قصة من صميم الواقع
الجزء السابع
تمر الأيام العصيبة على جاهدة مع طفلتيها، وكانت الام ناجية تساعدها في كل شؤون البيت، وكان عبد المجيد يتحمل أعباء بيت ابنته وبيت ابنه الذي يسكن فيه معه، يخرج الاب في الفجر بعد تنظيف سيارة الأجرة فهو مريض بالوسواسة فكل حريف يركب معه يقوم بالتعقيم بعده، كانت رحالاته خارج المدينة وعند عودته في المساء كان يشتري ما لذ وطاب من كل مدينة يقصدها وكان يقسم كل ما يشتريه بين البيتين. كان عبد المجيد يعيش نوع من الحرمان من بعد زوجته، فهي كانت تعوضه حرمان الوالدين فهو تربى يتيم في بيت اعمامه في ساحل البلاد اين كان يمتلك أراضي شاسعة من الزيتون والذي باعها عندما وصل الى سن الرشد وقصد المدينة اين استقر في احدى مناطقها الجنوبية الساحلية. اشترى عبد المجيد آنذاك العديد من المنازل والمخازن والدكاكن ولكن طيشه والسهر والمجون لم يترك له غير بيته الذي كما سبق قلت باعه من اجل يوسف. ورغم انه كان يعيش في رغد العيش وعندما زال عنه لم يتغير بل واصل حياته وعمل جاهدا لكسب رزقه. كان عبد المجيد له كبرياء ولا يمد يده لاحد رغم انه كان ممكن ان يستغنى في أيام الاستعمار ويكرم من رئيس البلاد في ذلك الوقت, وهذه المعلومة لم تذكر في تاريخ تونس لانه احتفظ بها لنفسه غير ان هناك خطاب مشهورا للزعيم بورقيبة يقول فيه أتمنى ان اعرف ذلك الرجل الذي هربني من جيش المستعمر الفرنسي في سيارته الذي اخفاني بها باحكام لأحضر مؤتمر بالوطن القبلي. لم يستغل الوضع مثل ما فعل العديد من جيله واغتنموا البيوت والأراضي، كان لا يحب التطرق للموضوع لانه يريد ان يعيش مع أولاده بعرق جبينه.
جاهدة اعلمت زوجها نديم انها لم تعد تصبر على اهماله لها وانها قررت الطلاق، بعد ثلاثة أيام من تلك المكالمة طرق باب المنزل في المساء استغربت ناجية من سيكون الطارق في تلك الساعة المتاخرة فعبد المجيد مر قبل صلاة المغرب، وسألت ابنتها التي كانت ترضع آمال، اذ كان احد الجيران اتى لحاجة ما، لم تجد جاهدة ما تقول فهي متعجبة لان الجميع يعرفون انها تسكن وحدها مع والدتها وعيب ان يطرق احد الباب في تلك الساعة على نسوة. تقدمت ناجية نحوى الباب بخطى ثقيلة وهي خائفة وقالت من الطارق؟
كان السكون يعم المكان في ليلة مظلمة وممطرة.
عاودت القول من الطارق؟ فرد عليها صوت يرتجف من البرد القارص افتح الباب.
قالت له من انت؟
قال انا نديم الم تعرف نبرات صوتي
انصمدت ناجية جامدة امام الباب ثم فتحته وقالت: من؟ هل انت نديم حقا؟ متى اتيت؟ كانت الأسئلة وراء بعض بدون توقف، تقدم نديم منها وقبلها من جبينها وقال لها: ام ناجية كيف الحال؟ اين جاهدة والبنات؟
سمحت له بالدخول بدون ان تنطق بكلمة وكانت كل اشاراتها بالإيماء، واذا بجاهدة تخرج من غرفتها ، نظرت في دهشة وقالت : نديم هذا انت؟ كيف ذلك ومتى جئت ولماذا لم تعلمني بموعد وصولك؟ هرول مسرعا نحوها وارتمى بين احضانها وكان الدمع ينهمر من عينه. تعانق الزوجين بعد طول غياب دام اكثر من سنة ونصف. وقال انني رجعت فانا لا استطيع ان ابقى بعيدا عليك وعلى البنات ولقد مللت الغربة وكانني لم اكسب شيء هناك متعللا ان الحياة صعبة وباهضة هناك متناسيا ان كل ما يجمعه يصرفه بين معلوم الكراء والسهرات هو واخته. دخل نديم لغرفة الجلوس وسأل على بناته فقالت جاهدة انهن خلدن للنوم، فليتركهن للصباح، مشى نديم على اطرافه أصابعه ليلقي نظرة عليهن ويشبع من رؤيتهم فخاصة آمال لا يعرفها الا من الصور. نظر اليهن والدمع على الخد. خرج من غرفة النوم وجلس على الكرسي ليأخذ لفافة سيجارته ويشعلها، صاحت عليه ناجية ومنعته من ذلك فالبيت صغير وليس فيه هواء وهناك طفلتين صغيرتين، تأسف لها وقال انه نسى ذلك ولم يتعود على الامر. كان نديم هزيلا والتعب ظاهر على وجهه، عاد حاملا حقيبة بالية، مهشمة من جوانبها، وضعها على الأرض وفتحها وبدأ يخرج ملابسه الرثة ، وبعض الهدايا لجاهدة وللبنتين، قال انه لم يقدر ان يشتري اكثر من ذلك فالمال الذي بحوزته اشترى به تذكرة العودة للوطن. قالت له جاهدة: ليس مهم كل هذا، المهم انك عدت وسنتحدث غدا على كل شيء وعلى مشاريعك المستقبلية. سكت نديم للبرهة وخرجت منه تنهيدة كبيرة. وضعت ناجية الطعام امامه وطلبت منهم الالتفاف حول المائدة، كان يأكل بلهفة كأنه لم يأكل منذ مدة، فأكله في بلاد الافرنج كان باسلا ليس فيه طعم ولا لذة.
بعد الأكل غسل نديم اطرافه ودخل ليستلقي على الفراش مع زوجته فقد اشتاق رائحتها. فكانت ليلة غرامية بين الشوق والجدال حتى اتى فجر الصباح، واستفاقت الام ناجية لتحضر الفطار وتصلي صلاتها وكانت تسمع في غرفة ابنتها الهمسات والضحكات، خجلت من الامر وقررت بين نفسها مادام زوج ابنتها عاد ستعود لبيتها. استفاق الجميع من النوم، غيرت جاهدة ملابس بناتها الصغار وارضعت آمال، وكان نديم يلاعبهم في اول وهلة خافت سليمة بنت السنتين منه وبعد ذلك بدأت تتقرب منه فهي نست ملامحه، اخذ نديم فطوره مع عائلته واحس براحة بال لم يعهدها من قبل، وشكر حماته على كل ما قدمته في غيابه. بعد فطور الصباح قالت ناجية لهم انها ستعود ادراجها لبيتها، فترجتها جاهدة ان لا تتركها فهي صغيرة ولا تقدر وحدها ان تعيل ابنتيها. مهمهت ناجية وقالت اترك الامر الان وسنناقشه مع والدك وباقي العائلة. خرج نديم من البيت في اتجاه بيت امه واعدا زوجته انه لن يتأخر. هاتفت ناجية من دار الجيران اهل بيتها لتعلمهم بعودة نديم، فرح الجميع لان عبأ كبيرا كان على عاتقهم انزاح وقالوا انهم سياتون في المساء ليرحبوا بنديم ويتمنوا له عودة ميمونة.
بقلم نادية التومي / جويلية 2021
يتبع