه
ومحسبهوش غالى
بقلمى عبدالمنعم عدلى