الجمعة، 6 أغسطس 2021

حديث الكلب بقلم الكاتب صالح سعيد / تونس الخضراء.

 حديث الكلب

كنت مع بعض الصّحب في رحلة الامتلاء، وكان بيننا فتى غريب الأطوار إذا تمدّد في الكلام شاق وأطرب رغم ما يبث من الأنين في ثنايا الحروف...وذات ليلة من ليالي الكدر قال أقصّ عليكم قصّة رواها أبي عن جدّي عن جدّه الأوّل. قلنا: هات وأمتعنا طيّب اللّه ثراك..فأطرق هنيهة ثمّ قال: حدّثني أبي قال: قال جدّي أنّ جدّه الأوّل قال: كنت وعشيرتي نسكن بعضَ الدّحال في أرض كثيرة الخيرات كأنّها الجنّة في جمال طبيعتها. وكانت خيامنا تتراءى لقوافل البدو كقطع النّجوم في اللّيل البهيم. وكان بعضها يحطُّ بين ظهرانينا بين الفينة والأخرى فيصيب منّا كرما يجدّد نشاط الرّحيل، على هذا عشنا زمنا طويلا لا يعكّر صفو حياتنا إلاّ الودّ والوئام... وذات ليلة مربكة السّواد حلّ في ربْعنا بعض الهوامّ على رأسهم رجل شرس الطّباع في قطعان كثيرة العدد والعدّة تحرسها كلاب ضارية دُرِّبت للغرض.. فباتوا ليلتهم تلك، ومع فجر الغد أرسل الزّعيم إلى جمعنا يطلبنا للحضور فسرنا إليه متسلّحين بمكارم الأخلاق وحسن القِرى ثمّ ألقينا تحيّة السّلام وجلسنا قبالته نسمع منه ونرى. فانتفخت أوداجه وذهب في الكلام كلّ مذهب سقط عنّي أكثره .. ثمّ أبى واستكبر وقال: إنّكم إلى الفناء... وأنتم أضعف ممّا يكون.. من الآن أمْرُكم إليّ فلا ترون إلاّ ما أرى ولا تردّدون إلاّ ما أقول... وأنا كما ترون كثيرُ العدّة والعدد. فإن عنّ لي أن أُبيدكم فعلت بأن أطلق كلابي تنهش منكم العظام". فأوجس جمعُنا خيفة ولكنّ الحكمة لم تغبْ عن حكيمنا "الضّاوي" فنطق بما لا ينافي الصّواب: حللت بين أهلك وإخوانك. أنت منّا ما دمت تقيم فينا. فأرعد وأزبد وقال: ما أريد أن أسمع هذا. بل أريدكم على ملكي وذمّتي.. ثمّ قال: وصلتكم رسالتي.. أمهلكم ثلاث ليال وبعدها يبدأ التّنفيذ ... رفعت الجلسة." فخرجنا من عنده وكلٌّ في حيرة من أمره وبقينا يومنا نتدبّر أمر المصيبة. فقال الضّاوي: أنا أتكفّل بالأمر، جهّزوا ما يلزم الرّجل وقومه من ضيافة ولا تنسوا نصيب الكلاب. فإذا حضرت الوليمة زفّوني الخبر. ثمّ خرج وعاد فوجد الوليمة جاهزة فأمر بإقامة حفل الاستسلام وقد أعدّ العدّة الكافية للخلاص، حتّى إذا ما توافد اللّئام على موائد الكرام انفتحت شهيّة الكلاب للأكل. فكان "الضّاوي" يرمي إليها باللّقمة تلو اللّقمة فتزدردها فإذا ما وقعت في الحلق غصّ الكلب وتخبّط ثمّ يسقط وقد فارقت روحه الحياة حتّى فنيت كلُّ كلابه وهو ينظر تائه البصر والعقل لا يصدّق ما يرى. وأمام هذا المشهد العجيب بدت الحيرة على وجوه الكلّ فقال الضّاوي: إنّي جعلت في كلّ لقمة عظما نابيا عصيّا على المضغ والبلع إذا ما وقع في الحلق مزّق منه اللّهاة وسدّ مجرى التّنفّس... والنّتيجة ما ترون... على أنّني أقول لضيفنا الكريم مرّة أخرى: مرحّبٌ بك بيننا... فالفظْ قيْأك بعيدا واجعل سمّك عسلا تداوي به مرضى الأنام، هذه الأرض لا تنبت الأشرار. وأمر الودّ قائم ولو كره الكارهون."
صالح سعيد / تونس الخضراء.
Peut être une image de ‎‎‎‎صالح سعيد‎‎, position debout‎ et plein air‎

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق