قراءة نقدية فلسفية / انطولوجية لنص الشاعر التونسي عبد الحميد بريك
_______________________
النص :
ارجع إليك
منّي عليّ أخاف عند تساؤلي عنّي
فيــــــــرتدّ الجـــــــواب غمــــــــوضا
أأنـــــــا أنــــا أم أنــــني متغـــــيّر
عنّي قــــليلا أم غـــــدوت نقـــــــيضا؟
وأخاف أن تمـــتدّ تخـــنقني يـــدي
حنــــــــقا على وجــــه رأتـــه بغيضا
ولعلّها همّت بكشف بواطني
لولا رداء السّــــــــتر ظلّ عريضـــــــــا
وأخاف من عــيني تعيب ملامحي
وتحلّــــــــني بعد الشّــــموخ حضيضا
لي صورة عـــني أرى جنبـــــاتها
ما عـــدن من بعد النــــــــقاوة بيــضا
وأرى الليالي قد ذهـــبن بنــــورها
وأرى العــــــــوادي ما تركن وميضا
لم يبكني دمـــعي كأنـــه لم يــــجد
أهــــــــلا لأن يُبــــــــكى عليه فغيضا
ولربّما جــفّت منـــابع مدمــــــعي
ما عدت تلمح في العــــــيون بضيضا
وتحالفت ضدّي جمــيع جوارحـي
إذ آنــــست من بعــــــضها التحريضا
في داخلي صوتي أحــسّه صارخا
أترى وقعت فما استطعت نــــهوضا؟
عبثا تكــابر يا الغريب وتـــــدّعي
عـزّا جـــــناحه لا يـــــزال مهــــيضا
عبثا وكأس الــروح همّا أتــرِعت
واستوحشت والطرف صار غضيضا
أجل يشــدّ الــــــرّوح فيك وإنّـــها
كم ســـــــابقته ورفــرفت لتفــــــيضا
نصفان أنت فمــنك نصف تـــــائه
جرح له يلــــــــــــقى الفؤاد مضيضا
والثّــــانيَ البــــــاقي أراه معــطّلا
قد ضــــــــــاق ذرعا بالحياة مريضا
ارجع إلــيك فكيف تــبني عالــــما
وتعيش فيه مــــــفردا مرفـــــــوضا؟
ارجع إلـيك إليك تـرجع نـــــورها
وتراها أبدت في الولاء فـــــــروضـا
وارفض إذا أملت علـيك شروطها
فالحرّ من لا يقـــــــبل المفـــــروضا
مهما تعـوّضك الحــــياة فقل لـــها
عن صورتي لن أقبـــل التعـــــويضا.
عبد الحميد بريّك
_______________________
تمهيد عام :
لان الشعر بستان الادب وأضاة الفنون فليس لفحش الَمعاني وهتك القيم الاعراض عن الفضيلة سوى للادعاء بالشعر على غير ما ادعاه الاولون فيه من الاستئناس بجمال الروح ونبل المشاعر ورفعة الذوق لما كان الامر على هذا النحو من الكلام فإن نشدان الجَمال في الشعر لا يتم الا ببديع الكلام وبلاغة اللسان فالحرف الاعوج والمعنى الاعرج لايصنع الشعر الجيد ولم يكن العرب أسياد العالم في الشعر الا لفصاحتهم ونبوغهم فيه .
تمهيد خاص :
ولعل شاعرنا التونسي الاستاذ عبد الحميد بريك صقر الضاد قد اكد لنا في هذا النص الشعري الضادي المعروض للنقد ان الادب الراقي هو الذي يصنع فينا السمو فرادة وتميزا وليس مجرد انتاج يصنع الرتابة والتشابه والمالوف والعادي وانما ينقل الشاعر من " العامة الى خاصة الخاصة" على حد عبارة ابى حيان التوحيدى
نعود للقصيد " ارجع اليك" عنوان لقصيد ضادي شحذ فيه الشاعر قلمه وحلج فيه فكره وصعد بنا فيه الى اعلى درجات السمو في نفس فلسفي .. والعاقل من يدرك ان لهذا النص بحران للعروض والنحو والبلاغة وبحر اعمق واخطر هو للفكر والفلسفة والحكمة.
لينقل الشعر من ارض الوجدان والشعور والانفعال الي ارض العقل والحكمة بين الظاهر والباطن والمنطوق واللامنطوق
والبديهي والمحسوس يترقى بنا الشعر في سلم الفكر بين شعر العوام وشعر النخبة من عشاق الرفعة ومن رواد الحكمة وفكر الانوار فهل ادراك الَمحسوسات من كوامن الغرائز بََمثل ادراك المعقولات من المواهي .. ولعمري ان ارض المواهي ترتبط بالمطلق فلا مكان ولا زمان محدد لها .. انما هي مرتبطة بالمطلق فالحقيقة واحدة غير قابلة للتجزئة وهي موجودة في ذاتها وبذاتها ولذاتها
اول المواهي الذات وهي اول مطلب للتفكير الفسفى بحثا واهتماما ومفهمة وحتى منهجا.
المبحث الاول : التاصيل الفكري للنص الشعري:
لكل نص ادبي وعاءه الفكري الذي يستوطنه ومداره الفلسفي الذي يحوم حوله حتى
النصوص الفاقدة للمنطلقات والرافعة لفكر العبث فان لها مدار فكري تحوم حوله
ونص " ارجع اليك" قد لبس لباس المنزع العقلي ومنذ عتبة العنوان ونحن نستنشق عبق الفضيلة والبداهة
فالفكر نوعان :
_مادي احادى لا يؤمن بغير الجسد كمعيار وغاية وما الفكر والعقل الا نتيجة لعمل الجسد وللإنشباك المادي في الوجود.
_ومثالي ثنوي انشطاري يقوم على ثنائية الفكر والمادة ويفضل علوية الاول على الثاني طالما انه مطلق واحد غير قايل للتجزئة وهو الوحيد القادر علي ادراك الحقيقة بالعقل.. وأما الجسد فهو عاجز عن ادارك عالم الحقائق المطلقة وانما هو حالة من حالات العمى والجهل
.
واختار الشاعر المذهب الثاني من الفكر لذلك تجد تكثيفا لصراع الاضداد في كامل القصيد
و احسبه اعلى درجات التفكير
فمنذ سقراط والذات هي مدار البحث الفلسفي رغم تباين الانساق والي اليوم ونحن نردد المقولة المنقوشة في معبد أدلف :
" اعرف نفسك بنفسك ' والحقيقة انها ليست عملا سهلا او بسيطا وانما تفترض وعيا وجرأة وشجاعة لان حوار الذات مع ذاتها هو من الوجود الذاتي الذي يختلف بالضرورة عن الاخر وهنا نجد شاعرنا الاصيل عبد الحميد يستشعر الخوف من هذه المواجهة وهو الذي اختارها وجعلها مشروعا احسب ان كل الاوفياء قد نسجوه ولنا في الحلاج وابن رشد والغزالي واخوان الصفاء وغيرهم من المفكرين والادباء انموذجا حيا للفكر النير والادب الحي
المبحث الثاني :
البنية اللغوية والبلاغية للنص :
لعل شاعرنا التونسي في نصه قد جعل من اللغة عجينة بها يكَور الشعر في ابهى حلة توطيفا لروعة المعني وتميزا لعمق الفكر . فنسج لغة علائية الانفاس شابية الاحداق رغم ان القارئ يظن للوهلة الاولى ان القصيد صعب المراس من خلال التراكيب الا اني ارجح غلبة البداهة وسطوة البلاغة فيه.
فقد رسم الاستاذ عبد الحميد بريك للنص هندسة بنائية خاصة ومميزة حيث اعتمد صراع الاضداد فجعل قصيده صراعا دائما .. جسده في طباق احسن توزيعه في القصيد في متقابلات وظفت بحنكة لمضاَمين القول
واذ يجمع النقاد ان محرار علو الشعرية يكمن في مدى قدرة الشاعر علي توظيف البديع من الكلام ( الطباق الجناس التراكيب المجاز) لصنع صورة شعرية تترنح بين مدرجي الخيال والشعور واحسب ان الطباق والجناس هما الاكثر بروزا و ترصيعا في النص
المبحث الثالث :
جغرافية النص و صراع الاضداد :
قد يظن البعض ان غاية ابداع الشاعر تقف على عتبة استعماله لجملة من المتضادات او المتقابلات سياقا وصورة والحال ان الطباق في الشعر بوصفه احد المحسنات البديعية هو ايضا تاكيد على
قدرة الشاعر علي النحت بالكلمة والرسم التراجيدي بالصورة .. غير ان هذا الطباق ليس سوى تكريس لثنوية في الوجود بحيث انه يتغير المفهوم في الفلسفة ليصبح : " صراع الاضداد" . ولئن كرس الادب اليوناني القديم هذا المفهوم في المسرحبات والاساطير القديمة الا ان الفلسفة بكامل تاريخها لمَ تكن لتكرس هذا المفهوم الا مع ظهور مع الفلسفة الجدلية المثالية مع هيجل ثم مع الفلسفة الجدلية مع ماركس ثم مع المدرسة الوجودية
وهو ما ينقل النص الادبي من جغرافية العاطفة قرعا للشعور بالشعور الى جغرافية العقل قرعا للحقيقة بالشك والتساؤل والدهشة .
المبحث الرابع :
معجمية النص صراع بين التعدد و الحيرة :
للنص معجَيميات متعددة . فهل لهذا التعدد مقولة تؤكد الثراء وانفتاح الشاعر على نافورة الحياة بتناقضاتها طالما انه يقذف بنا في جحيم أشكلة الذات :
_ هل هي الانا المتعالية أم هي الانا المسكينة
ولم يكتفي شاعرنا الاصيل بمعجمية واحدة معجم التفلسف بل جنح بنا الى عدة معجميات
الفقرة الأولى :
مَعجمية دينية تربوية :
وفكرة محاسبة الذات للذات وصراع النفس الامارة بالسوء والنفس اللوامة وقد ذكرنا الشاعر بنظرية الشك عند ديكارت عتدما خلص فيها الى فكرتي الشيطان الماكر الذي يدفعني للخطيئة والالاه الخير الضامن (الذي يضمن لي الرشد والنجاة)
وايضا مع الفيلسوف الغزالي
موكدا ان للشك حد بالقول :
" لم یكن ذلك بنظم دلیل وترتیب كلام ، بل
بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضیق رحمة الله [ تعالى ] الواسعة"
وايضا مع الحلاج فالبحث عن حقيقة الانا تبقى كامنة في ذلك الفيض النوراني حيث يقول ناظما :
" والحلاج
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا
نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا
نَحنُ مُذكُنّا عَلى عَهدِ الهَوى
تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ
وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا
لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ
مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا "
ويؤكد الفيلسوف الشهيد ان التيه مع الذات في عالم الدهشة والشك غاية في الخطورة حيث يقول :
السهروردي :
" أَتيهُ فَلا أَدري مِن التيهِ مَن أَنا
سِوى ما يَقولُ النّاسُ فيّ وَفي جِنسي."
وهنا قذفنا الشاعر عبد الحميد في جحيم الانا.. فماهي الانا ؟ هل هي السيدة التي لا غالب لها هل هي التي تتربع على عرش الكون ووتتعالى علي كل الكائنات ام هي تلك المسكينة التي لا يمكنها ان تنعتق من سلطة الاخر عليها حيث من خلال هذا البيت يرسم لنا صورة ماساوية لعلاقة الانسان بالزمن
" وتراها ابدت في الولاء فروضا
مهما تعوضك الحياة فقل لها
عن صورتي لن افبل التعويض "
الفقرة الثانية :
معجمية فلسفية وجودية :
لعل حالة القلق والحيرة والدهشة والخوف الموزعة جغرافيا في كامل النص من خلال بعض الكلمات المفاتيح ما توحي ان الشاعر في هذا النص قد تجاوز مفهوم التساؤل الماهوي وأشكلة الذات العارفة لذاتها الباحثة في مكتونها الى مفهوم موقع الذات في الوجود فتجاوز الذات العارفة الموجودة بالقوة الى الانا الموجودة بالفعل اذن لم تكن دهشة الشاعر دهشة الفيلسوف
العاشق للماهيات بقدر ماهي دهشة الشاعر الباحث في كنه علاقة الانا بالوجود
فليس المهم اني افكر في ذلك التناقض التي تحمله ذاتي داخلها بقدر ما اهتم بذلك الصراع الذي تحمله الانا ، والذي يمثل حالة حالات الصدام المستديم صراع بين الغريزة والعقل وصراع بين الروح والجسد
فهل انا غريزة ام انا عقل؟
هل انا جسد ام انا روح
صراع حملنا فيه الاستاذ عبد الحميد فتجاوز فيه الحلاج والغزالي وديكارت والمعري وحملنا شعرا الى صلب الوجود انشباكا وتورطا
المبحث الخامس :
البنية السوسيولوجية للنص
بعد ان اكتشف الباحثون العلاقة الوطيدة بين الادب والمجتمع من خلال تفسير الادب بوصفه تجربة ابداعية نواتها الاسس الاجناعية السائدة ابان نشاتها وانه مقولة رواد الذاتية صارت مردردة علي اصحابها طالما ان الادب هو حالة انفعالية سبقتها تفاعلات سوسيولوجية وان هذه الحالة الابداعية ليست سوي نتيجة لعلاقات انتاج سائدة في مجتمع ما في حيزين زماني ومكاني طالما ان للادب والفنون ليست سوى انعكاس واقع عليها من قبل البنى الاقتصادية والاجتماعية
لذلك صار وجيها اليوم الحديث عن سوسبولوجيا الادب طالما ان علم الاجتماع بات يفسر الادب بوصفه تجربة واقعية قابلة للتفكيك والتفسير والفهم
ويؤكد ماهيو ريمون ذلك بالقول :
" ان المكتوب الادبي بوصفه نتيجة متفردة لفاعلية انتاجية تقع في زمان ومكان معينين لا يمكن قراءته خارج اي معرفة يتجنبه هذا المكتوب مثلما يشتغل به" وهذا يعني ان العلاقة بين الادب والمجتمع علاقة وطيدة وان انعكست بصورة غير مباشرة وانما بصورة جمالية
وهو ما اكده كلود دوشيه من خلال قوله : " بان القراءة السوسيو_ نقدية هي التي تجتمع بين النصية والجمالية والواقع الاجتماعي
وفي الحقيقة مازلنا بالوطن العربي مسجونون داخل بعبع المدرسة الذاتية الظلماء المشحونة بسادية مريضة لذلك كنت اردد في جميع مقالاتي
ضرورة التاسيس لمشروع جدل الفكر في الادب العربي وصنع فكر دياليكتيكي حقيقي يصنع في النص الادبي الحياة والسيرورة واستيتيقا الجمال لذلك بات لزاما على كل النقاد ان ينتبهوا لخطورة الوثوقية النقدية التي حولت النقد من رؤية ابستيمية الى رؤية اديولوجية تدعي وهما انها تمتلك حقيقة النص الادبي دون سواها والحال ان الحقيقة ليست سوى مشروع مشترك عنوانه ثقافة الحوار الايجابي بين الذوات المبدعة في مجتمع الابداع والمعرفة
بالعودة لنص الشاعر التونسي الكبير عبد الحميد بريك نلاحظ ان هذا النص الادبي من حالة السادية العمياء وحالة انغلاق الذات على ذاتها الى حالة انفتاح الذات على الوجود .
المبحث السادس :
البنية النفسية للنص :
لعل اخطر المدارس النقدية واكثرها جراة وحرجا هي الدراسات النقدية السويو _نفسية
ولو قرانا نص الشاعر الكبير عبد الحميد بريك نفسيا لادركنا ومنذ البداية ان الشاعر رسم في نصه ملامح صراعا نفسيا من خلال صدام بين الجسد (حواسه الخمسة) وروحه في جلسة تقييم خاصة وابدع الاستاذ عبد الحميد في تصويره الشعري لهذه الحرب الخفية وهذا الصراع النفسي الفرويدي حوله الشاعر الى انا سيدة حكيمة متحكمة وقد ذكرنا صقر الضاد عبد الحميد بيت احمد فواد نجم في ديوانه؛ " الكلام المر ' :" الي يملك روحو يملك كل حاجة'
خاتمة
كان نص " ارجع اليك" للشلعر التونسي الشامخ حقيقة يحمل جناحين يرفرفان في عالم الجمال ؛: جناح للتاصيل جعل فيه عبد الحميد نصه عكاظي الوزن والايقاع والعروص فكان فيه مقلدا كلاسيكيا . وجناح للتحديث خاص بانفاسه العلائية فكان في قافيته مجددا وايضا في بعض المفردات وكذلك في فلسفة القصيد القائمة على صراع الاضداد.
طه عثمان البجاوي
الاديب والناقد المتحلج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق