السبت، 17 يونيو 2023

إشراقات القصيدة..ولمعانها في الأفق الشعري..لدى الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 إشراقات القصيدة..ولمعانها في الأفق الشعري..لدى الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود

إن قصيدة النثر خيارٌ جماليٌّ تقدم بناءً وفضاءً شعريا بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد عن الصورة الذهنية التي كوّنها القراء منذ قرون طويلة عن الشعر العربي الذي يعتمد على الوزن وتفعيلاته.وهي تساعد القارئ على أن يكون خلاقا في استخراج الدلالة النفسية والفكرية وفرادة الرؤية التي يمتلكها شاعر عن آخر دون أن يكون واقعا تحت تأثير الموسيقى والصور المجازية المفرطة.
إن قصيدة النثر هي موقع المواجهة على حد تعبير باربارة جونسون بين الداخل والخارج، حيث تقوم على حالة المفارقة والتقابل في التصور الذهني بين الشعر والنثر.
لكن هل يمكن قراءة هذه المفارقة وهذا التقابل والصراع بين النثر والشعر كنوع من الاستعارة تشير إلى التقابل والصراع الاجتماعي والإيديولوجي والفكري؟
هل التحول الكبير الذي حدث للشعراء في عقد التسعينيات والانفجار الكبير في كتابة قصيدة النثر يمكن قراءته اجتماعيا وسياسيا في سياق انهيار الصراع القطبي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة،وانفراد الأخيرة بحكم العالم،وانهيار القضايا الكبرى والكلية وانحياز الشعراء لما هو شخصي وذاتي،ما هو إنساني في ضعفه وتشظيه؟
وهل يؤيد هذه الفكرة انحياز شاعر قصيدة النثر لما يومي وواقعي عما هو خيالي مجازي مجنح،ويترجم هذا إلى انحيازه كذلك إلى لغة الحياة اليومية في عاديتها وكسرها لأفق توقع الصور البلاغية الاستعارية التي تصاحب عادة الشعر؟
وهل ارتباط قصيدة النثر بفكرة الكتابة والتدوين وتخليها عن سلطة الشفاهة التي ميّزت الشعر الموزون وشعر التفعيلة جزءا من فلسفتها التي انحازت لها، انحيازها للإنسان في ذاتيته وعاديته بعيدا عن سلطة الشفاهة والإلقاء والموسيقى التي تمنح الشاعر أدوارا فوقية،فوق إنسانية؟.
ما أريد أن أقول في سياق هذه الإضاءة..؟
أردت القول أن الشاعرة التونسية السامقة التي اسنشقت عبير الشعر عبر ضفاف بحر ولاية بنزرت  الحالمة دوما بولادة شعراء/شاعرات بحجمها-(فائزة بنمسعود )أذهلتني،بل أربكتني بقصيدتها المعنونة ب:"
هـــذا المٌــطـــر
وعليه أنوه،-إلى أن أهمية هذه القصيدة تبدو في أن تراتيل الحياة الهامسة الموحية فيه،تأتي في وقت يكاد يفلَس فيه ديوان (الإغتراب العربي المعاصر-بكاء الماضي الغابر،ورثاء هذا الزمن اللئيم ) أمام هجمة الشعر الموجه وأمام شعر الغموض و الطلاسم،الذي ينسب خطأ لموجة الحداثة المعاصرة وما هو منها في شيء.
وهنا أقول : قصيدة (هذا المطر) حافظت على أهم مقومات القصيدة العربية،بناء،ولغة،و إيقاعا وتخييلا..و هي قصيدة تلامس شغاف القلب بامتياز..
إذ أنها(في تقديري) تتنكر للتقليد والنمطية،و تحتفي بالفرادة و الخصوصية .وتؤكد على حقيقة أن السمو بالشعر،ليس في تلك الأوصاف المادية المباشرة الصرفة.وإنما هي في السمو به روحيا،و جعله لا يفقد جوهر معناه الحقيقي في ديوان الشعر العربي..أعني الصفاء،البهاء والتجلي..
وانتهينا إلى أن قصيدة الشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود تنفتح على عدة قراءات اجتماعية ووجدانية وفنية،وحققت لغتها جمالية خاصة بحكم ما تمتلك من كفايات إبداعية وقدرات مكنتها من تشكيل رؤياها الشعرية الخاصة التي تتوحد فيها جهودها،ويلتحم الذاتي بالموضوعي.
وبدا أن عملها الإبداعي (وهذا الرأي يخصني) ميزته كثير من الخصوصيات الفنية والمقومات الجمالية،وخاصة اللغة التي تمظهرت جماليتها من خلال تناغم الحقول الدلالية وتنوع الرموز الشعرية المفعمة بالطاقة الإيحائية والتعبيرية واعتماد الانزياح في أبعاده المختلفة.
وللقارئات الفضليات،والقرام الكرام حق الرد والتفاعل.

هـــذا المٌــطـــر

وهذا المطر يغسل الذكريات
من فوق رصيف الحياة
هذا المطر يداعب
جفون الأرض
ويعانق اديمها ويمتصّ غضبها والضجر
وقع زخاته ينبش جب أحزاني
ويهتك حياء حكاياتي
المتوارية وراء ستار الوجع
هذا المطر
أودعته ذات موسم هطول حلم
فرح بسيط فحمله ومضى
وتوارى واندثــر
وما زلت على قيد الانتظار
مشتة الشعور والفكر
والمواسم قحط وجفاف
هذا المطر
أمَّنته على ابتسامات فجري
فحولها دموعا ونشيج مزاريب
على وجنات البيوت الثكلى
هذا المطر
سألته السكينة والرضى
ففجّر ضجيج الغضب الرجيم
وأطلق سراح شياطين الغواية
توسوس في صدر الأماني
وترشي بالسكانر ملائكة الرب
لتغفل عن التسبيح باسم الحب
هذا المطر يفكّ غلالة النجمة
لتحسر عن نهدين متمردين ببحر مضرم
صنوان يصبان كؤوس الغرام
في كل فم بالعشق مستعر
ويصرخ الليل أنْ أمطري ثم أمطري
ومن هذا المطر
ينبثق الطيف يهزج الرهبة
وبميلاد جديد يئن الناي وينتحب الوتر
وتنبثق شهقة القمر
وحبات المطر
تضع اثقالها على الضياء المنتشر
فينتصب الحلم القديم
على ضفاف العمر..
ووراء ظلال الأيام تتبخر زخات المطر
وهذا المطر..

(فائزه بنمسعود )

وبالعودة الى البنية الجمالية للنص،والتي فرضت علي محاولة قراءته نقديا،نجد النص يمتاز بأسلوب شعري صميم لا يتقاطع في شعريته الا مع النصوص الشعرية العالية.وهو أيضا نص صيغ،بلغة فنية موغلة في الإبداع ومثقلة بالنفائس الروحية.وقد توسلت الشاعرة لغة انسيابية رقيقة تخدم غرض القصيدة كأنها (الشاعرة فائزة)تستحضر مقولة كيتس عن بناء الشعر "إذا لم يجيء الشعر طبيعيا كما تنمو الاوراق على الأشجار..فخير له ألا يجيء " .
وفي النهاية تجدر الإشارة الى اني التزمت في قراءتي هذه بنص القصيدة "هذا المطر " للشاعرة التونسية المتميزة شعريا وابداعيا فائزة بنمسعود،وحده التي استوقفتني كثيرا منذ قراءتي الأولى لها.

محمد المحسن

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق