الأربعاء، 6 مارس 2024

لا تسألوني..فلا أعرف شيئا..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

لا تسألوني..فلا أعرف شيئا..!
كان إبني وسيما وغضا..وفي حله وترحاله كان كنورس يحلّق على صفحات البحار وتخشى جناجاه ملامسة سطح الأرض الموبوءة..
اغتاضت هذه الأرض ذات زمن كافر ودثرته بغلافها..سهوا عني..سهوا عن رفاقه دربه..ومضى قبيل انبلاج الصباح دون وداع..
الآن أقف على قبره واجما..وحزن صعب المراس يلتفّ بأضلاعي التي هدّها الوقت والقهر والإنتظار..وقد ثملت روحي..ثمل المدام..
لكن الفتيان الأنقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
مذ رحيله إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين،وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من شقوق الذكريات..
الآن بعد رحيله-القَدَري -أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن تبدو لي الحياة كأنّها مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الأسى والدموع..
أيها الفتى المسافر عبر الغيوم الماطرة..الزّمان الغض،المضاء بشموس البهاء والتجلي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الوجيعة،بغتة الصدمة ولسعة القَدَر..
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
هل كان-الحمام الجنوبي-يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى جهة بالجنوب.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-تلة رابضة على تخوم الجرح-تضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول "تطاوين"التي أحببت،معقل الرجال،حيث يرثيك أهلك و-أبناء حيّك-بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي: هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة عربية.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الجنوبية..
أما أنتم -ياسادتي القراء-:إذا رأيتم-الفتى الجنوبي-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-إبني-نائما في الصمت الأبدي،فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.
اسكبوا "دمعة"سخيّة على جبينه الوضّاء،"دمعة" في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..ولا تسألوني..فلا أعرف شيئا..
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق