جمالية اللغة..جمالية الإبداع..لدى الشاعرة التونسية القديرة نعيمة مناعي (قصيدتها " إدمان" نموذجا..)
عندما أقرأ "(إدمان) شعرا لشاعرة معاصرة -ترقص على إيقاعات الكلمات-،سرعان ما تقودني قراءتي للتعمق في ما هو كامن وراء أسلوب الشاعرة التونسية المتألقة (نعيمة مناعي ) من تقيمها الإنساني لمخلوق استوطن ملكوت الشعر منذ أن دنا إليه خيال الشعراء ( المرأة ).
فلا زلت أقرأ المرأة عيونا،ورموشا،وخدودا،وجيدا،وخصرا.
ولا زلت أقرأ العلاقة معها: شوقا وعشقا وسهدا وأسرا.
وإذن؟
لاشكَّ-إذا-في أنَّ الشعر فنّ مثير كباقي الفنون؛وفن الشعر لا يعتمد فقط إيقاع التشكيل الجمالي،وإنما إيقاع الشعور الحسي التأمليّ في صناعة ذلك الدفق الروحاني،أو الومضة الروحيّة التي تعتصر مكنون الذات،وتبث ألقها بشرارة الإبداع؛ والشاعر/الشاعرة المبدع(ة) ليس خلاّقاً للغة فقط،وإنما خلاّق لعالم آخر يسعى إلى الدخول في أتونه ألا وهو (عالم الرؤية) أو( عالم الحلم)؛والقصيدة اللوحة هي قصيدة الحلم أو قصيدة الولادة الجديدة؛بحس جديد،وشعور جديد،ومن لا يملك هذا الشعور المتجدّد لن يصل في شعره إلى مرتبة الفن
وإننا- في مطالعتنا لتجربة-الشاعرة التونسية المتميزة-نعيمة مناعي -(وهذه شهادة مني) وحيّ،وفنّانة في ترسيم شعورها بألق اللحظة العاطفية الصوفية المحمومة -
أجزم-نعيمة مناعي -المنبجسة من ضلوع -ولاية الكاف-ذات زمن موغل في الدياجير،وإنما هي تسعى إلى حيِّز المطلق والانفتاح التأملي،فحدود الرؤية-لديها-مطلقة مفتوحة،تجوب فضاء الآخر دون قيود اللحظة الزمنية أو الآنية الضيقة،إنَّ حدود قصائدها تجوب الحاضر،وتفتح آفاق المستقبل،تولد كل لحظة،لتبعث أملا جديدا،وحلما جديدا وعالما جديدا..
لذلك؛ فالفنّ -في شعرها-يكمن في طريقة تشعير الكلمة في فضاء السياق،فالكلمة تحسّ أنها تصنعك،والجملة تتدفق من ومض روحك،والقصيدة تترك بصمتها في قلبك وتجوب حلمك، لتتربع على عرش فؤادك،وتتلون ببريق عينيك..لترى ما لا تراه من سابق..وتحلم أحلاماً كانت في حلمك الأزلي..تفتقت أمامك من جديد...وعاودت إليك هدهدة الأحلام وضحكة الطفولة،التي أذبلتها جهامة الأيام؛وجففت ينابيعها جراح السنين.
ختاما أقول:
لا يستطيع قارئ قصيدتها الموسومة بـ [إدمان)] من الوقوف على شائبة تصويريَّة،أو عثرة تشكيليَّة،أو هجنة إيقاعيَّة..
لهذا تكتمل مثيرات قصائدها اللوحة كلها في تعزيز جمالها وتناسق إيقاعاتها،كما لو أنها مُهَنْدَسَة فنيَّة لتأتي غاية في التفاعل،والتضافر،والانسجام؛وهذا ما يُحْسَبُ لشعريّة الشاعرة التونسية المتألقة نعيمة مناعي -أنها ممتدة امتداد الأفق،تعايش عالم مفتوح غني بالمعارف، والمواقف،والإمكانات،والأيديولوجيات،والموروثات الأسطوريَّة المكتسبة..
تتفاعل - في القصيدة اللوحة عند -الشاعرة نعيمة مناعي - الإيقاعات البصريَّة،بالإيقاعات الصوتية بالأنساق اللغويّة التصويريَّة؛بإمكانات فريدة،تؤكد جدارة شعريتها وجسارتها،وعمقها في بث الرؤى،وتكثيف المواقف،والأشكال التي تفرزها حركة الألوان والإيحاءات في قصائدها التشكيليَّة ذات الترسيم اللوحاتي في حركتها وتماوج إيقاعاتها الداخلية.
ولنا عودة إلى -إنتاجها الإبداعي المتميز -عبر مقاربات مستفيضة..
لنستمتع قليلا بما جادت علينا قريحتها الشعرية العذبة:
إدمان
إمرأة الشمس...
لا تليق بها الهوامش
علمها كيف يسجد الزمن للصبر
فعلمته كيف ترتجل فيه قصيدة
علمها كيف يحملها في قلبه بذرة
فنبتت فيه لتعانق القمر
وعلمته كيف تغير عقارب الساعة
حين يهمس فيها
فعلمها الغياب الموشى بالحضور
وعلمته كيف تزرعه وردة
فتينع على ضفاف صباحه
فعلمها كيف يرتفع سقف الوعود
فعلمته كيف تجاري العهد
وكيف تشرق الشمس من ضيم الليل
وعلمها كيف تتهاوى العتمة حين تصرخ فيها
وتحاكي النجمة.
نعيمة مناعي
على سبيل الخاتمة :
اللغة هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين،غير أنها تتعدَّى وظيفتها الاجتماعية المحدودةَ هذه،فتشكِّل الأساس في عملية بناء القصيدة؛إذ تمثِّل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقِّي،فتؤدي بذلك وظيفةً أخرى،تتمثَّل في إيجاد روابطَ انفعالية بينهما،فتتَجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير،وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس،والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر(ة)،ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي.
تختارالشاعرة التونسية القديرة نعيمة مناعي من اللغة وإيحاءاتها،وتولِّد منها ما قدر على التوليد،لا لتأتي بمعانٍ يجهلها الناس تمامًا،ولكن لتصور صفوةَ معارفهم من زوايا متفردةٍ تدهشهم وتعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي،وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ،إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني،فتُضيف إليها أبعادًا جديدة،وبذاك تتجدد وتحيا، وبغير ذلك تذبل وتموت؛إذ نجد ألفاظه تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ.
وتسعى الشاعرة-نعيمة- في بعض قصائدها إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛ فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعرة،لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الشاعرة بأدواتها الفنيَّة، فالنظر في التجربة الشعوريَّة وفَهم الحالة الذهنية لقصيدةٍ ما يتطلَّب القدرة على الانغماس في العالم النفسي لهذه الشاعرة( نعيمة)واستحضار حالتها النفسية من خلال كتابتها لهذه القصيدة،وفَهمُ الحالة الذهنية تَعني القدرة على استعادة الجوِّ الشعوري ومُعايَشتِه من جديد،ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يُمعِن النظر في الظروف والوقائع التي أدَّت إلى ولادة القصيدة،وبدون ذلك قد تُنزع القصيدة عن سياقها النفسيِّ وتَبقى تراكمًا لغويًّا وشكلاً دون معنى،وتفقد الحسَّ الشعري..
لك..مني..يا -نعيمة-سلة ورد..مفعَمة بعطر الإبداع..
محمد المحسن