الأحد، 5 يونيو 2022

العلاقة بين القلم والفرشاة في عالم سمير مجيد البياتي بقلم الأديب المختار المختاري الزاراتي

العلاقة بين القلم والفرشاة
في عالم سمير مجيد البياتي
بقلم: المختار المختاري الزاراتي
إذا ما تقصينا دفتر مسيرة سمير مجيد البياتي الإنسان فإننا حتما سنتوقف عند عناوين كبيرة تكوّن شخصيّة ونفسية وذهنيّة متميزة بما تحمل في باطنها من مفاتيح عالم يلعب بكامل تفاصيله 'الموت المنزّل'
ولولوج متنه الإبداعي الذي هو متأثّر لدرجة الرغبة الملحة في التأثير فيه من خلال ما يبدعه من تشخيص و ألوان لريشتين {القلم – والفرشاة}.تمثّل دفتر رموز يحاول من وراء أقنعتها التي يجتهد للتواري خلفها والنطق بلسانها (أحرفا معدة للنطق أو رسوم جاهزة للتأويل) أن يصرّح بما هو أعمق ما في الأسئلة عن الوجود الإنساني في هذا العالم الناري البركاني والمقرون بالعدم والموت المبرمج.
وأوّل، وأكبر هذه العناوين والرموز هي – الحرب – التي ولّدت فيه حروب طاحنه تعيش على غرس روحه ليبوح بها للورق وللحقيقة المتحركة في أشكال تشكيلية أو على قماش لوحات تراها جامدة على الجدار بينما هي تتحرك فيك في أعماق السؤال بكامل تفاصيله العراقية.
فهو الذي عاش ما لا يقل عن ثلاثة حروب {حرب إيران – العراق / حرب الخليج الأولى 1991 / وحرب الخليج الثانية 2003 أو ما سمي عاصفة الصحراء} وكلها كارثي، دمويّة، قاسية النتائج على المستوى الإنساني والوطني والاقتصادي للعراق.
وليس سمير مجيد البياتي سوى نتاج من ومشهد، وتعبيره حقيقية من بين عدد كبير ممن أفرزتهم هذه المعطيات السابقة الذكر واللذين توزعوا بين مناحي العراق وبين ديار الغربة.
وهنا ينضاف عنصر آخر يكوّن لدى سمير مجيد البياتي الذي نخصه بهذه القراءة. عنصر ارتكاز مباشر في مجمل أعماله التي نبعت من مهجره.
وإذا ما أضفنا لكلّ ما سبق حالة أخرى تمثّل لدى جيل عراقيّ برمته وهي حالة اختناق كبيرة وضيق يقود إلى الرفض. فنتاج الحالة التي عاشها العراق من حروب كان لابدّ للحاكم أن يفرض قوّة كبيرة وعسكرة ورقابة واستخدام كلّ متاح من الاستخبار إلى قساوة (إن لم نقل بشاعة) التدخل الأمني والمخابراتي. بقصد السيطرة على الداخل وهذه الدكتاتورية القاسية التي يبرر لها بمعطى وعنصر حيوي مجابه للعدوّ وهو تماسك جبهته الداخليّة قدّام هجمات وإغراءات العدوّ لاستمالة من يمكن له أن يقوده لاختراق البلاد وفتح بوابتها من الداخل.
فالحاكم العربيّ عامة الذي يجعل من وطنه سجن كبير لا يسمح فيه لرؤية ما خلف الجدود إلاّ ما يرغب في تمريره لهم والذي يذهب إلى العصا عوض الحجاج والإقناع ويخوّل لرجال الأمن بالتحوّل إلى مجموعات من العصابات تحكم باسمه وتنفذ باسمه وتنهب وتقتّل وتعاقب على الشبهة وكثير مما لا يتسع المجال لذكره هو خاسر مهما كان وطنيا وصادقا وشريفا فالغاية في عصرنا لا تبرر أبدا الوسائل التي لا تقنع العقل وتريح القلب بالمنطق والصراحة والشفافية.
ولكن ما كلّ ما يعصر يفرز نبيذ فالعصر يمكن أن ينتج دما وطنيا يسيل حبر وألوانا على ورق أو قماش أو طين وغيره من ما يمكن أي يصير رصاصة إبداعيّة فنية أو أدبيّة أو فكريّة في قلم أو ريشة أو فرشات مواطن مبدع.
وإذا ما حاولنا حصر هذه الفترة الزمنية من حياة العراق نجد الرقم مرعبا إذ هو يقارب الأكثر من ستين سنة عاش منها سمير مجيد البياتي ما يكفيه ليكوّن في ذاته وشخصيته وروحه المعبّرة {كما الكثيرين من أبناء جيله} حمولة بركان.
وفي شبه محصلة أوليّة يكون السؤال صرخة.
*ما الذي يكون عليه إبداع هذا الكائن وبكلّ هذا الحمل وكلّ هذه الأوزار؟
بهذا العالم المفضوح العبثية والعدمية وحتى القسوة المفرطة في أحيان كثيرة. وهذا المشهد الغامق القاني وبكلّ ما في السواد من ارتدادات تحيل روح الغريب إلى (عباية) نساء العراق والليالي السود التي طبعها الدم حتى غدت من أعظم أنهار الدنيا التي تسيل أرواح ميتة غدرا. وهذه الموجات التي تحمل فيها كلّ موجة عنوانا للموت والخراب. يكون سمير مجيد البياتي ثمرة أصيلة وأصلية لعمره ولزمانه ووطنه العراق حتى في غربته.
ولئن كانت محطة تونس تمكنه من إفراغ نزر مهمّ نسبيا من حمولته وأحماله وشحنه وشحناته بأريحيّة نسبية. وبعض راحة يمنحها له قليل من الإحساس بالأمان والابتعاد عن شبح الموت الذي مازال يعبث بروحه من خلال ما يرد في نشرات الأخبار ومن خلال ما يرويه القادمين من أرض التفجيرات والانفجاريات والدم المراق في كلّ ثانية وفي كلّ شبر. حتى أنّ من يغرس قمحا أو تمرا في طين العراق يحصد حتما ثمرا أحمر قاني وورديّ غامق.
*إذن كيف ستكون التعبيره في أرض الغربة؟
هذه المحطة التي شهدت ميلاد عديد الإبداعات خلاصتها الأولى وعنوانها الأبرز هو إصرار سمير مجيد البياتي على استخدام سلاحين لذات المهمة. وحتى نحصر مساحة القراءة سنتخذ من
المجسّم: {يجوب مهاجرا بلا أحلام}
وقصيدته: السندباد البحريّ
مرتكزا ومدخلا لتشريح عالم سمير مجيد الابداعي. لما لهاتين العلامتين من وحدة الذات والموضوع. وسنتابعه فيهما بشكل متداخل وموحد العناصر الموحّدة بطبيعتها.
فالمبدع سمير مجيد في هذين العنوانين ينطق صارخا حرفا وحركة وتشكيلا فنيا ورسما. ويستخدم جملة من أدوات ووسائل التعبير في آن. كأنه يرغب في التصريح عاليا:
{سأفهمكم بكلّ اللغات والكل المنابر عن المأساة}
وإذا ما وقفنا عند دلالة العنوان الذي اختار للمجسّم (يجوب مهاجرا بلا أحلام) نراه ينطلق من الخاص إلى مشهد عام عراقي وحتى عربي معاصر ونعيش فصوله في تونس في قضايا (الحراقة) وفي سوريا الحرب وفي اليمن وغيرها من الشعوب التي تفرّ نحو ضفاف ترى فيها بعض أمان متخلية عن أحلامها هناك في أرض وطنها بينما تضرب في الأرض وفي البحر وفي الجوّ بحثا عن (أطلنطسها المفقودة أبدا).
ليعود من هذا العام لخاصه الذي هو سمير مجيد البياتي الحقيقي الذي يمثّل وحدة تجمع في كوامنها وما عاشته الكلّ (أو أغلب هذا الكلّ) فهو المهاجر الذي قاسا ويلات العراق {المشابهة لأوطان عربيّة أخرى، وإن كان بكثير من الحدة وامتداد الزمن المدمّر} حتى أصبح فاقدا للحلم مقابل بحثه عن الخلاص والتخلّص مما اكتنزته الذاكرة والروح والخيال والأفكار من بشاعات وويلات وكوارث. وهذه كتل الألوان والكتل التي استخدمها المبدع في مجسمه ونسبة الضوء المائل إلى الظلمة وتلك الألوان التي تذهب نحو الذبول والخفوت الشديد كما روح تستعد للسفر البعيد بكامل أوزار حزنها. وما الفراغات المبثوثة بين اسطر المجسّم المقروءة التأويل والمفتوحة على كم من التأويلات التي تصبّ في نهر واحد. دجلة أيام الموت المترصّد والضبابية والتشرد والحبّ العظيم الذي يخلق حجم وطن من الحزن والغضب والغيظ.
ليتحد عنوان المجسّم بعنوان القصيدة الذي "السندباد البحري" وهو إحالة للحكاية المعروفة عن الرحالة سندباد وعلاقتها ببغداد التي ذاكرته وروحه ونبع ومنهل أنامله المبدعة. وهنا نسرد مستهلّ القصيدة الذي سيحيلنا فيما بعد لمعطيات وعناصر اجتمعت في المجسّم أيضا.
يجوب البحار.. ويشقّ النهار
ويكشف الأسرار.. يترصّد الأفكار
والأقمار...
ويبحث عن الديار...
تلو الديار.../...
وإذا ما تفحصنا المجسم في مشاهدة عامة حتما سيحيلنا هذا المطلع الشعريّ إلى الحقيبة التي على قبر سجن في آن يمثّل خارطة جسد بداخله حبس وسط عتمة عامة تعمّ مشهدا يحمل في خلفيته نبرة واقعية تلخص قاعة عرض تشكيلي أو هو فندق أو مساحة محطة سفر (مطار أو ميناء أو محطة برية) يقف فيها شخص نرى منه الخلف الذي يحيلنا على عدم الاكتراث والاهتمام أو اللا مبالاة لهذا الذي يجيء من الموت حاملا موته إلى محطة ليس يعلم أي موت يصادفه فيها وأي من أنواعه وألوانه وأحرفه. هذا الذي يعلّق رسمته على جدار غامق كألوان هذه اللوحة التي ترسم صرخة الخراب.
كما أنّ لسمير مجيد لمسته السحريّة في مجسمه الذي خلق أبعاد عدة وهي أبعاد البصر والإبصار محاولا وضع بصمته في كل الاتجاهات باحثا عن فرض طقس ليس على المكان وحسب ولكن في كلّ نفس وصدر وقلب وعقل يتحرك في محيطه. فيختلّ توازنه باختلال توازن الحركة المثقلة بما تحمله وما تثيره فيه وتوقعه في نفسه وفكره وبصره. ليبدو المشهد مبك حدّ الضحك الأسود المرّ لمرارة ما قد يصل إليه وطن ربّما يكون وطن العرض عرضة له. وذات المشاهد تسأل عن زمن بلوغ ووصول مثل هذا الحال اليه تحديدا.
وهذا المشهد الذي سردنا ببعض تأويل أوليّ من خلال ظاهره هو محاورة الذات وذاتها العميقة في أصل تناقضاتها التي تبرز خصوصا في ذلك القيد الذي يربط المدفون في قبر سجن (بالحياة) أي وهو حيّ إلى المكان. الذي لا يزيد عن جواز سفر الذي يخبرنا عنه في مقطع من قصيدته بقوله:
رحلته لا تنتهي.. لاكتشاف المجهول
ليس بحثا عن الرزق.. بل مغامرة وأسفار طوال
كحال العراقيين الآن؟ (...)
يهرول من مكان إلى مكان..
والأطفال.. نيام
وعويل الصغار.. وثقل الأحمال (...)
وكلّ الأيام متشابهة
كلها لون واحد
الصباح الأسود
والظهر الأسود
والليل الأسود
والفقر الأسود
هذا هو الحال إن كنت تسأل
يا سندباد عن الحال... (...)
هكذا ينكشف السواد الحقيقي في عالم سمير مجيد على ضفتي القول وهو المشهد الكامن في أعماق روحه والوطن وفي أرواح كلّ سندباد يدخل أو يخرج من بغداد حاملا في القلب بغداد. وهو ينشد قول سمير مجيد:
علمتنا الترحال
وطرق الأبواب الثقال
نستجدي وطنا
لا يكون به قتال... (...)
ذلك هو سندباد الذي في المجسّم يعيش في قبره السجن حياة الميت وهو يسافر مغامرا بين المحطات والموانئ والمرافئ الغريبة هاربا من رصاصة تلاحقه ومن قلب وطن ينبض في قلبه فلا يترك له مساحة للراحة والحلم بغير ما في المرايا من أخبار تلاحقه حيث ما وطئ
لتكون الذاكرة معبر السؤال الحقيقي عن الجدوى من فكرته وهو يستثمر في المشهد القديم لبلاد التعايش والسلام والاختلاف الذي يكوّن وحدة وطن هو العراق فينتخب من بغداده صور لا يعرف كنهها الاّ من خبر بغداد حتى ما قبل حرب الخليج (أمّ المعارك 1991) وما بعدها بقليل أو قل حتى اندلاع (عاصفة الصحراء 2003) فهو يلخص بغداد في التالي:
أحبّ مخبرنا
والخبز أبو (السمسم) و (التفتوني)
والعطارات و (النومي بصرة)
وسوق (السراي) و (المتنبي) والوجوه القديمة
والناس الطيبين..
أزور (باب الشرقي) و (باب المعظّم) و (المنصور)
أحنّ (لنصب الحريّة) و (ساحة الأمة)
وأتبارك في (الكاظميّة) و (الأعظميّة)
أمتّع نفسي (في شارع السعدون) وسينما (أطلس) و (الخيام)
وفندق (المنصور ميليا) و (الشيراتون)
أناجي نفسي وأدندن مع (أبي نواس)
في الليالي القمريّة مع السمك المسقوف
بهذه الكلمات البسيطة نسجل حرقة ومرارة كبيرة وتحسّر على أيّام خوالي مرّت كأنها حلم جميل غدر به وبصاحب القبر السجن. الذي ربّما يكون سجن الذاكرة التي تجعل من المتألّم يسارع نحو القبر حتى لا يعيش غدر الزمان والإنسان بوطن جمع في شارع واحد كلّ الطوائف والأديان والشهوات والثقافات والإبداعات وروح تبحث عن ملاذ فيه قليل من الفرح البسيط.
وفي شرح بسيط للمعالم والمدائن والأماكن ومكانتها ومضامينها العامة:
مجاورة (الكاظمية مرقد الإمام الشيعي موسى الكاظم) بالأعظميّة حيث التمركز السني والذي يفصل بينهما فقط جسر على نهر دجلة. لا يتجاوز بعض الأمتار لتدخل بأمان إلى إحدى الضفتين وتبارك ربك بما تشاء من طقوس. وما شوارع كالسعدون بسينما أطلس أو الخيام وسوق السراي 'أو سوق الكتب القديمة الذي يمثّل لدى البغداديين مزار يجمع كافة النخب صبيحة الجمعة من كل أسبوع وأيضا شارع المتنبي الذي في احد فروعه يقع السوق أما شارع أبي نواس فهو الشارع الذي يحوي أكثر من 365 حانة ويقع كاملا على احد ضفتي دجلة وأسواق شعبية مثل باب الشرجي 'الشرقي' أو باب المعظّم والحي الذي يمثّل الرقي والحداثة (حي المنصور) وكل هذه الأمكنة هي الخليط الوطني الذي يجمع (المسيحي بل الأزيدي بالسني بالصابئ بالشيعي بالمجوسي وغيره وهم من كرد وعرب وتركمان وكلدان وأشور وغجر وغيرهم وجميعهم يحتفلون مع العائلة في طقس فريد على ضفة دجلة أو الفرات حيث مطاعم السمك المسقوف.
وبهذا الشرح البسيط المبستر والمختصر يمكن أن نكتشف من خلاله ليس فقط الفقد بل الأكثر هو التحسّر والألم الذي يبرز في المجسّم أكثر مما في القصيدة حيث نرى سمير مجيد البياتي هو الذي يقبع داخل القبر السجن حاملا حقيبته ورقما كأي لوحة عرض في معرض الحالات البشرية الميؤوس من عودته لسالف ما كان لكن خارطة بياض التي تتوسط القبر السجن هي مساحة التنفس لمجال حيوي من الحياة في عالم يهلك. هي مساحة النفس التي يمكن أن تسامح وتتسامح وتغفر لمن يقود نحو فكّ أسر هذا الواقع الرديء والكارثي الموبوء.
وهي أيضا مساحة الطهر الإنساني والبراءة التي لا يمكن أن تقبر أو تسجن لأنها تحي في الذات البشرية على فطرتها وبفطرتها تخرج مترجمة في لحظة تباغت الكلّ وفي إشكال عدة منها الإبداع وروح الخلق والابتكار والإضافة التي لدى سمير مجيد البياتي قلمه وريشته وفرشاته وأيضا جسده الذي يتحرك بكلّ أثقال روحه المبدعة وإبداعه الذي يجسمه في هذا المجسم الذي تحرك به وعرضه وهو فيه وفي تفاصيله كلها. في عرض أقيم بمناسبة أيام قرطاج للفن المعاصر (بتونس) محددا بذلك حدود تفاصيل باتت معلومة لكلّ عابر في اتجاه المصيدة التي وضع خطتها المبدع سمير مجيد ونصب فخاخها بإحكام الألوان والضوء المستخدم والذي يسير في ثنائية متصلة ليزرع في النفس تعطل يستوقفها لتصارح ذاتها وتحاول إيجاد موقعها في هذا العالم الموبوء الذي بصم على جلد الإنسان العذابات جميعها وأهمها وأكبرها الموت المترصّد والمتعمّد الترصّد وليسأل ذاته هل يكون الحلّ هو الحقيبة والطريق البعيد إلى اتجاه بعيد. وهو يعلم سالفا ان الاتجاهات كلها واحدة لا تصل إلاّ للموت. ويترجم خياره سمير مجيد ذاك في قصيدته بقوله:
يا سندباد..
مللنا الترحال
ونود الاستقرار.. ورمي حقائب السفر
حتى الحقائب هرمت وتكسرت أسنانها
واهترأ جلدها
لقد تحملتنا.. كثيرا.. تحملت همومنا
وشاهدت معنا أماكن لم تراها من قبل
وهي تركل بالمهانة
تريد الآن أن تحال على التقاعد.. تريد أن تستريح
ونحن مثلها
لكن في أي وطن هذا؟
وهذا هو السؤال {أي هامش في الوطن يمكن أن يحمل أثقالنا ونحمل أوزاره ولكن يمنحنا العيش الآمن وبعض من رحيق الحياة والحبّ وممارسة إنسانيتنا المبدعة؟} وهنا يجيب سمير مجيد عن سؤال الجرح في ثنايا البلاد وطريق تغمدها الموت المبرمج سلفا حتى غدت في بصيرته سواد في سواد بما تفشى فيها من طوارئ ومنعرجات وفخاخ دخيلة وحتى من أبناء الجلدة ممن دسهم المال القذر أو حملهم وهم الكراسي الأماميّة التي صنعت وأعدت للموهومين بالسيادة والقيادة لكنهم لا يستفيقون إلاّ وقد أتموا دورهم في مسرحيّة قتل الوطن وقبره وامتصاص ثروته وخيراته ورغيف فقرائه وكادحيه ومعدميه وهم آمنين في بعيدهم وخلف حدود معلومة المسافة والعنوان:
وطننا قد غيروه
بأناس غرباء
دخل العجم فينا
في كلّ زاوية
كالفيروس الخبيث
كالأفاعي والقنافد المسمومة بأشواكها
تنشر رحيقها
وتلوث أهلنا
بسموم (التومان) والدولار
تزرع الأحقاد من أيام كسرى
خرج المارد الآن من قمقمه
من (قم) وطهران
يرش الموت والدمار
وإذا ما توقفنا للحظة أمام المجسّم نجد صدى كلمات سمير مجيد فيه بينة حيث الألوان الغامقة التي تحيلنا على دفتر المأساة بجميع تفاصيلها المبثوثة في ذاكرة جمعية تجاوزت حدود العراقيين لتمكث في متن كل عربيّ وإنسانيّ. وما القبر السجن المقيّد على خارطة الوطن سوى الترجمة الفعليّة لما يعيشه الوطن أمّا الكلمات فهي صورة نموذج لهذه المأساة وإحدى أوجهها التي تدفع نحو ارتكاب جريمة السفر الى بعيد ما.
أما الشخصيّة المسجونة في قبرها هي التي تسأل وهي المجيب وهي السندباد الذي اشتهر بالرحلة وملاقاة الأهوال والكوارث والمخلوقات العجيبة وهو أيضا بطل من أبطال ألف ليلة وليلة بما يوحي العنوان من عنصر الخرافة.
فهل بغداد تعيش خرافتها أمّ أنها أصبحت خرافة أو أنّ الشعب العراقي ومنه مبدعوه من شدة وقع الألم وبؤس الحقيقة تصوروا أنفسهم أنهم يعيشون خرافة وليست حقيقة كلّ ما يشهدون وقائعه. كذا هو التخيّل الذي استثمره سمير مجيد في كلا العملين (القصيدة بصريح التسمية والإحالة والمجسّم برموزه رغم تشبّث الرموز في المجسّم بواقعيتها ومعاصرتها وليس فيها من الإحالات والتجسيم لمشاهد تاريخية خرافية مستمدة من خرافة السندباد ليكون المجسّم المشهد الحقيقي وليس الخرافيّ لواقع العراقيّ اليوم. لذلك يواصل في قصيدته وضع علامات الحقيقة غير مبال بمآل رسالته أو في يد من ستقع وكيف سيبوب معطياتها بل هو يفضح المشهد متخذا كالعادة من تفصيله وجزئية مرتكزا:
يا سندباد
ليس لنا قائد
ولا ضابط ولا رابط
إنهم مجموعة أقزام
جاؤوا مع الغربان
ليكونوا أسيادا بلا سلطان
ليكونوا أصوات بلا لسان
ليكونوا سيفا بيد 'زعران'
إنهم كالقشة
يأتي يوم ويطيرها
النسيان مع الأيام
انهم كالريح
صفراء
سوداء
لابد أن تشرق
أرض العراق
إن الرجال نائمون
أو لم يولدوا بعد
في هذا الأوان
في رحلاته الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة { الغول الأسود – السندباد يدفن حيّا (وجزيرة آكلي لحوم البشر – والأضحية البشريّة)– شيخ البحر – مقبرة الأفيال –} كلّ هذه الفقرات تكوّن مع غيره وهي سبعة في مجملها رحلات السندباد في دفتر ألف ليلة وليلة. نوردها هنا لمزيد توضيح الحالة الذهنيّة والنفسيّة التي اقتنصت من دفتر تاريخها الإبداعي البغدادي ما يمكن له أن يعبّر برموزه تقريبيا على الأقل عن الحالة والوضع الذي قاد جيل من أجيال العراق إلى التشّرد بين قبر المهجر والقبر سجن في يوميات وطن من موت.
وبين تذكّر وتحسّر وألم وحنين وشوق وغرق في الحزن الغامق الذي جمع في سواده العدم والعبث والقسوة وبصيص من الأمل يشرق من خلال بعض بياض يتخلل أحرف تحكي ذاكرة المكان في زمان كان وتستمد من خاتمة خرافة السندباد التي تصل في النهاية بغداد ومنها يسأل سمير مجيد البياتي السندباد الذي فيه:
يا سندباد
ليتك تعود من رحلتك
لنوقظ الأرواح
والأحلام والأمجاد
لقد ضيعونا...
محو التاريخ والجغرافية
والإنسان
القلم ينادي والأوراق تبكي
والألوان والأعراق
تسأل؟
لماذا تتساقط الأوراق الخضراء الندية
في كل يوم وهي تنادي
واه.. يا عراق
واه.. يا عراق
وإذا كانت القصيدة سرديّة في مغلبها وعرض لمشاهد هي لوحات من رسوم تشكّل معانيها معرضا تشكيليا رسم بأحرف منطوقة تاركا خيال القارئ يرسم من خلالها كتل المشاهد المبثوثة فإن المجسّم كان خطيرا في إتقانه ومذنب في طقوسه التي تغرينا بكثير من الغضب والتمرّد لردّ محيط من الحزن والبؤس وهو أيضا مقترف لجرم الإجادة في تحريك نفسيتنا الراقدة في نعيم البعد عن الموت المنزّل كما نتصور والحال انه يقترب تدريجيا وبشكل متسارع في معقه الغير واضح في المشهد.
وهو أيضا ساحر في تحركه واستثماره لمكونات الفضاء ليقنعنا بالجدوى من الإبداع في زمن أصبح فيه الإبداع جريمة والصدق فيه مجلبة للموت على يد الإخوة الأعداء أو بنيران صديقة.
لذا أقول شكرا لسمير مجيد البياتي الإنسان الذي اختار أن يركن للرصيف ويذهب في اتجاه استثمار مواهبه للتكسب. وأقول لسمير مجيد البياتي شكرا لأنك مبدع جريء يوقظ الواقع من غفوته ليشاهد ذاته في مرايا الزمان والإنسان. وأقول له أخيرا وليس في النهاية والختام نجحت في ما فشل فيه غيرك يوم تحرّك باحثا عن كتابة اسمه رقما فقط بينما أنت تكتب اسمك بأحرفه في دفتر تاريخ المشهد الإبداعي.
رغم الخاتمة التي كم أردت تغيبها عن القصيدة وحتى محوها ليس لهنة أو لخطأ ما بل لقساوة ما تحمله من عمق الحزن واللوعة التي تدمي المقل العارفة والمواكبة بدقة متناهية والتي عاشت بغداد وتنفست رائحة عبير أيامها وعطر لياليها وعبت من 'عرق' (دربينها) و(ميدانها) ورصافتها وكرخها وكرادتها وأعظميتها ووزيريتها وباب معظمها وكاظميتها والشعب والثورة والمنصور والسعدون والمتنبي وأبي نواس والكهرمانة والكثير الكثير الكثير مما يحملك وأنت تشاهد المجسم وتعيش تفاصيل حراكه حولك وفيك إلى تلاوة خاتمة القصيدة سرا لا جهرا حتى لا يفضحك الدمع النازف وأنت ترتل:
ألم ينهض الأبطال؟
الغربان سدّوا عين الشمس في بلادي
وكلّ غراب له ألف غراب
يا سندباد
النسور والصقور
أكلت الحمام والطيور
والعصافير مقطعة الرؤوس في الطرقات
وهي تفرفر من سكرة الموت
والثكالى والأرامل
تنوح وتصرخ بصمت
حتى الدموع لا تخرج من المقل
كأنها الجبال
العيون الحمراء تنزف دما
نشف الوجه
ويبس البدن
واستكان الناس
جالسين.. بلا حراك
يطلع النّفس إلى الأعلى
وفي أوقات... لا ينزل.
لك الله يا عراق ولك ما تبق من رجالك والنساء الماجدات ولك التاريخ الذي يسندهم لبناء غد ربّما تكون دماء هذا اليوم غسل يطهّر الحياة من رجس علق بها جراء زيت الكاز أو ما سمي الذهب الأسود الذي دمّر كلّ جميل حلم به الإنسان وطمح لبنائه. ولك 'الجنّ' يسقيك ما يسقينا من سكر الحبّ في شوارعك الأماميّة والخلفيّة بلا خوف ولا حزن ولا مواربة. ولك في كلّ مواقع الإنسانية {عربيّة كانت أو من أجناس عدة} عشاق ينتظرون ما بعد ملاحم الصمود الغالية الثمن ملاحم العشق الذي يشيد أرض الحلم.
مع وافر تحياتي *المختار المختاري الزاراتي
*شاعر وكاتب وصحفي حرّ سليل وطني الزارات من بلاد إفريقيّة
إفريقيّة 01/02/2019
Peut être une image de 5 personnes et intérieur

طائر الأفق إلى المبدع سمير مجيد البيّاتي رسّاما و شاعرا وناقدا وجليسا بقلم الأديب بوراوي بعرون تونس،

 طائر الأفق

إلى المبدع سمير مجيد البيّاتي رسّاما و شاعرا وناقدا وجليسا
أنا لست منّي إن أتيت و لم أصل / أنا لست منّي إن نطقت ولم أقل / أنا من تقول له الحروف الغامضات : / اكتب تكن ! / واقرأ تجد ! / وإذا أردت القول فافعل، يتّحد / ضدّاك في المعنى ... / وباطنك الشّفيف هو القصيد " محمود درويش / جداريّة طبعة 2009 / صفحة 25
الاحتفاء بالمبدع سمير مجيد البيّاتي احتفاءٌ بالرّسم و الشّعر معا1، حيث العلاقة بينهما تقوم وطيدة و حميميّة على مرّ العصور وقد سبق للشّاعر الإغريقيّ " سيمونيدس "( 556 – 468 ق.م ) أن أشار إلى ذلك في قولته المأثورة " الرّسم شعر صامت و الشّعر رسم ناطق"2 والعلاقة بينهما تقوم كذلك بالضّبط عند ضيفنا المحتفَى به المحلِّق عاليا في ملكوت الإبداع رسما وشعرا، إذ يقول في نصٍّ من ألوانه البلّوريّة: " أريد أن أكتب قصيدة؟ (1) / تبدأ بصورة / وتنتهي بلون. "3 سمير مجيد البيّاتي المرهف الحسّ و المتشبّع بالفنّ الخالد4 منذ ما قبل ملحمة " جلجامش " مرورا بالإبداعات المتنوّعة في بلاد الرّافدين حتّى اللّحظة العراقيّة الرّاهنة، طائر ذو جناحين ساحرين ( جناح للرّسم و جناح للشّعر )، جناحان يشقّ بهما المدى بابتسامته الآسرة وشغفه الطّفوليّ الغامر. من بلاد الرّافدين إلى اليمن وصولا إلى تونس يظلّ الطّائر محلّقا في الأعالي مطلاّ على العالم ممعنا النّظر في الأشياء ممسكا بعناية فائقة بالفرشاة والقلم " لوحة / أرسمها بوريد شرياني / وألوّنها بألوان أحزاني / أرسمها و ترسمني / تفكّر كيف تفضحني؟ ! / أفكّر بلمّ جراحي / ولا تنساني / هي منّي و أنا منها / ولدنا وكلّ منّا يكمّل الثّاني "5. قد تختلف المحامل و الأدوات والألوان ولكن الأثر يظلّ رائعا هنا و هناك، الأثر سواء كان لوحة تشكيليّة أو نصّا شعريّا أو مقالة نقديّة يظلّ هو هو من حيث القدرة على التّأثير في المتلقّي، ويظلّ مؤثّرا في الأزمنة وإن اختلفت التّجارب و الفترات كما يظلّ مؤثّرا في الأمكنة وإن اختلفت الأذواق و المحطّات. في مجموعته الأنيقة و المتفرّدة " ألوان بلّوريّة "6 ذات البؤرة / النّافذة الممعنة في لوحة " الموناليزا " يختلط الرّسم بالكتابة وتختلط الكتابة بالرّسم حتّى لكأنّ المكتوب على البياض ضرب من التّشكيل وكأنّ لوحة " دافنشي " نصّ ناطق.
في " ألوان بلّوريّة " يحلّق سمير مجيد البيّاتي في سماء الرّوعة مقتفيا أثر " جلجامش " في بحثه عن نبتة الخلود، متوحّدا في لحظة نادرة بروح الفنّ في ملكوت الوجود7 ... كيف لا وهو يمخر بنا من خلال البؤرة المحفورة بإتقان و تدبّر عباب الذّاكرة، ذاكرة الرّسّام المستلهم للتّجارب السّابقة و المتذوّق لها والمُصغي للإيقاعات الخالدة يستحضرها بشغف بواسطة القلم وبياض الورقة وما أدراك ما القلم وما الورقة، بالشّعر المستأنس بالنّثر وبالنّثر المتدفّق شعرا فيّاضا يغوص بنا الفتى الدّجلاويّ في متاه البؤرة السّاحرة حيث تتراءى لنا من وراء الأضواء البلّوريّة لوحة " دافنشي " تتمنّع فارضة على من يطلب ودّها التّرحال العجيب على ضفاف الفوّهة الدّوّارة الّتي يتعانق فيها الانجذاب إلى القاع مع الانفلات منه في حركة هي أشبه ما يكون بالطّقس الذي ينغمس في أسره دراويش الصّوفيّة خلال الشّطح اللّولبيّ الملفت للإعجاب. يقول الشّاعر: " المتاهة / ندخل فيها / و تدخل فينا / تدور و تدور / شئنا أم أبينا / كأنّنا / سكارى "8. للمتاهة في النّصّ البيّاتيّ وقع المرايا " المرايا / كلّما نظرت إليها / أشمئزّ / من الذي أراه أمامي / هشّمتها بوجهي / سالت الدّماء / من وجه الزّجاج المحطّم / تفتت إلى قطع صغيرة .. صغيرة / وعندما رآها / نظرت إليه بوجهه القبيح / فبدأ يلتهمها / ولا يبقي أثرا يكون شاهدا عليه / - المرآة – هي الحقيقة الأليمة / لنفسه."09 وللمتاهة في ذات النّصّ وقع الأحلام "الأحلام / تطير كالفراشات / و تحترق / قبل أن تصل "10 للمرايا سحرها وفتنتها وتجلّيّاتها تكون محدّبة أحيانا ترى الأشياء أكبر من أحجامها الحقيقيّة ومقعّرة أحيانا أخرى ترى العالم يتشظّى و يتلاشى، وللأحلام سحرها هي الأخرى و تجلّيّاتها وأبعادها اللّامتناهية في جميع المستويات و لها وهجها الآسر وبريقها الخلاّب ومخيالها العجائبيّ الفاتن. أمام المرايا وفي حضرة الأحلام يتجلّى الإبداع البيّاتيّ خير تجلّ مرتحلا في فضاءات الخلق المترامية الآفاق ...
في ألوانه البلّوريّة العجيبة يستحضر سمير مجيد البيّاتي" عباقرة " الفنّ الحديث " ليوناردو دا فنشي " و " فنسنت فان جوخ " و" بابلو بيكاسو " و " سلفادور دالي " و " بول أليوار " وآخرون ... ويستحضر عباقرة الإغريق " سقراط " و " إفلاطون " ويستحضر إلى جانبهما " صدّام " ويَسِمُهُ مثلهما بالحكمة، " ... ألوان تخرج من الجسد و الرّوح / وعصارة الزّمن / اكتبوا قصائد / دون كلمات و لا نقاط ولا معنى / اصرخوا في صالات الموسيقى / واعزفوا موسيقى المدافع و صلال السّيوف / وهي الأعذب و الأجمل / اشنقوا عباقرة الحكمة / سقراط و إفلاطون و صدّام "11 فهل أنّ الرّافديّ المهاجر من ضفاف الماء شرقا إلى أقاصي الغرب، الضّفاف الأخرى لروافد آخرى يهزّه الحنين إلى الزّمن العراقيّ قبل الاجتياح الرّهيب والتّخريب المخيف؟ 12 ... وهل أنّه يرى في " طاغية ذلك الزّمن " حسب تصنيف الوافدين على ظهور الدّبابات الأمريكيّة رمزا للحكمة يرتقي إلى مستوى عباقرة الإغريق؟، الأمر يستدعي جرأة وتحدّ و معارضة لآراء تزعم أنّها تمتلك الحقيقة المطلقة ... ليس الأمر هيّنا ولكنّ قلم الشّاعر يرسم ما يريد مثلما تقول ريشة الرّسّام ما تشاء ... في ألوانه البلّوريّة يغرق بنا الشّاعر الرّسّام وهو يحتفي بضيوفه المبجَّلين من الفنّانين العظام في ألوان مليئة بالسّواد، حيث العتمة تلفّ العتمة وحيث يُخيّم حزن عميق، حزن يكاد يأسر كلّ المشاعر و الأحاسيس " بابلو بيكاسو / دموع / ونحيب / وبكاء حارّ / يفطّر القلب / ما كلّ هذا الحزن / يا سيّد بابلو بيكاسو؟ الوضع الذي نحن فيه / دام و مؤلم و حزين / تقصف قريتنا الجميلة / ( جرنيكا ) / بالقذائف و الطّائرات / وتباد في بضع ثوان / كيف تريد أن / ترسم ريشتي / السّيّدة ( دورا مار ) التي / أثّرت فيه كثيرا / لقد سافرت بي / إلى قريتها / لقد قتل أهلها / وأهلنا / و أجهشت بالبكاء "13 ، وكأنّ سمير البيّاتي يستلهم فيما يستلهم في ألوانه البلّوريّة مأساة بغداد وما تركته من أثر عميق في أهل العراق من مختلف الأطياف و الشّيع و الأحزاب وخاصّة من المبدعين ... نلمس ذلك ونحن ننزل في حركة دائريّة إلى أسفل نتصفّح النّصوص محدّقين في عينيْ " الموناليزا " كما نلمسه ونحن نصعد إلى أعلى مبتعدين عن الأضواء المتدفّقة من حواليْ وجهها، في الإتّجاهين المتعارضين و المتكاملين وفي إيقاع بيّاتيّ خاصّ به، يرتحل بنا الفتى البابليّ من ملكوت الإطمئنان الزّائف إلى فضاءات الحيرة و التّسآل الدّائم و القلق الأبديّ، هناك حيث يبتدئ الخلق من جديد، سواد مخيف تنبعث منه أدخنة داكنة تشهد على الموت المتربّص بالعالم من كلّ الأنحاء، وحزن كئيب يعصف بالأفئدة و القلوب، و توجّعٌ مضنٍ ينخر الارواح والتّاريخ. استحضار عجائبيّ للخراب الممنهج الذي تربّص بقرية " جرنيكا " في النّصّ بعنوان: "بيكاسو " المشار أليه أعلاه و تربّص كذلك ببغداد في النّصّ بعنوان " مفاجأة " إذ يقول الشّاعر: " رأيت اليوم / سلفادور دالي يتجوّل / في شوارع بغداد / ومعه حرّاسه الخاصّون / واقفا ممسكا عصاة / ينظر إلى الجموع باستهزاء / وحوله كلابه المدرّبة / لا أحد يكلّمه أو ينظر إليه / لأنّه يقتله / سلفادور دالي المفكّر / يبصق على وجوه المارّة / بألوانه المتناقظة / يصف الجموع / ويرميهم من أعلى المباني / ليسقطوا واحدا واحدا ... "14
البدء عند سمير البيّاتي ضرب من الخلق العجيب خلق بالألوان وخلق بالأقلام و خلق بالأحاسيس، الحزن العميق الضّارب في المأساة والمستلهم لها والمتمثّل للملهاة والمستأنس بها تعبير صارخ عن تعالق سرياليّ بين التّراجيديا و الكوميديا، مأساة كوميديّة و ملهاة تراجيديّة تحتفيان بالمفارقة الكبرى التي تظهر على ملامح " الكوميديّ " الذي يبدو أحيانا على الرّكح في غاية الابتهاج وهو يُسلّي المتفرّجين بينما هو في الحقيقة يُخفي حزنا عميقا لا يظهر من وراء القناع. " قالوا لي / أنت الفنّان المبدع / أنت الرّسّام المتألّق / أنت ابن الجنائن المعلّقة، وابن الرّافدين / قلت لهم: / أنا المعاناة و الألم / وأنا الجرح النّازف / وأنا من ضحايا المغول و التّتار / طوينا همومنا مع الرّيح... "15. في لحظة الخلق البيّاتيّة عند شاعرنا و رسّامنا تنصهر الألوان في أبيض لا يظهر على البياض إلاّ متجاورا مع أسود عاتم يتبادلان الإثارة على قارعة الذّاكرة وفي أقاصي الوجدان ... في ألوانه البلّوريّة يحتفي سمير مجيد البيّاتي بالفنون خير احتفاء ... ويُقيم كرنفالا مهيبا للفنّ التّشكيليّ و للموسيقى و للرّقص وللحياة بأدوات الشّعر. يُعرّف بضيوفه المحتفَى بهم وبآثارهم بمفردات أكاديميّة دقيقة ويتفاعل مع هذه الآثار بأسلوب فنّيّ راق حيث تتقاطع الصّور الفنَيَة و تتداخل و تتشابك حتّى لكأنّنا إزاء صورة كلّيّة هي صورة الشّلاّل الكونيّ الذي تتدفّق من معينه الرّموز والأساطير و الانزياحات و المجازات و الاستعارات والكنايات ... وينهمر من منبعه الكلم ... في لوحته بعنوان " هل " يلمع قبس من ذلك المعين حين يقول الشّاعر : " هل؟ / هل رأيت لوحة تتكلّم؟ / هل رأيت كتاب شعر يبكي؟ / هل رأيت آلة موسيقيّة تنتحر؟ / نعم في الفنّ / إنّها / مثل البشر تأكل و تشرب / و ترقص / وتمارس الحبّ/ وتموت."16 ... الفنّ عند سمير مجيد البيّاتي إحياء للعالم و أنسنة للأشياء ونفخ من الرّوح في الوجود. وحلم كبير وغامر. رغم الأحزان و المآسي والأهوال يحلم الشّاعر و الرّسّام والنّاقد بل يُمعن في الحلم حيث يقول في اللّوحة الأخيرة من ألوانه البلّوريّة: " أحلم بمدينة / أسطورة / أحلم بمدينة فاضلة / تلبس ثيابا مزركشة ومطرّزة /الذّوق و الفنّ يكسوانها في كلّ شيء / أحلم بمدينة فيها الحبّ و الجمال؟ ! / بيوتها ملوّنة مزخرفة / عماراتها ناطحات سحاب / تعانق السّماء / والنّاس تمتطي الغيمات تتنقّل / و ... / دعونا نحلم بجنّة أسطوريّة على الأرض. "17 ويظلّ ضيفنا المبجّل رغم تلك الحقائق المرّة و الموجعة طائرا في الأفق يحلم ويحلم و يحلم محلّقا بجناحيه الفاتنين يمخر عباب المدى.
المراجع و الهوامش
1 / تمّ الاحتفاء بالرّسّام و الشّاعر العراقيّ التّونسيّ سمير مجيد البيّاتي بنادي الشّعر باتّحاد الكتّاب التّونسيّين يوم الجمعة 07 / 12 / 2018 قدّمه للضّيوف النّاقد جلال المخّ و نشّط الأمسية رئيس النّادي الأستاذ الشّاعر عبد العزيز الحاجّي.
2 / صلاح الدّين الحمادي، الصّورة النّمطيّة في نسيب الهذليّين، دار الاتّحاد للنّشر و التّوزيع، ص 70
3 / ألوان بلّوريّة ص 102
4 / اشتهرت بلاد الرّافدين بالفنون طوال تاريخها، منذ ما قبل الحضارة السّومريّة و إلى الآن ...
5 / ألوان بلّوريّة ص 91
6 / ألوان بلّوريّة / نصوص، الطّبعة الأولى سنة 2017، مطبعة فنّ و ألوان – تونس. تصميم الكتاب 21 / 21 مربّع الغلاف، مكعّب الحجم، تتوسّطه بؤرة في شكل مربّع تخترق كلّ الصّفحات وتقفل من الأسفل بمربّع مقايس للمربّعات الأخرى مرسوم عليه وجه الموناليزا لدافنشي، والنّصوص / اللّوحات مكتوبة على ضفاف ما تبقّى من كلّ صفحة.
7 / ملحمة " جلجامش " الرّافديّة التي تروي حكاية الملك " جلجامش " الذي خاض مغامرات عدّة باحثا عن نبتة الخلود، ولئن لم يعثر البطل الأسطوريّ على مبتغاه فإنّ الفنّ العظيم / الملحمة خلّده إلى الأبد.
8 / ألوان بلّوريّة ص 134
09 / المصدر نفسه، المرايا ص 120
10 / المصدر نفسه، الأحلام ص 135
11 / المصدر نفسه، مفاجأة ص ص 70 – 83
12 / العدوان على العراق 1991 و غزو العراق واحتلال بغداد 2003 / استهداف البشر و المدن والحضارات المتعاقبة وتخريب آثارها.
13/ ألوان بلّوريّة، دموع ص ص ص 46 – 48
14 / المصدر نفسه، مفاجأة ص 70
15 / المصدر نفسه، قالوا لي ص 128
16 / المصدر نفسه، هل؟ ص 146
17 / المصدر نفسه، أحلم بمدينة ص ص 186 – 194
بوراوي بعرون ( شاعر و ناقد ) تونس، جانفي 2019
Peut être une image de 2 personnes et intérieur

*شجار* بقلم الأديبة حبيبة المحرزي

 *شجار*

تتقارع الايام
تتشابك السّاعات والدّقائق والأعوام
تلمٌ أذيال الشّجن المتثور خلف "البسوس*
على القمم الجرداء
يتعقٌب النوارس المرتدّة عن داحس والغبراء
بصرير خريف كئيب
موثق بين أنياب الدّجى
يدعوني لثورة تنكّريّة صاخبة
دون حسيب
أو رقيب
دون مسبحة أو صليب
ثورة تتعقب نقرات المطر
في ليل الأسى البهيم
على شظايا الأمل المصلوب
على الصخور المتكبّرة
المترسّبة
تشوٌه الأشرعة الحالمة عند برزخ بيّن
فاصل بين جهنّم المتربّصة
والفردوس الأعلى
بين المحبٌة والنٌقمة
بين نجد وصنعاء
أو طرابلس وأمّ الدنيا وافريقيٌة
تجثم الفتن الصّليبيّة في انتقام مدبّر مرير
تحتدم المعركة
بين دماء قانية شهيدة
وأمواج قاتمة سوداء
متهوّرة
ترصّ اسقامي
تحجز جواز سفري المزوّر
تتلف هويتي وثورتي وعزة نفسي
تهتك أحلامي
ترتدّ في خضم مضطرب يائس
ياس النيل ودجلة والفرات
وخيراتها العميمة
في قوم أصلحهم فدم
واشجعهم نعامة في البيداء
أستجدي قبسا يرفّ في الظّلام المكين
ببوصلة صدئة من عراك البسوس والفجار
تستفحل الأوجاع في كهنوت الانتظار النازف
في غياهب مرتجّة
تقرٌعني من ايام وأعوام
شحت الانوار
وتمدّدت الخطوب
في قوم مرتبكين مرعوبين
يوقدون الشموع
بين أنياب الدجى
والانتظار العقيم ..
حبيبة المحرزي
تونس
Peut être une image de 1 personne, arbre et plein air


أنتِ و الٌمَطرْ بقلم الشاعرة التونسية زهرة الحواشي

 أنتِ و الٌمَطرْ

قال
إحضنيني
و اقْرئي همساتِ قلْبي
و دعيني ألثِم عِقْد اللْآليء
اسْتقي منْه سُلافي
و أتوه في مساربِ راحكِ ... و الْعجبْ
و إذا ما ذبتُ حرْقا
في رُضاب الشّفتيْن
و شعاع الوجْنتيْن
و تهاويْتُ رضيعًا ظامئًا
عند مرْمرِ توْأميْكِ
غانماً حبّة حلْوى
يخْثرُ منْها لعابي في دمِي
هي أشْهى منْ شهيّاتِ الرّطُبْ
فاجْذبي جسَدي المخدَّرْ
دون رفقٍ
و اجْمعي ذاك الشّتاتَ المتبقّي
منْ قوايَ
و ارسميني ماردًا قد سال دمْعي
في مفارق دفْء دفئكِ
و اعْصِريني خمْرةً تدْفق روحا تلْتهبْ
واطْفئي حُرْقةَ شوْقي
بقليل منْ حُميُا عذْب كأسكِ
برحيقِ الوردِ منكِ
و ندى الشّهدِ المعتّق بين اعْطافكِ
ينْساب سواقٍي مثل إكسير العنبْ
و ازرعي طفْليَ ذاك في غياهبِ ليل تيهِك
- فتفارقَ روحُه اضْلعي-
ريْحانا و نورا و خيوطا منْ لهبْ
و إذا الأنْفاس منُي ارْتحلتْ
فإليْها - هِيَ - سلّميني غائبا
و انْتظري ...
فتعمّدَني كما يجبُ التعْميد
تحْت خيوطِها
تغْسلني
تمْشطني
تغْزلني
و انا اهْذي بأنُكِ قاتلتي
يا صهباء الصّهبْ
و انتظري ... انتظري
حتى تجفّفَني بِضِيا النّيازكِ و الشّهُبْ
و انظري
وانتظري
حتى تنْفُخ فيَّ روحًا هادرهْ
فيَشعّ منْ عيْنيّ نورُ الثأرِ يا قاتلتي
عنْد ذلك دثّريني بجنونكِ
ذا الذي أشْتاقُهُ
فانا آخرُ العشّاق يا فاتِنَتي
دائمُ الشّوْقِ لموْتي الٌمُرْتقَبْ ...
الشاعرة التونسية زهرة الحواشي
من ديوان حديث الرّوح .
Peut être une image de texte


قَصِيدَةُ ( أُسْتَاذِ الْعِلْمِ وَمُنْشِده ) بِقَلَمِ الشاعر عِصَام حُسَيْنِي مَدِين

 قَصِيدَةُ ( أُسْتَاذِ الْعِلْمِ وَمُنْشِده )

مُعَارِضَةٌ لِقَصِيدَةِ أَحْمَدَ شَوْقِي
(( مَضْنَاكَ جَفَاهُ مَرْقَدَهُ ))
بِقَلَمِي عِصَام حُسَيْنِي مَدِين
....................
أُسْتَاذُ الْعِلْمِ وَمُنْشِدُهُ
بِالصَّبْرِ يَلُوذُ وَيُجْهِدُهُ
يَتَكَبَّدُ وَجَعًا وَيُعَانِي
مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ تَنْهَدُهُ
وَبِرَغْمِ الْفَقْرِ وَحَاجَتِهِ
بَطَلُ مِغْوَارٌ تَرْصُدُهُ
بِرِسَالَةِ عِلْمٍ يُمَدِّدُهَا
كَنَبِيٍّ لِلطَّالِبِ يَدَهُ
كَمْ جِيلٌ شُبَّ عَلَى يَدِهِ
لِبِنَاءِ الْمَجْدِ يُشِيدُهُ
عَبَقٌ مِنْ وَرْدٍ يَجْمَعُهُ
يُهْدَى لِبَنِيهِ وَيُمَدِّدُهُ
وَيَنَامُ عَلَى حُلْمٍ زَاه
وَيَطِيبُ بِلَيْلِ مَرْقَده
النَّاسِ بِقَصْدِ تَجَهُّله
بِعُيُونٍ بَاتَتْ تَجْحَدُهُ
وَهُوَ الْمَظْلُومُ بِلَا سَبَبٍ
يَبْغِي الْإِنْصَافَ وَيَقْصِدُهُ
لَا يَطْلُبُ مَالًا يُسْنِدُهُ
لَكِنَّ تَقْدِيرًا يُسْعِدُهُ
..............
بِقَلَمِي / عِصَام حُسَيْنِي مَدِين
Peut être une image en noir et blanc de 1 personne et barbe


نقرأ لنحيا مرتين...وأكثر بقلم وريشة د.فوزية ضيف الله

 نقرأ لنحيا مرتين...وأكثر

دعها تعيش حياتها بعيدا عند
-------
وضعت لوحتي على طاولتي...كانت تستهويني لعبة القراءة منذ الصغر..قرأت الصبر في تجاعيد جدي الذي كانت ذكراه الضبابية تحتل مخيلتي. قرأت وجع أمي عندما حملت اخوتي وأرضعتهم حولين كاملين، وتقاسمت معها أجواء الحضانة. تبينت وقرأت عشق أبي للحياة عندما وجدته لا يهمّه الغد بل اليوم...قرأت بشغف تفاصيل أمومتي وأنا لازلت طفلة. أدركت أن العشق لا يُقدم عليه الضعفاء وأن لعبة القراءة لا يطالها إلا الصابرون على ضربات الهجر الدورية...علمتني القراءة أن أقرأ البعد في عيني طالبتي...وأن ألحظ الحزن في وجه تلميذ صغير...
نذرت للقراءة فقرا..واكتشفت إني قرأت كل شيء منذ يومنا الأول..قرأت ظلالا مسيجة وحبا قديما لم يغادر. قرأت حزنا كان يعصف بنفسك ويضعها أمام العدم....كان كتابك مفتوحا...وكلما حاولت غلقه انفتح في حلمي وفي ليلي على هيئة طفل ساجد للحياة...كانت كل أحلامي قراءة للحياة...قراءة لما غاب عني فيها من أسرار...ولذلك فأنا أنام على القراءة...ولا أزال اقرأ تفاصيل المعنى في نومي..العميق...
ولكن الرواة ينهكون نصوصهم بالمتابعة كما يرهقون ابناءهم، اتركوا نصوصكم تعيش بعيدا عنكم، هي تريد أن تتحرر بعد ان نفختم فيها اوجاعكم واحلامكم. ستعود لكم على هيئة احلام اخرى، لكنها فلتكن حرة في غياب كاتبها. وحده الله يعطي للخلق حرية الفعل والحلم، فكونوا آلهة مرحين، يخلقون الحرف والحلم، على هيئة سحابة يمكن أن تمر في سماء الحالمين المتاملين..
د.فوزية ضيف الله
تونس
الصورة. احدى لوحاتي وفق تصميم Benbrahem Boubakr
Peut être une image de oiseau