الدهشة الشعرية" في قصيدة ."سدرة الروح" للشاعرة التونسية جميلة عبسي
تصدير: ليس الشعر أن تقول كل شيء،بل أن تحلم النفس بكل شيء -سانت بوف-
القصيدة تطرح أسئلتها،وتنفتح عند تفاصيل الدهشة حيث النص يخترق الذاكرة،ويلملم الحلم والغياب في مشهد يتشكل كلوحة يتوغل فيها السحر والمعنى والاحتفال..هذه القصيدة (سدرة الرّوح) تفتح نوافذ الشاعرة التونسية الشابة (جميلة عبسي) على مساحات سرية تقفل رؤيا الشاعرة على قراءة الرمز والحلم بين تراكيب لغوية مكثفة يتشيأ فيها (النص) أحيانا كوحدات قلقة..يفتض عوالمه المشبعة بالحلم والاتساع..أو بين (تهويمات) غنائية،تسعى فيها الشاعرة إلى استبطان الداخل اللغوي المشبع بسرد انتقائي،تحاول أن تتنفذ منه الى حيز آخر،يحيل فيه النص الى علاقة وصفية / رؤيوية..تمزج بين اتساع الحلم ومحدودية اللغة.
في قصيدتها (سدرة الرّوح) تتمثل إلى هذه المحاولة القلقة القائمة على مساحة من التأمل والانفعال باللغة والمعنى..واغواءات الحلم،حيث تحتال بالانفعال في تتبع لغة تخرج من ثقوب ذاكرة غائمة متعبة،أثقلتها الخيبات والمواجع،كي تكتب فاتحة الرؤيا للحلم الذي يملك سر الكلمة والبراءة..
إن مسعى الشاعرة إلى اقتفاء تضاريس النص،هو محاولة إيقاف حركة زمنها الشعري عبر محاولة استقراء حلمها،في رؤيا تستبطن كشوفاتها،وتشكل تواصلا مضادا إزاء زمنها المجهض المغمور بالغرابة والتماس المعنى الشمولي عبر وعي اشكالي يمكنها ان تكشف جوهر هذا الزمن بكل ما يحمله من اضطراب وغياب..وشوق..وغربة واغتراب..انه زمن خام...قلق..غير مبرر احيانا تتوخى فيه الشاعرة فكرة الجوهري / الشعري المشرع على احتمالات التأويل والمبني على (الهمس والتلمس والحس) وهذا الزمن الذي تحاول قراءته الشاعرة القديرة جميلة عبسي يحيل حتما الى محاولة كشف استبطانات اللغة التي تعتبر الشعر ضرورة كما يقول جان كوكتو في استحضار الحلم والرؤيا والاحتفال..
إن المناخ الشعري الذي تبرعمت في ظلاله أشعار جميلة عبسي يتسم في مجمله بالتفاعل الخلاق مع الجانب الحداثوي وهذا ما أعطى قصائدها تحديثا شديد الألفة،من خلال لغتها التخييلية المشكلة تشكيلا عضويا ساعد على خلق معادل فني تلعب الذات دورا بارزا في أساسيات نموه وبالتالي تحوله الى وحدة تكوينية تجمع بين تشكيلاتها المتناهية الدقة كل ما هو متنافر ومتضاد حيث تؤدي هذه الأضداد وظيفتها في إنجاز الهيكلية الهندسية للصورة الشعرية المتوافقة مع إيقاع حركة الواقع والمتعارضة معه.عندما يحاول ذلك الواقع أن يفرض منطقا عقلانيا يتعارض والفضاء التخييلي للغة الشعر.إن هذا البناء اللغوي، سوى في خاماته الأولية او المنتقاة لا ينسحب على القصيدة الحديثة فحسب،بل يتعداه الى التجارب التي اتخذت من قصيدة النثر وعاء تصب فيه ما يترشح من عملية التغطية التي تتعرض لها ذات الشاعر/الشاعرة..
ومن هناك فإن شعرية قصائد الشاعرة التونسية جميلة عبسي وكما أشرت ،تمثل خطوة أخرى باتجاه قراءة النص الآخر الذي بدأ يشكل خطواته في مسار القصيدة العربية وهي تتململ اليوم بكل اختزاناتها وسحرها وقلقها للخروج الى برية الاتساع حيث الشكل يمسك لذة الحلم،وحيث الحلم يفور في مسارب المعنى..والشاعرة-جميلة- تقيم طقوسها على تفاصيل الاشياء..حالمة او كاشفة او قائمة وسط حرائقها وحرائق الآخرين، تفتّش عن أشياء اخرى بلون الجمر او لون العشق او لون الحرية..وهذه القصائد-التي اطلعت على بعضها-لا تخرج عن محاولات الشاعرة-جميلة عبسي-في التماس بنية نصها الحداثي المجبول على كشوفات الرؤيا الايقاع في تركيبة تزاوج بين شكل (تقطيع) وسردية حلمية تتكرر دائما
ان قصيدة -العشق-تظل عصية..والشاعرة تظل قاسية مأخوذة ومقموعة بالنص تلم جسدها واحزانها وتسافر غاوية وسط ايقاعات يتداعى فيها كل شيء..تخرج من ذاكرة تكتب النص كتاريخ...
انها ذاكرة الآخر الذي مازال يقيم وسط الأشياء حادا وطاغيا..يكتب للآتين في موكب الآتي الجليل...
ولعل هذه جدوى أخرى تضاف لقصائد جميلة عبسي التي تلتمس بصدق وجدية الخروج الى الجمال والحلم والاتساع والحرية..
على سبيل الخاتمة :
إن الشاعرة التونسية الفذة جميلة عبسي،وهي تسابق الزمن في ركض محموم خلف الكلمة الشعرية المشبعة بالسحر والجلال، انما نراها تحاول من خلال تشكيل شعري يصل في كثير من تكويناته الى درجة من الشفافية والعفوية،أن تحقق القدرة على التوفيق بين أداته «اللغة داخل الشعر» وبين ترويض تلك الأصوات الضاجة في داخله الذي تمارس استمرارية طقس الاحتراق. ومن هنا فهي تتموقع بين نزاعين يتطاحن فيهما الوعي واللاوعي، اليقظة والغياب،واختيارات لا حد لها،لعل من أشقها ان تختار المواصلة او النكوص،إلا ان «الدهشة الشعرية» تتغلب في الأخير على حوار المنطق العقلاني لتمسك بدفة القارب الشعري في محاولة للعبور نحو الضفاف المبتغاة..
وهذا ما سيمهد السبيل الى أرض «معطاء» تليق ببذار القصيد القادم...
ان صدق قولي فيك
فقد صدقت نبوءة قلبي ..
من عتمة المعنى
أصحح طريق فهمك
و أتوسل للأقدار ...
أن تصنع لكف اللقاء ..
موعدا ..
لعل السماء تقضيك
لبابي..
تفيض مواويل العين
من همس ناي جريح
يئن الرمش بقلب هدب ..
و يخفق الونس واجف
على جرح اشتعل منه الوجد
و قبلةُ آهة ثملة
تمايلت على زخرف الشوق
أمواج مرتحلة بالسبل..
و دموع من ذرات أمل
تسرج الفجر قبسا
فيأتي كبسمة ملتحفة الضياء
بآخر وجع العمر ..
كغداة البين ..
تستحم بأحرف
و تسرق خيال الوهم
و تلوذ بالفرار ..
تعشش بسدرة الروح
تعرج إلى السماء
تصلي صلاة الأنبياء..
السلام عليهم السلام
و عند جنة المأوى..
أنسج للريح طيبا ..
و ظلا أستكين اليه ..
أؤمن بمنتهى السدرة..
أنك السلام !
و أنني قد صدقت
نبوءة قلبي ..
و صدقت قولي فيك
حين تقبض مأساتي
على أعتاب ظلالك.