نقد قصيدتي ( مايا ) بقلم الناقد الكبير جمال قيسي Jamal Kyse
—————————————————
بغداد ومايا، حلم جميل لن يغادر.
___________________
قراءة في قصيدة مايا للشاعر محفوظ فرج
ملاحظة : في المقطع الأول شرعت بتأسيس أكاديمي من أجل التمهيد لقراءة النص ومن يشعر بالملل عليه الانتقال للمقطع الثاني .
المقطع الاول :
لا اعرف...لم وضعني الشاعر الرائع محفوظ فرج في حيرة من أمري...منذ أن قرأت قصيدته ( مايا ) ولحد لحظة شروعي بكتابة هذه الأسطر ، وأنا من اتخذ القرار بالعزوف عن الكتابة النقدية ، ولا أعرف لماذا حسبت أن هذه القصيدة موجهة لي كرسالة ، ربما أنا كنت واهماً...وأعلل النفس بالأماني ،،لكن لي عذري، فهو يتكلم في خطابه عن معشوقتي ( بغداد )،وفي جانب آخر يتماهى مع الفنان الكبير حافظ الدروبي،وهو الذي أعشق أعماله،هكذا أعود وأكتب، علىالرغم من أن قلمي فقد بعض المرونة، ولذلك سأبث رؤيتي في ثلاث اتجاهات ، أولها في طبيعة اشتغال القصيدة ومحمولاتها وفي اتجاه آخر منجز الفنان حافظ الدروبي وأهميته ، وأخر الامر الاتجاه نحو الاطار والمحتوى لكل ذلك. وأقصد هنا بغداد ، وهي الحلم المشاكس الذي راودنا، ووضعنا في حيرة البحث عن المعنى، وارتضينا مرغمين المكوث فيه بموقع الاغتراب مع إنها (بغداد ) إطارنا المرجعي ،
بمطلق الأحوال عندما نتناول نص حداثي لابد من أن ياخد هذا الإجراء الاشتغال على الصعيدين السياقي والنسقي ، فالسياق ( contexts e ) هو التموضع العام للنص وتعالقه في الفضاء الثقافي الذي ينتمي اليه ، اي بمعنى الفائض الدلالي العام ،لذلك لن يعنينا الامر كثيرًا في قضية السياق، اذ انه من المسلمات بعد تخطي المجال الاسلوبي ( stylistique ) اي الشكل المرسل الحداثي ، وهنا نريد بقصيدة التفعيلة ، تتكون لدينا منطقة توافق مشتركة معترف بها بين الشاعر والمتلقي ،اذًا سيكون تركيزنا على قضية النسق ( cotexte ) ولكي اوضح ذلك لابد من التعريف بالمصطلح وهو أمر ضروري لكي أستطيع بعدها التوغل الى عمق النص والى خارجه أي ما يحمله من مضامين ودلالات وكذلك من رسائل يبثها الشاعر بعد فك تشفيراتها ،فالنسق الداخلي ( system e internal ) وهو يعني التنظيم الذاتي والذي ينطوي على اتجاهات وعلاقات الوحدات الشكلية والمضمونية فيما بينها وهنا نعود الى النص لنتبين صحة كلامنا ،النص متكون من وحدات منفصلة تترابط فيما بينها مع تقدم النص المضموني ، الوحدة الاولى :
( مجنونٌ في عينيها الواسعتيْنِ
أتأمَّلُ ما بينَ الحاجبِِ والأهدابِ
أشرعةَ الصيادينَ بدجلة
تسرحُ في ميلِ الكحلِ
وترسو عندَ الوردِ الجوريِّ العابقِ
مفروكاً في الخدين
يلتمُّ النورسُ ينقرُ في مفترقِ
النهرين )
( مايا مايا
لحنٌ غَنّاهُ عراقيٌّ
في بغدادَ
يقولُ :أفديكِ حبيبةَ قلبي
أنْ تمْتَدَّ يدُ الغاشمِ نحوكِ
أفديكِ بروحي
حزنُ يسكنُها
يصطفُّ على أقواسِ الهَدْبِ
المتوالي بسوادِ الكحلِ
حزنٌ تلمَحُهُ في سحنتها الخمرية
في رقَّةِ نجواها
تعيدُ إليكَ الحلمَ المرهونَ
على أرصفةِ البابِ الشرقيِّ
ومجرَّد أن تتأملَ في قامتها )
فيما يشكل الباقي الوحدة الثالثة
وفي حديثنا عن النسق الخارجي (systems external ) وهو نسق كلي يتألف من الأنشطة والمشاعر والتفاعلات الثقافية والفكرية وهو بمثابة بنية الوسط الذي نشأ فيه ويتأثر به خارجيًا. وفي هذا لنا كلام ووقفة هي كالآتي :
هذا الوسط يساعدنا على ظهور عتبات هامة يمكن من خلالها الولوج إلى عالم النص ،اي بمعنى حيثيات الكاتب والقضايا المطروحة، أو مجموعة الأفكار المتناولة؛ أي اننا سنقوم بمقاربة واعية للشكل الخارجي للنص الشعري مع أن العملية تنطوي على صعوبات أهمها اكتشاف سبل الولوج الى النص لأن الشكل هو مدخل وحيد الى عالم النص ، وكذلك سنمسك من خلال الشكل، النظام البروكسيمي؛ أي بمعنى الأدلة الغير لغوية التي ترتبط بعضها ببعض لتختلق نمطًا معيناً من العادات التواصلية ؛ أي الشفرات والمساحات والمظاهر او الأدلة غير اللغوية في بعدها اللاشعوري والبروكسيما هي استعمال الفضاء لأهداف تبليغية؛ أي معرفة المساحة الجغرافية لتماهي محمولات النص ومنها تحديد نوع العواطف ، والتأثير والدرجات الاجتماعية وأنماط السلوك المختلفة والفضاء الاجتماعي المحيط ومنها إدراك الرائحة، وحتى لايكون كلامنا معسرًا سنطبق ما ذكرناه على النص :
المقطع الثاني :
التاريخ هو السبعينيات من القرن العشرين والفصل هو الربيع ، المكان مدينة بغداد والمسافة التي يتحرك فيها الشاعر بعض كيلومترات ولجمال وحميمية المنطقة تغدو هذه الكيلومترات أمتاراً وربما تتلاشى، فإذ أحببت المكان تلاشت لديك المقاييس ، فالروح هي التي تتعشق وتفيض حبًّا بلا حدود، هكذا هو المطلق، إذاً، سأتحدث عن هذا المكان لأَنِّي عشت فيه، وفي نفس الفترة التي تحدث عنها الشاعر في السبعينات . المنطقة شمال بغداد القديمة وهي متداخلة ومتنوعة تمتد من منطقة باب المعظم حيث كلية الآداب وكلية الصيدلة وكلية الطب وكلية الهندسة وعندما تسير صعودًا من جهة كلية الطب باتجاه ساحة عنتر وبعد أن تتخطى محلة الكرنتينة التي تضم مقبرة الأتراك ومقبرة باب المعظم والطب العدلي متداخلة مع بيوت بمساحات فارهة يعود بناؤها إلى بدايات القرن العشرين ، تدخل إلى محلة محاذية لها بشكل أفقي هي محلة العيواضية التي ذكرها الشاعر في قصيدته، وهي محلة شعبية مع وجود بعض الدور الفارهة وأهمها دار الدكتور كمال السامرائي الجراح والمفكر الكبير ثم يأتي الجسر الحديدي جسر الصرافية ليكون فاصلاً بينها وبين المحلة الأخرى، ألا وهي الصرافية يسارًا عند معبر الجسر كان هناك نادي ثقافي للطلبة اللبنانين وعندما تتقدم يأتيك دار الدبلوماسي والمفكر الكبير أمين المميز ومن ثم تأتيك ساحة الزهاوي نسبة إلى الشاعر جميل صدقي الزهاوي لان داره في نفس المنطقة وكذلك ضمت أكاديمية الفنون الجميلة عند تأسيسها يقابلها معمل سكائر غازي الذي أمم في عام ١٩٦٤ و عند ركن الساحة من جهة اليمين يشخص مدخل معهد الفنون الجميلة حيث تظلله روح الفنان جواد سليم بالمشاركة مع أشجار الكاليبتوز السامقة عندها نكون في محلة الكسرة التي تضم ملعب الكشافة والبلاط الملكي وكتيبة خيالة سعد والدار التي قطنها بدر شاكر السياب ومحلة الكسرة منطقة شعبية تعج بالمقاهي والمطاعم التي لاتغلق أبوابها على مدار اليوم، ومن ثم تأتي ساحة المغرب حيث يمينها شارع يحمل نفس الاسم ينتهي إلى محلة الوزيرية والشارع هو حد فاصل بين الكسرة ومحلة نجيب باشا التي ضمت من جهة الغرب ثانوية الحريري للبنات وحلاقة حسان اللبناني والذين نجتهد بالذهاب مبكرًا عنده لنحظى بقصة شعر بعد ساعات انتظار طويلة ومطعم لينا اللبنانية وصالون الحلاقة الشهير توكولون ، حيث ساحة عنتر والنادي الأولمبي وكلية العلوم اما الجهة الشرقية من محلة نجيب باشا كانت هناك كلية الادارة والاقتصاد والمجمع العلمي العراقي ودار العلامه أحمد سوسة والخطاط هاشم البغدادي يقابل ذلك من جهة الوزيرية النادي الفلسطيني ، كل هذا هناك شوارع عرضية تربط هذه المحلات ، وبيوت شارع الزهاوي ونجيب باشا والكرنتينة والصرافية ، وأغلبها بمساحات واسعة تتوسطها حدائق غناء. وأنت تسير فيها ، تأسرك الأغصان لتشابكها، والأوراق الوارفة وتأسر روحك وانسانك الفطري النزاع لحب الطبيعة ، وتنوع شذى عطر الزهور يتركك أشبه بمن يأخذ جرعة مخدر ،أنت منتشيًا وجذلاً ،ياللبهاء عندما تتماثل أمامك صور الفردوس ، لابأس ان ذهبت بعدها للجحيم،،فأنت اخذتِ حصة مفرطة من نعيم الفردوس ، وكان هناك العديد من الأقسام الداخلية في تلك المنطقة للطلبة ممن هم من خارج بغداد، ومنها للطلبة العرب من كلا الجنسين، ولابد أن أذكر ملمحاً من الجو الثقافي العام الذي كان يسود تلك الأيام ، طبعًا كل هذا وشى به النص ، وعنوان القصيدة يحمل اسم ( مايا ) ، وبعد أن أشكل علي معنى الاسم اتصلت بالشاعر وأعلمني بانه اسم فتاة لبنانية ، في السبعينات كانت روح المقاومة المتمثّلة بالكفاح المسلح الفلسطيني والعمليات الفدائية وأبطالها أيقونات يتعشقها الشباب وكذلك حركة الهبييز العالمية ، وكان الشباب اللبناني المثل الذي يقتدى به سواء بالثقافة، أو الانفتاح أو الاناقة . مايا نموذج لهذا الشباب لذلك قدرنا أن النص يتحدث عن فترة السبعينات إضافة إلى مكان معهد الفنون الجميلة الذي انتقل في الثمانينات من منطقة الكسرة الى منطقة المنصور ، ومايا ذات الخدود الخمرية المعطرة بمفروك الجوري والقامة التي تنتزع الروح ، هي ليست ذكرى عابرة،في ذهن الشاعر وإنما هي الأميرة التي قطنت في حجرة داخل وعيه ولن تغادر ، وكذلك قدرنا الوقت ربيع بسبب الإشارة الى رائحة القداح والشبوي ( ملكة الليل ) فالقداح وهو ورد الحمضيات الذي يزهر في آذار ونيسان والحمضيات والشبوي لاتكاد تخلو منهما حدائق بغداد آنذاك ، الشبوي الذي يبث عطره مساءً في هذه الفترة مما يعطينا صورة عن طبيعة التجوال الليلي في هذا الحيّز الفردوسي للشاعر ، وفي منحى آخر في النص يتناول الشاعر بشحنة عاطفية مفرطة لواعج الفنان الكبير حافظ الدروبي ، بمحاكاة مؤلمة عندما تبكيه فرش الرسم والأرصفة ،بل تبكيك كل بغداد يا سيدي، هذا الانطباعي الذي دون بالمثلثات والدوائر اللونية كل بهرجة بغداد،منذ ان التقطت عيناه النقيتان الصغيرتان وهو طفل ألوان التطريز التي تصنعها امه ،بنكهتها البغدادية ،بقى وفيًا لكل تاريخ بغداد ،لم تسرقه باريس وروما ولندن،آه ياسيدي يالبغداد ، ويالفقدها، من أجرم بحق من؟ نحن ام هي ؟ ماذا كان بين أيدينا ؟ وماذا فقدنا؟
مايا
———
مجنونٌ في عينيها الواسعتيْنِ
أتأمَّلُ ما بينَ الحاجبِِ والأهدابِ
أشرعةَ الصيادينَ بدجلة
تسرحُ في ميلِ الكحلِ
وترسو عندَ الوردِ الجوريِّ العابقِ
مفروكاً في الخدين
يلتمُّ النورسُ ينقرُ في مفترقِ
النهرين
مايا مايا
لحنٌ غَنّاهُ عراقيٌّ
في بغدادَ
يقولُ :أفديكِ حبيبةَ قلبي
أنْ تمْتَدَّ يدُ الغاشمِ نحوكِ
أفديكِ بروحي
حزنُ يسكنُها
يصطفُّ على أقواسِ الهَدْبِ
المتوالي بسوادِ الكحلِ
حزنٌ تلمَحُهُ في سحنتها الخمرية
في رقَّةِ نجواها
تعيدُ إليكَ الحلمَ المرهونَ
على أرصفةِ البابِ الشرقيِّ
ومجرَّد أن تتأملَ في قامتها
تتجلّى لوحاتٍ أفنى حافظُ(١)
فيها عمْرَه
واشتاقَ رصيفُ المعهدِ
إلى وقعِ خطاهُ
تمَنّتْ أقلامُ الزيتِ بأنْ
تَتَباركَ قي لمسِ أناملِه
وتعودُ لشجرِ الكسرةِ
خُضرتُه
عندَ تشابكِ أغصانِه
قالتْ : منذُ زمانٍ لم نَنْعَمْ
بهدوءٍ منفردينِ
كَفُّكِ تَشْبكُ كفّي
في حاراتِ العيواضية
يَهمِي عَلينا غيثُ نديفٍ
من رائحةِ القداحِ
وعَبَقَِ الشبّويِ الليليِّ
وتحتَ ظلالِ أمانٍ ومَحَبَّة
أقولُ لها : ذلكَ عهدٌ كنّا فيه تلاميذَ
لعلماءٍ أفذاذ
نزرعُ فيها للأحباب عروقَ الجوزِ
بذاكَ الصوبِ
عُلِّمْنا فيهِ كيفَ نواجهُ
أيامَ البؤسِ
نُصوِّب أخطاءَ الماضي
—————————————————
١- حافظ الدروبي فنان تشكيلي عراقي. وأحد مؤسسين الفن التشكيلي في العراق. ولد في محلة المهدية ببغداد في عام ١٩١٤م لقب بـرسّام المدينة لتعلقه بمدينة بغداد. كان أول ظهور فني له في عام ١٩٣١م توفي ١٩٩١م