الأحد، 18 يونيو 2023

عابر ذكريات ((٣)) ....عيدُ الأب بقلم د. سيرين يوسف

 عابر ذكريات ((٣)) ....عيدُ الأب

في الغرفةِ المجاورةِ ، لأولِ فرحةٍ في عمري ، كان يجلس ذلك الرجلُ الصلبُ الصلدْ ، والذي لاتعلم عنه إن كان مبسوطاً او مهموماً ، أياً تكن فراسَتُكَ ، فهو كعادته يجيد كتم مشاعره .
في الغرفة المجاورة ،سألني وهو يدرج سيكارتهُ الأولى : ماذا أسميت إبنكَ ؟؟
- أسميته سُليمان ياأبي ..سُليمان
* - لِما أسميته سُليمان !! وصمتَ ، تاركاً لي التفسير عن عدم تسمية ولدي ب (( كاظم )) ؛ كما كنت أُلقب قبل مجيئه.
- جاوبتهُ بصمتٍ وحرقةٍ وتعجبٍ لما لم يبديهِ من فرحٍ للإسم ؛ إنه الولدُ الثالثَ للعائلة ؛ أيُعقل ألا يكون من بينهم مولودٌ على إسمكْ .
ماكان يعزيني ضمن هذه الدوامة من التساؤلات والإستفسارات التي لاجواب لها ، هو أن سليمان الإبن قد ولِدَ ناصحاً أبيضاً أشقراً وبصحةٍ جيدةٍ من فضل الله على خلافِ ماتوقعتْ .
* لم يدُم العزاء طويلاً ، إنها الصرخةُ الأولى بعد منتصف الفرح من جدة سليمان لأمهِ ، سليمانَ قد ماتْ .
لم تحملني رُكبي على النهوض ، ولساني إنعقد ، وضاق نفسي حتى كدتُ أن أختنق .
أمي ..أمي ..أمي ..سليمان ماتْ .
فزَّت أمي من نومها كصبيةٍ لم يضنيها الضنى ، إلى الغرفة المجاورة . أخذت سليمان وفكت عنهُ ماكان يحيطُ بهٍ ولطمتهُ بلطفٍ على وجههِ ، إستيقظَ سليمان وعينيه بعينيّ جدتهِ لأبيه ، إبتسمت جدته وقالت لهُ كُدتَ أن تهلكَ أباكْ .
وقالت لأمهِ ، لاتخافي ستتعودين على هذا الأمر لاحقاً فاطمأني بنيتي
ثم إستدارت إلي وقالت لي لاتخف ، كان الطفل مخنوقاً ويريدُ تهوية .
لم أفهم حينها ماقالتْ ، ولكنْ هدَّأت من روعي .
عُدتُ للغرفة المجاورة ، حيث أبي جالساً لايبدو عليه أيَّ توترٍ أو إنزعاج . جُلَّ ماكان يقومُ بهِ هو إدراج السواكر ؛ والتصفن .
جلستُ وأنا أنظر لأبي بتعجبٍ ، حتى أنهُ لم يسألني كيف حال الصغير !! ولم يسأل أمي حتى !!
لم تغمض عيني أمي جيداً ، إلا والصرخة الثانية ، سليمان الإبن اختنق ، ألحقوه فقد إزرق الولد ، وأنا مع الصرخة الثانية كبُرَ عمري أضعافا مضاعفة ، وإنكسرَ ظهري تماماً ، لمْ تحتاج أمي لمناداةٍ ثانية باسمها ، كعادتها فكت عنهُ الحفاض وقلبتهُ للأسفل ، حتى شهق وتنفسْ .
السيكارة الرابعة لأبي وهو صافن كعادتهِ ، ولم يسأل ولم يبدي حراكاً .
كم كان هذا الأمر مؤلماً لي ؟!
- الساعة الثالثة فجراً للنطق بالحُكم ، تكرر الأمرُ للمرة الثالثة ، لتعاودَ أمي وجدة سليمان لأمهِ ، بوضع الصغير في طشطِ ماءٍ فاترٍ ، وقاموا بتحميمهِ وتدليك بطنه حتى تخلص من السبب الرئيسي للإختناق .
هنا قالت لي أمي وجدة سليمان لأمه ، إذهب أنت إلى النوم الآن ، قد زال الخطر عنه تماماً .
عُدتُ للغرفة المجاورة مستحلفا أمي ألا تترك سليمان الإبن وأمهِ حتى الصباح .
السيكارة العاشرة لأبي ، وقبل أن أضع رأسي على المخدة وأغفو ، تكلم أبي وسألني : هل قلِقتَ على ولدكِ يابني ؟؟ هل خفتَ عليه !! هل الضنى غالي ؟؟
نعم ياأبي قلقت عليه وكادَ أن يودي بي .
- لماذا يابني فهو مازال طفلاً لايتكلم ، ولايعرفك حتى ، ولا تعلق بك ، ولم يئِن الآوان لتتعلق بهِ ، وتابع حديثهُ ، قد مُتَّ ثلاثة مرات حتى الآن ولم يطلع الفجر .
وأنا أنظر إليه بقهرٍ وتعجبٍ ، أنى لكَ تلك القسوة ياأبي ، وأي أبٍ أنتْ .
ليأتيني بعدها الجواب الصاعق .
تركتكَ ابن ثلاثة آيام وأخوك الأكبر عمره سنةٌ وثلاثة أشهر ، وأمكَ دون معين ، تقوم بدور الآب والأم .
- هل لديكَ علمٌ كم مرةٍ كنتُ أموت باليوم قهراً عليكم وشوقاً لكم .
- هل لديكَ علمٌ بأنني لم آراكم إلا بعدَ ستة أشهرٍ ، وكدتُ أن أُقتَل بالحرب قبل أن آراكم .
وأنتَ صراخك قد ملئ الحارة وأنت تنادي على أمك كي ترى ولدك الذي لم يفتح عينيه بعد .
- كُنْ حنوناً ؛ ولكنْ كُن رجلاً يابني ، فمن وهبك هذا الطفل ، قادرا على شفائهِ .
* نعم ؛ إنهم جيل الجبابرة ، ظاهرهم قسوةٌ ، وباطنهم حنيةٌ ورحمةٌ .
كل عيد آبٍ ؛ وأنتَ أبي الذي أفخر بهِ .
د. سيرين يوسف

Toutes les réactions

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق