لست أدرى أكنت فى تلك اللحظة أحلم . أم أننى أتخيل أشياء لا وجود لها.
ففى إحدى ليالى الشتاء الطويلة رأيت طابورا من الموتى يمشى أمامى . هيكلا عظيما يلتف بكفن مهلهل ويسير متخطرا ومن خلفه هيكل أخر يحمل فوق كاهله قطعة من الخشب ومن خلفه ثالث يجر خرقا قديمة بحبل من الليف وظل الموكب يسير أمامى عدة ساعات. ثم التفت إلي هيكل بساق واحدة وقال:
خذ بيدى يا أخى ..خذ بيدى فقد برح بي التعب ؛ فأخذت بيده حتى جلس إلى جوارى وكان يحمل لافتة من الخشب مكتوب عليها ( محمد البنا) يونية ١٩٧٤ .
وظل يلتقط أنفاسه برهة ثم قال:.
أن الحالة فى منتهى السوء . وضم أطراف كفنه المهلهل ؛ ولف ساقه العارية. ثم أخذ يحك ركبته بظفر التقطه من الأرض. فقلت متسائلا:
ماذا جرى يا صديقى؟
ماذا جرى. !!!
ألا ترى هذه الحزمة المهلهلة ..انظر الى هيكلى أمامك.! وقد أكله الدود أما ترانى؟
أن حياتى كلها تهاوت وتسألنى ماذا جرى!
أن كبريائى يوطأ بالأقدام. وأريد أن أحدثك عمرا كاملا عن العذاب الذى أعيش فيه .
تحدث يا أخى تحدث!!
اننى أقيم فى هذه القرافة القديمة فى هذه المقبرة على طرف المستنقع فى طرف القرية .
لقد تفتت أحد ضلوعى. الضلع الرابع أنى أربطه بفتلة من الدبارة. هكذا تتفتت كل يوم ونبلى فى ذلك المكان الموحش
دون أن يسأل عنا أحد. ولاحت المرارة والحزن على وجهه العظمى؛ مرارة وحزنا ضاعف من وقعهما المحاجر الفارغة
والأنف المخروق وعاد يغمغم. لقد مضى أربعون عاما على اليوم الذى رقدت فيه فى هذا المكان .
كانت هذه الأرض حينئذ حقول غناء . حول المقابر. وكان جيرانى من صفوة الطبقة الراقية ليس فيهم لص ولا شحاذ وكان الزوار يأتون كل أسبوع يسقون الصبار فى الممرات ثم جر علينا الزمن زيل النسيان فهجرنا زوارنا وبلغ منا البلى والتعفن هذه الحالة التعسة ..الحقول الخضراء خرست طيورها بعد أن ذوت ولم يبق هنا الا تلك الجميزة والنخلة إلى جوارها ترسل رأسها المنكسة فوقها بين أحياء لا يعرفون الخجل. !
لقد اشترى أحفادى منزلا فى مدينة كوم حمادة. اشتروها بهاتين اليدين الكادحتين وأنا الذى صنعت لهم حياتهم أعيش فى الوحل والظلام.
وتسألنى بعد كل هذا ماذا جرى؟
أن هذه المقابر لا يوجد فيها قبرا واحدا سليما يقينا برد الشتاء حينما ينهمر المطر. فلم نجد سوى تلك الجميزة نلوذ بها وأحيانا نصحو ليلا على الماء يجرى فوق ظهورنا باردا فنهب من مقابرنا وتساند بالألوف ونتعثر فى الوحل. والربح تصفر فى صدورنا الفارغة ونتجمع تحت الجميزة وقد تشبث كل منا بالأخر حتى ينقطع المطر فتعود حيث يستعير كل منا جمجمة أخيه ليغترف بها الماء من مقبرته .
أنظر إلى جمجمتى.انها مليئة بالطين .
أن من يأتى فى ليلة كهذه يشاهد العجب . لقد كان لى كفن جميل من القطن . وفى ليلة من الليالى المشئومة علقته على سور المقبرة فضاع ..سرقته جثة باسم ( ريا) وهي عجوز فارعة القامة لها سنان أماميتان وضلع مفقود وخصلة شعر واحدة ملتصقة بجبهتها وثلاث أصابع.
أتسمعنى...!؟
وظهر على وجهه تعبير رهيب وانفرج فمه عن ثقب أسود مرعب فدب الفزع فى قلبى ولكنه فاجأنى قائلا أنه يضحك ويغمز بعينيه. وقال بعد فترة من الصمت هذه هى حالنا يا أخى .
عشر سنوات يا أخى وهذه المقابر لا تطؤها قدم أنسان حتى تعفنت بمن فيها الرطوبة والمطر والديدان تأمرت علينا. فلم تدع قبرا واحدا سليما.
حتى مقابر عائلة البنا الذين كان الناس يتسابقون إلى تقبيل أياديهم تعال انظر ماذا تبقى منهم ..لقد رأيت أحدهم يقايض خاتمه الذهبي مع ماسح أحذية مات حديثا مقابل قطعة من الخيش يضع عليها رأسه ويتوسل أن يقبل الصعلوك تلك المقايضة..
أن أقصى ما يعنى به الميت هو متاعه القليل الذى يملكه جوف مقبرته وكفنه والخيشة التى يضع عليها رأسه هذه الأشياء التافهة فى نظر الأحياء لها كل القيمة عندنا ؛ وقد يصحو الميت منا فى نصف الليل لا لشئ إلا لقراءة اللوحة المكتوبة على واجهة مقبرته ويظل يرددها حتى مطلع الفجر
ثم يهبط إلى جوف المقبرة ليواصل ركوده.
أذكر أنه كان على واجهة مقبرتى منذ عشر سنوات عبارة تقول ( أيها الزائر اليا. قف على قبرى شويا. وأقرأ السبع المثانى
رحمة منك إليا.).
كنت أتغنى بها .وهى محفورة على الاسمنت. ثم تلاشت. محاها المطر و تعاقب السنين والأيام
أن حياتنا فى هذه المقابر مهددة بالفناء ولذلك نهاجر فلم نعد نطيق تلك المعاملة السيئة. التى نلقاها على يد أحفادنا .
إنهم يبنون مقابر جديدة لأنفسهم ويقيمون منازلا لكلابهم ومواشيهم ويتركون بيوتنا تنهدم فوق رؤوسنا .
انظر الى ماتبقى من قبرى؛ ومع ذلك كان يوم مماتى غرفة تليق باستقبال ملك خذه فأنا لا أستطيع بناؤه.اصنع له سقفا ونم فيه .
* شكرا.
* لا شكر على واجب
* هذه أقل تحية أقدمها لصديق. أن غرضى هو خدمتك.