..المطر يغسل الفضاء، وحبّاته تسقط على الأرض فتتناثر أشبه بخيالات تولد وتندثر، وعلى المدى تنطرح الأضواء فوق المستشفى الأكثر بياضا من العدم، تذكّر أنّ ثمّة بشرا يعيشون أيضا..
لقد اكتشف الطبيب الصّارم-المرضَ الخبيث-الذي توغّل في رئة أبي وبدأ ينخرها بشراهة فجّة، مما جعله يحدّد موته برتابة إدارية مرعبة!..هذا الإكتشاف المفجع أجبرني على العودة به إلى البيت حيث سيكون الوداع
أنا الآن،مثقل الذهن من رؤياه، مكدود المشاعر، إلا أنّ تألّمه لم يكن يثير من الألم بي، أكثر مما يثير سخريتي من الحياة، فإنتهاء الإنسان إلى مثل هذا المصير لا سيما بعد أكثر من نصف قرن قضاه يعطي الحياةَ حيويّته ونضارة صباه، هو ضرب من العبثيّة التي لم أستسغ كنهها بما فيه الكفاية..
لقد غدا أبي في عداد الميت، وانخرط في عدّ أيّامه بصبر الأنبياء..
هكذا بعد أكثر من نصف قرن أعطى فيه الحياة أضعاف ما أخذه، يحيله المرض إلى كتلة من عذاب..
فجر يوم الإربعاء.. على الساعة الخامسة ألما :
إنّه ليس معقولا أن يموت أبي،كما أنّه ليس معقولا أيضا أن يعيشَ على تخوم الألم،ومع ذلك فلا شموخه فوق زخّات العذاب عجّل برحيله، ولا أنا قبلت بأن يموت، رفضان في تناقض محتدم،إلا أنّهما محتدمان بصورة قدرية..وذلك هو جوهر أحزاني..
قبيل إنبلاج الصّبح بقليل سرحت فيما يبدو أكثر مما ينبغي فأغفيت"..رغبت في البكاء، بكيت دون دموع..تراءى لي والدي بوجهه المهيب، ورجولته الفيّاضة، خيّل إليَّ أنّه عاتب عليَّ"أنت نسيتني-قال لي-ومن حقّك أن تنساني..فمَن غاب عن العين ينساه القلب..!"
صرخت بملء العقل والقلب والدّم:" لا يا أبتي لن أنساك..لن يطويك الزّمن..لن يباعد بيننا..الزّمن لن يطوي أمثالك ممن خبروا شعاب الجبال، وقفْر البراري..ستعود كما كنت جوّاب آفاق يصبر على المكاره..
ليس من السّهل أن تتوارى خلف التخوم،ولا أن تضيع ولا أن تموت..ولا أن.." استفقت على أبي يئنّ بصمت حزين..لقحته فوق ذراعيَّ ومشيت به، فشعرت كأنني أحمل كيسا من العظام..أدخلته"دورة المياه" وأمسكت بيديه حتى إنتهى،ثم حملته من جديد..كان حزنا صعب المراس يلتحف بأضلاعي..
صباح يوم الخميس..على الساعة السادسة حزنا:
دخلت الغرفة فرأيت أبي مسجى،وقد تميّع مرضا،وتحلّقت حوله أخواتي،انقبض قلبي بسرعة وأسرعت إلى جانبه، كانت شفتاه تتحركان وعيناه مغمضتين بعنت وألم، وهيكله هامدا ساكن النبض..
اقتربت منّي أمّي وهمست في أذني بصوت مكتوم:" لا تحزن يا ابني..الحزن ماء غريب لا يغسل ما يجب غسله إلا في لحظات هاربة".." لا يا أمّي..إنني حزين..الحزن حالة من الهمود كالقهوة التي تفور وتفور، ثم تتراجع وتستقر في قاع الركوة.أنا قهوة فارت وهمدت..جسد يتلوّى في فيض الألم..أنا كتلة من ألم..ترى يا أمي، هل سيطوي الموت جناحيه الأسودين على أبي..؟
إلتفت صوبه ثانية، فرأيته يعضّ شفته السفلى بعنف وقد تيبّست يده تحت جنبه الأيمن..وتهادت الأوجاع على صفحة وجهه غائمة كأطياف مراكب الصّيد عند الغسق..
عند المساء:
حين الظلمة تبرك على الإمتداد على حيّ نابت في مكان ما من الجنوب..تتحرّك كائنات بشرية وسط الفراغ، وتتململ بعض الأصوات التي تحملها الأحزان وتطوّح بها بين أركان البيت..في تلك اللحظات المنفلتة من عقال الزمن..يتوجّع السكون ويصاب الصّمت النبيل بجراح يفقد على إثرها اللّيل سرّه..ثم يتعالى الأنين ويتعاظم الألم فترتجف قلوب أعتى الرجال..وتبكي عجوز بصمت جليل:
-رفيق دربي يموت..
-لا لم يمت..
-استدع الطبيب يا "محمد"
-لا..لم يعد يفيد..
وسط البيت ينفلت فراغ ممل،صمت غير محدود،وفي هذا الفراغ الجائع المحموم تصنع الرّيح ارتعاشاتها في المدى صوتا يحاكي نحيب الأرامل..اتجهت صوب أبي،ذاهل اللب والخطى ينهشني في داخلي خراب كاسح، ويتناهى إلى سمعي أنين قاهر ما فتئ يتضاءل كالرّجع البعيد..اقتربت منه فألفيته مسجّى وقد اعتصره الضمور واعترى جفونه ذبول وحاقت بعينيه أورام وغشيت وجهه سحابة من عذاب كافر..
أمعنت النظر فيه فوجدته يتلوى كنبات زاحف والكلمات تندغم في حلقه..وشيئا فشيئا ارتخى جفناه كستارة تسدَل وتشابكت يداه وهما تضغطان على الألم في صدره، ثم بدأ يتكوّم ويرتخي وبين التكوّم والإرتخاء تضيء عيناه وهما تبحثان عن وجهي لينظر تلك النظرة التي ستورثني الحزن الأبدي..
استيقظ من نوبته الأخيرة،فاقتربنا منه حتى لامست أنفاسنا جسده الواهن، ولقد راح بعد ذلك يتمتم بخفوت، كلمات لم نكن نسمعها بوضوح، إلا أنّها تذكّرنا برفاق دربه الذين مضَوا وتواروا خلف الدروب، ومن ثمّ أدركنا جميعا أنّ هذه الكلمات لا تعدو كونها صوتا مختنقا لزمن يسقط في الأفول..فهمنا من أبي، ببضع إشارات وغمغمات متعبة، أنّه يريدنا أن نقترب منه، ففعلنا، ومدّ يده فمددنا أيدينا ووضعناها عليه، سحب يده الثانية ووضعها فوق الأيدي كلّها، وفي تلك اللحظات كانت أمّي تبكي بدموع سخية، أما أختي الكبرى فقد كانت الكلمات تخرج من شفتيها باردة، بطيئة لا معنى لها مصحوبة بنظرة شاردة لم تستقرّ على وجهي أبدا..وفيما عدا ذلك فقد استمرّت تقرأ الآيات التي حفظتها من القرآن منذ أربعين عاما..
الجمعة..قبيل الرحيل الأخير:
لم يعد بوسع أبي أن يحرّك أطرافه، كما لم يعد بوسع إخوته الأفذاذ أن يرفعوا رؤوسهم عنه،وفي تلك الساعة العصيبة كاد الزمن أن يتوقّف أو هكذا خيّل إليَّ..وفي تلك الساعة أيضا شعرت بالدّمع يطفر من عينيَّ، وبألم هائل يجتاحني ويعتصرني..والتفت فجأة نحوه فرأيت عينيه تتثبتان على وجهي، ورأيت جفنيه ينحسران إلى أقصى محجريهما كأنهما تريدان أن تتركا لعينيه أوسع رؤية ممكنة في آخر لحظة بالحياة، وراح بريق عينيه يذبل كذبالة سراج منطفئ،أو كحجر مرو أملس مبلّل يوضع تحت شمس حامية تبخّر الشمس رطوبته شيئا فشيئا..صرخت أمّي صرخة مزقّت وشاح الصّمت:
-استدع الطبيب يا"محمد"
-لا..لم يعد يفيد..
الآن بدأ خدر البرودة يحكم قبضته على جسده..وببطء شديد راح يغطّ في موت عميق..
عندما تبهت الأيّام،وتنطفئ في عين النّهار إبتسامة حاولت كثيرا أن أغذيها بدمي،يتعالى صراخ من هنا، أو نحيب من هناك، وتتوالد حول الأحداق أحزان كثيرة وعابثة الشعور، تذكّر أنّ الإنتهاء قد اقترن بكل شيء.
عند المساء مات أبي،بكل حتمية..مات وهو يوصينا ألا نختلف..ويلفت رعايتي لأمّي بإعتباري سندها الوحيد.
لقد تجرّأ الموت وسأل أبي لماذا يعيش..؟!
ولا بدّ أن يكون المرء سخيفا ليسأل الموت عن علاقته بنا.غير أنّي صرت سخيفا لحظة من زمن..وفي تلك اللحظة عندما نظرت إليه يستلقي في استقرارة أبدية بلا عيون سألت لماذا يموت أبي؟!
وأدركت أنّ السؤال قدريّ..
وأدركت كذلك أنّ الوزر الذي خلّفه لي سيثقل كاهلي..
وقد أنوء بحمله أثناء عبور الدّرب الأخير..