“الكتابة هي إقتسام العالم وإعادة ابتكاره” عن الكاتب السعودي:أحمد أبو دهمان
..يقف الروائي التونسي القدير”محسن بن هنية”رائدا ومنارة في مسار الإبداع الروائي العربي عامة،والتونسي خاصة،كتابة روائية متميزة،وموسوعة ثقافية كشف بها عن هوس شديد بالحفر والتنقيب عن كل ما يمكن أن يؤلم-الإنسان-في ظل مرحلة تاريخية تتسم بالإنكسار والترجرج.
آخر تجل لهذا الهوس،روايته”المستنقع/أو التحليق بجناح واحد”(1) التي تعتبر (وهذا الرأي يخصّني) علامة متميزة في تاريخ الرواية العربية،ببنيتها السردية وصيغ إشتغال المتخيل والذاكرة واللغة.نص روائي راهن محسن بن هنية من خلال إستضافته لنصوص أخرى على تحقيق الصنعة الروائية التي تلعب فيها مقصدية الكاتب دورا ديناميا في إبراز مظاهر التناص(2) الشكلي والمضموني،وهو الشيء الذي يبرر توزع النص بين كتابات أدبية تنبجس من نسيج الواقع المعيش،مما يعقد معه وضع النص في خانة الجنس الأدبي المحدد ،ويتضح ذلك من خلال إعتماده مؤاشرات دالة على إمكان انتسابه إلى جنس السيرة الذاتية،والجنس الأدبي الروائي في نفس الوقت.وعليه،تتضافر سلطة كل من المؤلف والسارد في هذا النص لتدعيم هذا التوجه،وتذويب الحدود بين الخطابات والملفوظات.ومن ثم،تعتبر صيغة الإسناد القولية التي يتلبس بها الخطاب الروائي،من خلال صيغتي(قال-قلت)عنصرا مساهما في تعتيق الشكل الروائي.
فإذا كانت كذلك،فإنها من جهة أخرى،تسمح بإمكان إستقطاب لغات وأصوات متعددة،وتمريرها عبر ذات المؤلف،إنّه التشخيص الخالص للنزوع السيري،نستطيع تبنيه من خلال حضور مادة السيرة الذاتية التي تمكن المؤلف بوعيه الإستيتقي المؤسلب تذويبها في سياق الحكايات الفرعية،إما من خلال حضور الروايات(أو النصوص)السابقة أو الشخصيات الرئيسة فيها بالروايات نفسها،أو بقراءة-الإيحاءات-الهاجعة بين السطور والتي تكثر في هذه الرواية،كمظهر من مظاهر الإستبطان والإستجلاء للحظات حياتية،يمتزج فيها الحقيقي بالمتخيل،إعتمادا على الذاكرة كمنطلق أساسي لتشخيص المحكي وتقلباته على امتداد النص،في أفق المكون الروائي le romanesque كدينامية لإشتغال قطبي القصة والخطاب.
التحليق في فضاء المعنى:تشخص مقاصد النص وفقا للمقاربة السوسيولوجية على أنّها ذلك الجنين الذي يتولّد عن مخاض التفاعلات الميكانيكيّة بين أنسجة مؤسّساتية.لذلك تستحيل عمليّة تسييج العلة المكتفية بذاتها والمحددة لغيرها.كما ترجع المقاربة العياديّة الفرويدية تلك المقاصد إلى مؤسسة اللاشعور،من جهة أنّها الزاوية التي يستريح فيها المعنى منتظرا غفوة”حارس الليل” ناشدا الإنفلات خاصة وأنّ عطر الحقيقة أكثر إغراء من أي عطر آخر،فلا يغريه إلا شهريار الحرية.
لكن مع مدرسة:فرنكفورت”ستنجز المزاوجة بين المقاربتين إيمانا منها بضرورة المنهج الكلي الشمولي،أي المنهج الذي ياخذ بعين الإعتبار أي دافع وإن كان عرضيا في سياق استكناه النظام الدلالي لأي نص.ومع ذلك لابد أن نسأل هل لنا أن نشد الرحال إلى فضاء محسن بن هنية الإبداعي كي ننعم بمراسمه؟هل لنا أن نفكر في فكره؟وهل نمتلك حق التفكير ضد فكره؟هل نحافظ على إستقلالية فكرنا مع فكره؟..
إنّها المساءلة اللامتناهية التي أقضّت مضجعي أثناء محاولتي “التحليق” في الفضاء الإبداعي لمحسن بن هنية،(بأجنحة عدّة ،لا بجناح واحد..)لاسيما وأنّه أوقعنا-سهوا عنّا-في فخاخ المعنى حيث لا سبيل للخلاص دون عطوب لا شفاء منها..استراتيجيا السرد:الحكاية والتشظي: .كنت أحيانا أراك جبلا بعيد المنال،يعز تسلقه أو سبر فجاج أدغاله وشق أحراشه،وأحيانا أخرى كنت أتخيلك بحرا عميقا تعجز شباكي على صيد حيتانه أو الغوص حتى قعره ولملمة أصدافه..(ص5)
بعد مسيرة طويلة،لم تعد الرّواية بيانا تسجيليا ولا حتّى نقدا للمجتمع أو لأرباب السياسة،بل انخرطت في مسارات حداثية أخرى ومعاصرة.وأمسى من الضروري التفريق بين أمرين لطالما تشابكا هما:الرّواية بإعتبارها تاريخ أحداث ممكنة الوقوع،من جهة،والتاريخ بإعتباره رواية أحداث وقعت.عير أنّ هذا التفريق مازال لا يحسم الموقف المتصل بإشكالية العلاقة بين الكتابة الرّوائية والواقع الذي تعاصره،فكأنّها تلغيه وهي معنيّة به في الآن نفسه،تستقصيه وتتمرد عليه،تتكئ على جسده لتستكشف رؤياها.ولعلّ”المستنقع” صورة للتشظّي الذي يصعب معه تمثّل واقع متماسك الأديم يحاكي ما تعرفه خبرتنا بالحياة ويكمن هذا المعنى في ما أعطاه الكاتب للتجربة الشخصية من امتدادات في الداخل،متجاوزا بذلك المرئي إلى مناجاة المرئي في لغة النفس والذّهن،وإلى إصغاء مرهف إلى رنين تلك الذات وإشعاعاتها الغامضة والضاربة في كلّ اتجاه.”يكاد هذا المعنى أن يكون صياغة فنية لما ارتآه الناقد والمبدع جبرا ابراهيم جبرا في بعض نصوصه التي حاور فيها ماجد السامرائي معلنا أنّ” تجارب الشخصية لذيذة وعاتية ملتاعة بشاعرية مذهلة…الطفل يلعب،يجد في لعبه مرآته التي يريد”(3).
وبذا،تحوّلت استراتيجيا السّرد إلى أفق سردي ينبسط مداه على كل الأنواع:محكوم ببناء شذري مرسل كأرخبيل،الأمر الذي جعل الرواية تُبنى بالأساس على عدد من الثنائيات والمقابلات تمثّل التصارع،فهناك الحب والكراهية،والقبول والرفض،والحلم والواقع والجذب إلى أسفل والتوق إلى المثل العليا والحرية والتماثل والإختلاف.وهذه الماهية الأساسية في جوانب الجذب في الرواية تدفع إلى بنية خاصّة للرواية لعلّها بنية دائريّة أو حلزونية.فلا نكاد نعيش الأحداث وتقدّمها وتطوّرها حتى نرجع إلى نقطة البداية أو هكذا يُخيّل إلينا.
فلا حلّ في الأفق،ولا حلّ في الواقع،بل نحن نكتشف،أو نبدأ بالإكتشاف أثناء ملامسة خبايا النص وهو في الحقيقة رواية داخل الرواية تأخذ شكل رسالة تصوغها”هناء”بحبر الرّوح،وتعبّر من خلالها عما يعتمل في داخلها من مشاهد التمزّق والتشظي،وما يمور في وجدانها من حبّ كاسح “لرئيسها المباشر”سي حسان..مدير المجلة..”..المستنقع:رواية هموم المجموعة:كانت غاية الكاتب من رواية-المستنقع-هي ملامسة الراهن بكل تداعياته المتشعبة،أو بالأحرى تحليل عديد الأطروحات السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية من منظور نقدي محايد ونزيه..
وقد نحا-المحسن بن هنية-“بمكره الأدبي المعهود “المنحى القائم على حسن استشراف المسالك المحايثة للعملية الإبداعيّة،حتّى يضمن للأثر المنشأ حسن التلقي وجودة التأتّي..وهذه السياسة الأدبيّة تجعل القارئ عاديا أو غير عادي يسلس القياد ويذعن للنصّ وشروطه القرائية.ولكنّ أمر النصّ آخر..إنّه نصّ الكشف والإنكشاف في ذات الآن.فهو يخترق سجوف الصّمت وبعرّي المستور ويلج بجسارة المسكوت عنه،فتشيع نبرة تجريبية واقعيّة مميّزة في المتن السردي للرواية،تصف الواقع وتشخّص الرّاهن بأسلوب جسور لم يألفه الخطاب السائد، حيث تنبجس من- ضلوع-رئيس التحرير-كلمات رمادية موغلة في الألم ،وكأنّ الوجودية السارترية أو الكاموية قد بُعثت من مرقدها في شكل محليّ ضيّق ولكنه ذو أبعاد إنسانية شاملة:هناك رهط كالطاحونة التي تطحن رؤوس البشر حتى أبناء عمومتهم أو تطحن حبّات القمح..الأمر عندهم سواء،المهم أرصدتهم في البنوك،النقود مغمّسة في الدّم،في الخل،في البترول،في الحرام،بالنشل،بالسرقة مقابل العرض،مقابل الشرف..القيم،المبادئ،الوطن،الشهامة..الذل..التمسّح..القوادة..المدح الرخيص..في الأخير هي نقود تشتري بها الذمم والضمائر.. ص:128
ولكن..
التستر خلف حجاب الكلمات لم يعد ينفع ،و الخطاب السياسي المتوهّج لم يعد يلهب حماس النّاس –في مثل ليل عربي كهذا-.فماذا يفعل الإنسان-العربي- الباحث عن وتد مستقرّ في زمن لم نعد نعرف فيه الطريق إلى الحكمة،وقد ارتجّت من تحته كلّ نقاط الإرتكاز.
وبسؤال مغاير أقول:
كيف يمكنه أن يتجاوز الألم والتشظي في عالم سريع الإنزياح والتغيّر..؟..
إنّ حضور الأسئلة الحارقة ،الأحلام المشتهاة،الإستيهامات والواقع بكل تشعباته يبرز قدرة الكاتب على الجمع بين كل هذا ضمن تشكيل لا يلاحظ فيه أي نوع من أنواع النشاز أو النتوء الفني،بل إنّ كل هذا يوضح،بقوّة،كيف نجح الكاتب في التوفيق الجيد بين الإتتقاء والتركيب في سبيل تقديم نص ذي حس إبداعي يشدّ القارئ من غير سقوط في حذلقات أوتنطعات فاقدة الماء والرواء..
وهذا ماجعل الرواية تتميّز بلحظات مكثفة وذات عمق تصويري آت من مناجاة أو حوار تتبدّى فيهما حالة الشخوص في بحث دائم عن الحرية التي هي أعز ما يطلب في فضاء وفي زمن كل ما فيهما لا يحيل إلاّ على الألم والحسرة،كما يبين ذلك التعبير التالي: وتيرة الأيّام أصبحت باهتة تتوالى في رتابة مضجرة كحشرجة المريض الذي أزمن مرضه ودبّ اليأس في برئه،…وتحت وطأة اشتداد الجفاف وذهاب الربيع دون زهور أو فراشات ودخول الصيف بوجه كالح ينفث من خياشيمه الهجير..(ص192)
على أنّ أهم ما نجحت فيه الرواية هو قدرتها،في الآن نفسه،على ملامسة الجرح الجماعي والألم العام حتى وهي تقوم على تفريد الأوعاء والحالات.فالرواية تملك عمقها وتميزها من كون الفردي لا يغيب حجم الكارثة الجماعية،وبذلك فهي لا تغرق في بكائية ذاتية مقطوعة الأواصر بالهم العام.فرغم تقديمها حالات-شخوص،فهي تثير،في ثنايا ذلك،ودون السقوط في مستنقع الأطروحة الفجة،وضع أزمة جماعية ليست الحالات الفردية،مع أهميتها سوى التعبير الأفصح والفجائعي عنها.
ومن ثم،نجد،في الرواية،ذلك البحث أيضا عن البطولة في زمن العيش في مجتمعات صاخبة وزاخرة بالحركة والعلاقات التي أصبحت تقوم-في غالبها-على الزيف والقناع.وكل هذا يبيّن أنّ الرواية قادرة على تقديم الصورة ضمن بعدها الإشكالي حيث لا مجال للحكم الواحد-الوحيد.فالكل قابل للمساءلة وإعادة النظر حتى ولو أوهم بالوضوح والسكينة.إذ لا مجال هنا للوثوقيّة والإنغلاق من منطلق أنّ”النصّ الأدبي ملتبس ومتعدّد المستويات ومتعدّد الدلالات وإرجاعه إلى دلالة واضحة وشفافة يقود إلى إلغائه كنصّ”(4).
النصّ الجمع:استدعت الرواية نصوصا تراثية وأشكالا فنية متنوعة وتمكنت من صهرها بطريقة محكمة جعلتها تكوّن وحدة لانشاز فيها من غير أن تفقد هذه الأشكال تميزها فكأنّها”تتجاور وتتلامس وكأنّ بعضها يذوب في بعض..”(5)
فإذا بالنصّ القرآني يتلاحم مع السرد:فالمقرئ يقرأ القرآن،والآيات تنساب انسيابا”إذا الشمس كورت.وإذا النجوم انكدرت.وإذا الجبال سيرت…”والنص التاريخي ينصهر في الوصف فإذا بالمسجد الأقص ينتصب شامخا يوحي للقارئ بالآفّاقين أو جنود الإحتلال الإسرائيلي الذين يطوّقون هذا المكان المقدّس،ولهولاء المحتلين أخبار وحْده النص التاريخي كفيل بضبطها فيقع استحضاره.
وتنفتح الرواية على فن العمارة فتشاهد مساجد ومآذن وأزقة عتيقة،وتوظف فنون المسرح فيما يُعرف بخيال الظل،وتستدعي الفنون الشعبية فإذا بك في جو” الحضرة”والأعراس والأغاني الشعبية.
إنّ تمازج هذه النصوص والأشكال الفنية في النصّ الروائي الواحد يعطي التجارب الروائية الجديدة تميّزها وطرافتها ويبعد عنها شبح الرتابة ويخرجها من سلطة النص الواحد إلى رحابة النص الجمع مكمن النصّوص المتنوعة حدّ التناقض المتآلفة فيه حدّ الإنصهار.ولمَ لا تكون نموذجا للتعايش والتكامل في إطار التنوع والإختلاف في عالم قوامه الصراع والتنافر.على سبيل الخاتمة:تبدو لنا رواية”المستنقع” غير مكتفية بالإنفتاح على روائيتّها،تحاول الإغتناء بذاتها.ورغم أنّ الروائي قد طغى على الميتاروائي فإنّ هذه الرواية يمكن أن تدرج ضمن اتجاه من الروايات الحديثة يؤمن بإزدواجية الكتابة بإعتبارها موضوعا وتأمّلا في الموضوع،وهو اتجاه ينطلق من ادراك حاد بصعوبة الكتابة ومسؤوليتها،فثمة أسئلة عديدة تتعلّق بالإبداع وبماهية الكتابة ووظائفها ما زالت مطروحة في عصر تتهاوى فيه الأنساق وتطرح كل الثوابت..
في الختام قد لا أبالغ إذا قلت أنّ الرواية قد أبانت عن قدرة متميزة لدى كاتبها تكشف عن حذقه الكبير في بناء العوالم السردية رؤية وكتابة والإمساك بمختلف منعرجات الفن الروائي وتنوعاته مع صبر طويل في التعامل مع هذا الفن بما يستلزم من دراية وخبرة.ومن ثمّ،نستطيع أن نلمح أنّ القراءة المستعادة لهذا-المنجز الإبداعي-لا يمكن إلاّ أن تحمل معها إضافات متجددة تكشف عن زخم النص وقدرته على إسثثارة الإعجاب المتلذّذ وإثارة الأسئلة المؤرقة والعذبة في ذات الآن..
إنّ حرارة الكتابة وتقلبات الحكايات بين تفصيلات الواقع الدقيقة وشطحات الخيال والإستيهام التي تتلبس صورة هذا الواقع تلبسا ممعنا،تنتقل عدواه إلى القارئ دون مطبات فنية أو تشويش تقنوي مفروض.وبذلك،تكشف الرواية عن غنى الإختيار السردي وعمق المسار الكتابي لدى بن هنية،لا في منجزه النصّي فحسب،بل كذلك،في محتمله الإبداعي الواعد،الشيء الذي يوضح أنّ الأمر لا يتعلّق بنزوة عابرة ولا بعشق للتقاليع،بل بإمتلاك الصوت تفرّدا وصدى..
محمد المحسن
الإحالات:
1-المستنقع أو التحليق بجناح واحد للمحسن بن هنية-خطوات للنشر والتوزيع-الأكاديمية الثقافية العربية الآسيوية-الطبعة الأولى/20062-
2-ظهر هذا المصطلح لأوّل مرّة على يد جوليا كريستيفا في عدّة أبحاث لجماعة Tel Quel وهو يعني حضور فعلي لنص ما في نص آخر،أو عملية تحويل وأنتقال عدة نصوص يقوم بها نص مركزي يحتفظ بزيادة المعنى،أوتكرار لوحدة في خطاب آخر(Antoie Compagnon).-
3-عن سامي الطلابي-مجلة الحياة الثقافية-العدد108/أكتوبر99/ص:1334-
4-فيصل درّاج:الواقع والمثال.دار الفكر الجديد،بيروت ط1/1989،ص:1255-
5-محي الدين حمدي،تقديم رواية على نار هادئة،ص:8