سؤال
لجوج يقض مضجعي وينخر شفيف الروح:
كيف تحوّلت تونس إلى دولة تصدّر وتتصدّر بأبنائها قائمة الدول الراعية للهجرة السريّة والارهاب والتهريب والتهرّب؟
ما الذي يحصل في وطني؟!
خرجوا بدافع من اليأس..بحثا عن الفردوس المفقود تَحدُوهُمْ أحلام العمل والثراء وتكوين أسرة مثل بقية عباد اللّه..خاطروا بأرواحهم وارتهنوا مستقبلهم برحلة على متن قوارب غالبا ما اتضح أنها غير مضمونة الوصول هربا من أوطان فقدوا فيها كل آمال العيش الكريم لتقصف مفاجآت الطقس وأهوال البحر أحلامهم وترمي بهم جثثا وأشلاء في قاع البحر..في وطن لم ينتظروه بالمرة.
تلك كانت نهاية آلاف الرجال والنساء الذين فرضت عليهم قسوة الحياة الفرار من أوطانهم لسبب أو لآخر لتكون النهاية المأساوية بين أسنان القروش أو بين طيات رمال البحر...إنها قصة المهاجرين غير الشرعيين الذين سطرت فواجعهم سجلا حافلا في مياه البحر الأبيض المتوسط..
على امتداد التاريخ البشري،ما فتئت الهجرة تشكل تعبيرا عن رغبة الفرد في التغلب على الظروف الصعبة،والهروب من الفقر،وبدء حياة جديدة قد توفر له الحق في العيش الكريم.إذ يلخص العالم الديموغرافي الفرنسي،ألفريد صوفي،إشكالية الهجرة بقوله: «إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر،وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات».
لا تؤثر الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ الصيف الماضي على المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فقط،ولكنها تتعدى ذلك حسب الخبراء لتمس نفسيتنا ودواخلنا..فالتونسي اليوم مريض بما مرضت به البلاد من احتقان وعنف تجاوز كل الحدود المتعارف عليها في مجتمعنا.
والمتتبع لما يكتب وما ينشر خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تشكل بلا منازع المرآة العاكسة لكل انفعالات التونسيين والتونسيات يلاحظ بسرعة علامات التشنج الواضحة في الخطابات وفي السلوكيات من كل الأطراف بدون استثناء..
بين واقع إجتماعي و إقتصادي صعب و سلطة تهب رياحها دون أن تسقي رحيق أحلام شباب الوطن وماء المتوسط الهادئ،آثر آلاف الشباب البحر و اختاروا الهجرة بحثا عن مرسى لأحلامهم التائهة،قبل أن يكتشفوا أن للكون حافة و للأرض منتهى يقود للهلاك أين إنقلبت مراكبهم و إنغمرت أمنياتهم بأمواج الموت التي حفظت مسارهم و إقتاتت مراكبهم لسنوات عديدة .
بعد أقل من يوم على فاجعة مركب قرقنة التي راح ضحيتها قرابة الستين (العدد كان زمنئذ كان مرشحا للإرتفاع)،رُفع الغموض على عديد التساؤلات التي كان أبرزها هويات الضحايا..تساؤلات طرحها الجميع إلا أمهات المهاجرين اللواتي إنشطرت قلوبهن بين أمل إنقاذ وهاجس فقدان و شبح إنتشال..عبارات لم يكنّ مخيرات في إنتقاء إحداها غير أن الواقع فرض عليهن الإنتظار بعين باكية و جسد مرتعش وقلب وجل
قبل أن يرفع بعض الستر-وقتئذ- حين أعلن مصدر طبي لمندوب -الصريح بتطاوين-أن أغلب الناجين ينحدرون من ولايات قابس و مدنين و المهدية و تطاوين و القيروان وسيدي بوزيد والقصرين ,ما يؤكد مجددا أن ولايات الوسط و الجنوب خاصة هي الخاسر الأكبر في فواجع غرق مراكب الموت في كل عملية هجرة غير نظامية لسنوات عديدة،فالحوادث المماثلة السابقة شهدت أيضا ضحايا كُثر من ولايات الجنوب التونسي..
وإذن..؟
المنسيون إذا الذين رحلوا عن الحياة كأنهم لم يعيشوا أصلا..نهم ضحايا الهجرة حول العالم.
هكذا يصفهم تقرير لأسوشيتد برس يوثق وفاة أو اختفاء أكثر من 56800 مهاجر في جميع أنحاء العالم منذ عام 2014،أي ضعف الرقم الرسمي الصادر عن منظمة الهجرة الدولية.
ضاع عدد كبير منهم في الصحارى أو سقطوا فريسة مهربي البشر،تاركين عائلاتهم تتساءل عما حل بهم!.
فيما تعج المقابر برفات مجهولين في مقاطعة غوتنغ في جنوب أفريقيا،أو في مدينة جرجيس الساحلية في تونس.وثمة مقابر مماثلة في إيطاليا واليونان وليبيا.
ومن المؤكد أن حصيلة أسوشيتد برس هي أيضا أقل من الحقيقة.
فثمة أجساد غير مكتشفة لا تزال في الصحراء أو في قاع البحر.ولا تشير العائلات دائما إلى أن احباء لها فقدوا،كون مغادرتهم كانت غير قانونية أو لأنهم غادروا من دون أن يحددوا بالضبط وجهتهم.
ونتيجة لذلك،فإن الكثير من الأسر عالقة بين الأمل والحداد،مثل السيدة ف.ز (طلبت منا عدم ذكر إسمها بالكامل).فولدها أ.ز غادر مدينة تطاوين في السابع من ماي2011 متوجها إلى أوروبا على متن قارب صغير من مدينة جرجيس الساحلية مع العشرات من المهاجرين..غرق القارب ولم يسمع من أ.منذ ذلك الحين.
وعلى أمل أن يكون على قيد الحياة،والداه ينتظران.
تقول والدة-أ-"أنا أنتظره فقط.أتخيله دائما واقفا خلفي،في البيت،في السوق،في كل مكان.عندما أسمع صوتا بالليل أعتقد أنه آت،عندما أسمع صوت دراجة نارية،أعتقد أن ابني عاد".
وتوثق الحصيلة الرسمية للأمم المتحدة إلى حد كبير حالات الوفاة في البحر المتوسط وأوروبا،لكن على الرغم من ذلك،هناك حالات أخرى تسقط من الحسابات.
على سبيل المثال،مات أكثر من 800 شخص في أفريل2015 أثناء تحطم قارب صغير قبالة أحد الشواطئ الإيطالية،فيما تم وصفه بالكارثة البحرية الأكثر فتكا في أوروبا،وتعهدت الحكومة الإيطالية آنذاك بتحديد هوية الضحايا والتوصل إلى عائلاتهم،لكن الآن بعد مرور أكثر من 4 سنوات،توقف تمويل هذا المشروع.
وخارج نطاق أوروبا،تعتبر المعلومات حول المهاجرين غير الشرعيين أكثر ندرة،وحتى في الولايات المتحدة حيث أصبحت الهجرة موضوعا شائكا،لا يوجد جهد منظم لتحديد أماكن اختفاء المهاجرين أو موتهم،أو حتى سياسة للتعرف على هوية القتلى وإخطار عائلاتهم،ولا يعرف إلا القليل عن ضحايا الهجرة غير الشرعية في أمريكا الجنوبية،حيث أصبحت الهجرة من فنزويلا هي الأكبر على مستوى العالم الآن،ونتيجة لذلك تسيء الحكومات تقدير حصيلة ضحايا الهجرة غير الشرعية التي تحولت إلى قضية سياسية واجتماعية هائلة على مستوى العالم.
على سبيل الخاتمة:
في السنوات الاخيرة،غلبت على السياسات الاوروبية،أكثر فأكثر المقاربة الامنية،لكن أمام تواصل تدفق المهاجرين،تسعى الان بكل الطرق للتخلص من ازمة تدفقهم عبر ترحيلهم الى بلد اخر من خلال ابرام صفقات مع الحكومات،مثلما وقع مع تركيا،وحسب المراقبين فان كلا الحلين،الامني أو الترحيل،غير ناجعين ما دامت هناك معضلات عميقة في جنوب المتوسط،منها الفقر والبطالة والقمع السياسي والحروب الاهلية.
وحتى اتفاق مراكش الاممي حول تحقيق"هجرة امنة ومنظمة ومنتظمة "التي صادقت عليه 164 دولة في العالم،خلال شهر ديسمبر 2018،فقد أظهر انقساما حادا ضمن دول الاتحاد الاوروبي،رغم صبغته غير الالزامية،حيث اثارت نقاط عديدة،منها "تحسين الخدمات الاساسية للمهاجرين" و"العمل على ان لا يشوب تقديم الخدمات اي تمييز ضدهم"حفيظة حكومات يمينية في اوروبا.
أمام فشل كل المحاولات ربما حان الوقت ان تنظر أوروبا الى الهجرة نظرة مغايرة وتواجهها عبر استراتيجيةبعيدة المدى استراتيجية تقلل من ردود الفعل الامنية،وتأخذ في الاعتبار مبادئ حقوق الانسان وتكرس التضامن الدولي،عند ذلك فقط يتحول المهاجرون،بكافة اصنافهم،من عبء الى عامل اثراء تستفيد منه دول المنشأ والدول المضيفة.
والخلاصة أن محددات الهجرة كثيرة ومتباينة وأن الإجراءات القانونية لدول الاستقبال لا يمكن أن تكون فاعلة إلا إذا واكبتها إجراءات مصاحبة للتأثيرعلى هذه العوامل في إطار مقاربة شاملة.
ويلخص العالم الديمغرافي الفرنسي الكبير ألفريد صوفي Alfred Sauvy إشكالية الهجرة بقوله "إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر،وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات".
وأنا أقول:إنّ التعامل مع الهجرة غير الشرعية باعتبارها متنفسًا لحلّ المشاكل الداخلية هي استراتيجية تسكّن الألم لكن لا تزيله ويبقى المشكل الأكبر هو في الوقاية التي هي خير من العلاج. وهو ما يجعلنا كتّابًا ومفكّرين نسعى جاهدين لتغيير الأسلوب الفكري في التعامل القضايا المتنوعة بحيث يجب الاهتمام بالدراسات أكثر للظواهر قبل استفحالها والتعامل مع الأمور بنظرة استباقيه وهذا والنجاح الحقيقي الذي سيجعلنا نمتطي سلّم المستقبل بثقة لا تزعزعها الرياح.
إنّ الهجرة غير الشرعية مشكلة عالمية مثلها مثل أيّ مشكلة أخرى،تقتضي دراسات عميقة للظاهرة وبدائل يمكن أن تخفف من وطأتها علما وأنّ تفكيكها يقع عندما يتم الترابط بين الأسلاك العلميّة حتّى تحاول بناء شخصيّة مستقبليّة لا تخضع بصفة آلية للثقافة السائدة.
الاتحاد الأوروبي لا يتوفر على إستراتيجية واضحة للتعامل مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية، جعلته يغلّب المقاربة الأمنية في التعامل مع المهاجرين في وضعية غير قانونية، التي ساهمت في تأجيج مشاعر العنصرية وكراهية الأجانب، فغالبية المشاريع الأوروبية التي طرحت لمكافحة هذه الظاهرة التي تقوم على الحلول الأمنية، أثبتت عدم فعاليتها و عدم نجاعتها، كونها تهمل الأسباب والظروف المحيطة بموضوع الهجرة غير الشرعية، كما إن هذا النوع من الحلول مكلف بالفعل،فعلى سبيل المثال،هناك اتفاقات ثنائية بين دول مثل إيطاليا وليبيا،وأخرى بين الاتحاد الأوروبي ومصر والمغرب والجزائر،يدفع الاتحاد بموجبها الملايين من أجل مشاريع مثل: رفع قدرات الحراسة على الحدود، والدعم اللوجيستي المتمثل في طائرات المراقبة،وبناء معسكرات الاحتجاز.فالاتحاد الأوروبي ينفق بالفعل أموالا طائلة ولكن في الطريق الخطأ، وبدلا من ذلك، فمن الأوفق التركيز على دعم مشاريع تنموية،يكون عمادها مؤسسات المجتمع المدني، خاصة في القرى والأرياف،أما الحل الأمني فقد أثبتت التجارب أنه لا يؤدي إلى نتائج إيجابية.كما أن هذه الإجراءات الأمنية المتشددة فشلت في تحقيق الهدف منها، وهو الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية. وقد أكد الباحث شتيفان ألشر من معهد دراسات الهجرة المقارنة،أنها لن تؤدي سوى إلى تغيير طرق الهجرة غير الشرعية وليس وقفها..
على سبيل الخاتمة:
يثير تصاعد وتيرة "الحرقة"في السنوات القليلة الماضية سيما بعد ثورة التحرير المجيدة وبشكل فجئي بعض الأسئلة قد تبدو غريبة ولكنها تحتاج الى إجابات دقيقة حتى يتم تفنيدها أو إثباتها فهل فتحت الأبواب عمدا أمام موجات الهجرة السرية لامتصاص الغضب الاحتجاجي وتوجيه اهتمام الرأي العام ؟
هل هناك"تواطؤ" (موضوعي ربما) بين شبكات التهريب ونزع فتيل الاحتجاجات لدى شبان المناطق الداخلية (من اجل إفراغ تلك البؤر الاحتجاجية من فاعليها؟
هل هناك أيادي خفية تريد النيل من صورة تونس ؟
هل لنا سياسة وطنية للهجرة عموما؟ هل تكفي المقاربة الأمنية / القانونية المكثفة و المتشددة لتقليص حجم"الحرقة"ومجابهة انعكاساتها وتداعياتها؟
أي تكلفة بشرية لكل ذلك ألا يخشى أن تكون على حساب حقوق الإنسان و ما نصت عليه المواثيق الدولية و الدستور التونسي ؟ و مع ذلك كيف يمكن حقيقة “معالجة ظاهرة الهجرة السرية “الحرقة” ولو على المستوى المتوسط والبعيد رغم يقيننا أن بلوغ الدرجة الصفر من الهجرة السرية سيظل في المدى القريب على الأقل ضربا من الاستحالة..؟
ما هي البدائل الممكنة للحد من هذه الهجرة استنادا الى السياسات العمومية و أجهزتها التنفيذية ( التعليم والتكوين،التشغيل،التنمية،تثمين قيم العمل و تجديد الحلم الفردي و الوطني ؟
لقد تحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة مفتوحة بين الضفتين الأوروبية والإفريقية صار حقيقة وليس مجازاً شعرياً·والفاجعة الأخيرة جعلت من ظاهرة الهجرة غير الشرعية في اتجاه السواحل الإيطالية أكبر خطر يهدد أوروبا وينذر بعواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة· بل إن هذه الظاهرة تعادل في درجة خطورتها التهديدات الإرهابية التي تمثّلها التنظيمات الجهادية،مع وجود فارق جوهري· فالأمر لا يتعلق بجماعات مسلحة في حرب ضد أوروبا بل بمأساة إنسانية تجعل مئات الآلاف من الأشخاص يعبرون في موجات ضخمة إلى الضفة الأخرى بأي ثمن،هرباً من جحيم الحروب والفقر والأمراض والبطالة،ويهلَكون في اتجاه قارة لم تعد تتحمل وزر استقبالهم.ويتحولون بالتالي إلى "وليمة لأعشاب البحر"