السبت، 3 مايو 2025

"الفن التجريدي طقس روحي: رحلة هيمت محمد علي في ذاكرة الزمن" حاورته الكاتبة دنيا صاحب - العراق

 "الفن التجريدي طقس روحي: رحلة هيمت محمد علي في ذاكرة الزمن"


حاورته: دنيا صاحب - العراق 


في رحاب فضاء الفن التشكيلي، ظهر الفنان هيمت محمد علي كأحد روّاد الإبداع التشكيلي المعاصر، متفرّدًا بأسلوبٍ تجريديٍّ تأمليٍّ يجسّد رؤيته الفنية الجمالية المستوحاة من تأمّله العميق في مناظر الطبيعة.


تتآلف ألوانه الزاهية بانسجامٍ دقيقٍ مع الزخارف والأشكال الهندسية المبسّطة صغيرة الحجم، ومع الألوان التجريدية، لتتشكل ضمن رؤية فنية مبتكرة تنبض بروح التصوف، وتواكب تحوّلات عصر الحداثة. وقد أتقن الفنان تجسيد فكرة "الزمن" أو "الوقت" في أعماله التشكيلية.


يتشكّل خطابه التشكيلي من تنوّع الثقافات التي ساهمت في ثرائه الفكري، ومجسّدًا ابتكاراته الفنية في سياق فلسفة وحدة الوجود الصوفية.


يحمل هيمت رؤية فلسفية تتجاوز الإطار الزمني إلى أفقٍ أرحب من التأمّل في ماهية لحظات عبور بوابة الزمن؛ إذ لا يقدّم اللوحة كمجرد منتج تشكيلي أو سرد بصري، بل ككائنٍ حيٍّ ينبض بالحياة الأبدية خارج حدود الزمن المؤقّت، ويفتح آفاقًا لتأويلاتٍ غير محدودة.

ترتبط هذه الرؤية بالتجربة التنورية الصوفية وبالوعي الداخلي، حيث تُفتح بوابة الزمن، فتعبر الروح من خلالها إلى عوالم ما ورائيات غير مرئية، في سعيه الحثيث لإحياء تراث الثقافة الروحانية الصوفية.


ويُضفي أفكاره على الورق الياباني بفرشاة ألوانه، ويضمّنها نصوصًا شعرية وشفرات رمزية سيمائية، حيث تتداخل التجربة الجمالية الفنية مع البُعد الرمزي، وقد نتج عنها الكتابة بلغاتٍ متعددة، منها  العربية، الكردية، والانكليزية، الفرنسية، مما مكّنه من بلورة خطابٍ تشكيلي متحرّر من القوالب التقليدية.


وفي هذا اللقاء، لا نحاور الفنان هيمت بوصفه صانعًا للوحةٍ استثنائية فحسب، بل كمفكّرٍ عبقريٍّ يحمل رؤيةً حاذقة، ويرتقي بفنّه إلى بُعدٍ روحيٍّ منفصلٍ عن الواقع المادي، ليعيد تفسير الزمن.


برؤيةٍ فنيةٍ فريدة من نوعها، يفتح آفاقًا من الأسئلة حول أثر البقاء، واستمرارية الأثر في ذاكرة الزمن، حيث تتلاشى حدود الأزمنة بين العدم والوجود.


ويؤكّد الفنان هيمت أن الفنون، بوجه عام، ضرورة إنسانية، وإثبات للهوية والانتماء الثقافي، ووسيلة لإعادة تشكيل الوعي الفردي والجمعي، في عالم اندثرت فيه معاني الحياة الحقيقية، وصارت الحقيقة تُستبدل فيه بالصور الوهمية.


§ كيف تعرّف نفسك اليوم؟



§ هيمت محمد علي، فنانٌ سائحٌ في عوالم الفن والجمال. وُلدتُ عام 1960 في قرية علي سراي – كركوك، العراق، وأحملُ في داخلي ترحال المدن وشغف الاكتشاف. أبحث عن مدينةٍ أرتاح في أفيائها، وأوثّق معالمها بريشتي، لتبقى خالدة في طيّات ذاكرة الزمن."

"بدأتُ حلمي رسامًا، وعابرَ زمنٍ. 

لا أكتفي بهويةٍ جغرافيةٍ تُقيدني، بل أُعرِّف نفسي بالتحولات التي شكّلتني، وبالمراحل التي خضتها في مسيرتي الفنية،  التي مررت بها.  بين بغداد وعمان  وطوكيو وباريس، وكل مدينة تركت أثرها في خلجات روحي وطبعت معالمها في قلبي واثرت على تركيبة ألواني ولوحاتي . أعيش اليوم في باريس، لكنني دائم العودة إلى ذاتي الأولى، إلى تلك الحجرة الصغيرة التي تعلمت فيها أول مرة كيف أنظر إلى العالم بعين فنان صوفي، حيث كانت الطبيعة عالم الخيال الذي أنتمي إليه روحيًا، تنسج أحلامي بريشةٍ وألوانٍ زاهية و أرسم زخارف واشكال هندسية كانها سطح الأرض مفعمة بالشغف والجمال ين ينعكس عليها نور  الشمس .

 


§ ما العلاقة التي تربط بين الفن والزمن من وجهة نظرك؟"


§ الزمن بالنسبة لي ليس ساعات تُقرأ، بل نبض يُعاش. لا أتعامل معه كشيء يمر، بل كثافة داخلية. حين أرسم، لا أنقل لحظة آنية، بل أسعى لملامسة طبقاتها الخفية. الفن عندي هو محاولة للإمساك بالحاضر قبل أن يتبخّر، "للاستماع إلى صوت الماضي الذي أصبح تراثًا مهمًا، أنظر إليه بعين التأمل والتجديد ، منذ المراحل المبكرة لانسيابي مع الفن البصري  والألوان التجريدية." وللاحتفاء بزمن داخلي لا يخضع للتقويم. في كل لوحة، أوثق وقتًا آخر، زمنًا لا يُقاس بالساعة، بل بلحظات الإحساس."



§  ما الذي يقودك لاختيار لون معين في أعمالك؟


§ اللون بالنسبة لي ليس مجرد اختيار تقني، بل هو حالة وجدانية تعكس اهتزازات داخلية عميقة. "أختار اللون قبل أن تراه عيناي، فهو يأتي إليَّ أحيانًا كنسمة هواء لطيفة، وأحيانًا كألوانٍ تنبثق من جمال الطبيعة، وأحيانًا كألحانٍ تُجسّد إيقاع الوجود، أو كبيت شعرٍ يفوق كل تفسيرٍ عقلاني، يأخذني معه إلى عوالم غير مرئية."


هناك لون لا يشبه إلا لحظة عشتُها في طفولتي، وآخر يحمل ذكريات المدن التي سافرت إليها، "وجمال ألوان الطبيعة الساحرة، التي تسلّلت إلى خلجات روحي وأثّرت في رؤيتي الفنية."  لا أختار الألوان، بل هي التي تختارني. أنا مجرد وسيط بينها وبين اللوحات .



§  هل ما يزال الفن بالطريقة الصوفية  قادرًا على التعبير عن قلق الإنسان المعاصر ومعالجة غربته الروحية؟



§ نعم، بل هو أكثر الفنون قدرةً على ذلك. ففي زمننا المعاصر، حيث يعلو الضجيج وتندر لحظات الصمت والتأمل، نحن في أمسّ الحاجة إلى إحياء الفن الصوفي الروحاني؛ ذاك الفن الذي يعيدنا إلى داخل أنفسنا، إلى العمق، إلى الوعي الكوني، والنور الأزلي.


الفن الصوفي لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يفتح نوافذ على عوالم غير مرئية، لا تُدرك بالحواس، بل تُلامَس بالبصيرة. هناك، يتحول الزمن إلى ومضة مستنيرة، والمكان إلى تجلٍّ من تجليات الوجود. في تلك اللحظات، ينسجم الفنان مع المطلق، ويغدو الإبداع صلاة زخرفية لونية ترتقي بالروح نحو أبعاد سماوية متقدمة.


الرؤية الصوفية في الفن لا تنحصر في تصوير الظاهر، بل تسعى للكشف عن المعنى الخفي، عن الإشراقات الداخلية والتجليات النورانية. هي سعيٌ لمعرفة العوالم اللامرئية، وترجمة النور إلى خلايا هندسية، وتحويل الصمت إلى إيقاعات لونية تنبض بالحياة.


إن الفن الرمزي الصوفي ليس زينة بصرية، بل هو تجربة روحية، عقلية، ووجدانية. ملاذنا من عالم مزدحم بالسطحيات والمأدبات الفانية، وسفرٌ نحو جوهر الحياة، ومعنى وحدة الوجود في حضرة المطلق: الله سبحانه وتعالى.احلموا أحلامًا كبيرة، وكونوا أوفياء لها، فهي بذور نور تنمو في أرض الأحلام، وتزهر في وقتها المناسب.


لا تقلقوا من الاختلاف وتنوع الثقافات، بل اجعلوه فرصة للتجديد، والابتكار، والإبداع، فالتّميز يولد من روح البحث واكتشاف الفنون الجديدة.



والشجاع حقًا هو من يدرك أن التنوع الثقافي وسيلة للتطور والارتقاء، شرط أن يحافظ على هويته الثقافية بصدق وسط هذا التعدد في ثقافات شعوب العالم.




§ في العديد من لوحاتك، نلاحظ تكاملًا بين الألوان والنصوص الشعرية. كيف تحدد العلاقة بين اللون والكلمة في تشكيل المعنى داخل اللوحة؟


§ العلاقة بين اللون والكلمة في لوحاتي هي تفاعل حيّ بين البُعد العاطفي والبُعد الفكري. فالألوان تحمل مشاعر وتجسّد حالاتٍ نفسية، بينما تضيف الكلمات بعدًا ثقافياً وفكرياً للعمل. وبامتزاجهما، يتكاملان لتكوين تجربة بصرية تسمح للمشاهد بالتفاعل مع اللوحة على مستويات متعددة. الألوان تمنح الكلمات حياة وشعورًا بالانتشاء، بينما تُضفي الكلمات عمقًا معنويًا على الألوان، فتتشكل بذلك لغة فنية تمزج بين الأحاسيس والمشاعر، والتأملات الفكرية.



§ الكلمة الأخيرة في خاتمة اللقاء؟


§ إن الفن بالنسبة لي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو لغة روحية تجمع بين ثقافات الشعوب، وبين الحقيقة والخيال، لتخلق فضاءً جديداً يدعونا جميعاً للتأمل في عالمٍ، يتجاوز المظاهر السطحية،  ليلامس جوهر الحياة.


الصور بعدسة المصور شربل ديسي






















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق