هي ذي تونس تتهودج في ثوب المجد والحرية:
حين تتغلّب أنانية السياسيين على وطنيتهم..ويتسع الفتق رغم الرتق..يتخذ-الرئيس-قرارا مؤلما وصارما..!
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن تونس تمكنت،وحدها بين ما صار يعرف بدول "الربيع العربي"،من مواصلة مسار الانتقال الديموقراطي،بينما دخلت الدول الأخرى إما في فوضى وغياب للأمن،أو عادت الى أنظمة دكتاتورية تحكم فيها السلطة بقبضة من حديد..
ولكن..
تونس كان لها أن تسلك طريقا،غير الذي أُريد لها أن تسلكه،وأن تكون الاستثناء فعلا لو توفرت الإرادة القوية لسياسييها خدمة لشعار "تونس أولا"،لكن أنانيتهم غلبت وطنيتهم وظلت تونس ثانيا وربما أخيرا..
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
بعد عشر سنوات ونيف من عمر الثورة،التي ضجّت بها هتافات المحتجين في كل الولايات التونسية يجوز لنا أن نسأل : تونس..إلى أين ؟
وكمحاولة للإجابة أقول : تونس اليوم في مفترق طرق.لا هي قادرة على الصمود في وجه العنتريات،التي يخوضها رجال السياسة،ولا باستطاعتها لملمة جراحها للنهوض من شبح الأزمة الاقتصادية الساكنة،ولم تتزحزح من فرط المهادنة وتعطيل الإنتاج في أكثر من مكان..
وإذن؟
تراكمات أخطاء الحكام الجدد ونخب الصدفة إذا،في ظل عقلية الغنيمة التي أنهكت البلاد والعباد ودفعت إلى تراجع دولة القانون، وهو سبب كاف لفهم الانهيار الحاصل في مختلف المؤسسات العمومية،وفي مختلف القطاعات الحيوية من اقتصاد وتعليم وصحة وثقافة وغيرها..
ولعل في هذه الأسباب وغيرها ما يفترض تصحيح مفهوم الثورة في عقدها الثاني،للاستثمار في مسار ومناخ الحريات بإحياء القيم والمبادئ،الكفيلة بتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية المنشودة والمصالحة الوطنية،وهو ما لا يمكن أن يتحقق بدون إخراج العقليات من الجمود والركود والإحباط الذي يلازمها..
وهنا أقول: لم يعد ممكناً بأي حال من الأحوال أن تستمر الأوضاع على حالها بعد أن بلغ السيل الزُبى ولم يعد للتونسيين ما يخسرونه،فكان لا بد من أن يحصل شيء ما بحسب توقعات أطراف محلية وخارجية.وكانت البداية بانطلاق حراك شعبي جديد شمل أغلب مدن الجمهورية (حراك 25 جويلية 2021) حمل مطالب اجتماعية،وصبّ جام غضبه على “حركة النهضة” مقتحماً مقراتها،ثم تبعته قرارات الرئيس قيس سعيّد التي وصفه البعض ب”الإنقلاب”!
ولعل في خروج تونسيين بكثافة إلى الشارع للاحتفال بقرارات رئيس الجمهورية-كما أشرت- رغم حظر التجول،دليل على ما في قلوب الكثير من التونسسين من غلّ،وسخط على “حركة النهضة” التي يحملونها المسؤولية عن تردي أوضاعهم المعيشية وعلى الكارثة الصحية التي طالت البلاد وأفقدتهم الكثير من الأقارب والأصدقاء والأحباء.
ويرى هؤلاء في قيس سعيّد المنقذ للبلاد من براثن من عبثوا بالدولة طيلة العشرية الماضية وهو ما يبدو أنه دفع “الأستاذ قيس” إلى اتخاذ هذه الخطوة الجريئة التي كانت منتظرة داخلياً وخارجياً.
إنّ الأزمة التونسية هي أزمة مجتمعية “بنيوية” وهي تتجاوز-في تقديري-مؤسسة رئاسة الجمهورية،بل تفيض على مجمل الحقل السياسي.ولا يمكن بأي حال إعفاء كل الفاعلين الجماعيين-في المستوى السياسي وغيره -من مسؤولية تعميق تلك الأزمة أو الدفع بها نحو ممكنات كارثية.
وقد لا يكون الحل في ضرب “الديمقراطية التمثيلية” بقدر ما هو في تغيير آليات/ منطق إدارتها (وهذا ما يسعى إليه-دوما في تقديري-الرئيس قيس سعيّد)،وهو أمر لا يمكن أن يحصل في المدى المنظور أو المتوسط إلا بظهور”كتلة تاريخية” تعيد تشكيل الحقل السياسي،بل تعيد بناء “المشترك المواطني” أو “الكلمة السواء” بعيدا عن الأطروحات الحالية التي لم تورّث البلاد إلا مزيدا من الفساد والتبعية رغم كل اداعاءاتها ومزايداتها.
وإن كانت تونس تواجه الآن مستقبلا غامضا من الانقسامات فإن الرئيس “سي قيس”يحاول إنقاذ البلاد والعباد من فتنة قد تأتي على الأخضر واليابس سيما أن أطرافا سياسية تحاول-عبثا-سكب البنزين على نار هي ملتهبة أصلا،وقد ينجح-في تقديري-فى الخروج من هذا المأزق التاريخى لتبقى وحدة تونس ويستمر إشعاعها الديموقراطي..علما أنها (تونس)من أكثر الشعوب العربية تقدما واستنارة وستظل واحة ثقافية وحضارية مضيئة في ظل الدياجير العربية..
الوضع الإقتصادي المتردي:
تعاني تونس أزمة مالية واقتصادية خانقة زادت من حدتها أزمة كورونا التي تسببت في وفاة أكثر من عشرين ألف شخص. وويتوقع أن يظل العجز في موزانة 2021 نحو 8 مليار دينار (نحو 3 مليار دولار) في وقت تستمر فيه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لمنح تونس قرضا جديدا. ومن المنتظر أن يبلغ الدين العام مستوى قياسيا وفق قانون المالية لعام 2021 والذي توقع أن يصل إلى 100 مليار دينار (35,3 مليار دولار) وهو ما يمثل 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
واللافت للانتباه في تحركات سعيّد بعد تفعيله "الإجراءات الاستثنائية"،عدم استقباله أي شخصية سياسية محلية واكتفى بلقاء منظمات مهنية وقطاعية على علاقة بالشأن الاقتصادي والاجتماعي.وهو ما يبقي الغموض حول خطته لاستئناف المسار الديمقراطي في البلاد خصوصا أن أستاذ القانون المستقل لم يخف في مواقف سابقة عدم رضاه عن الطبقة السياسية معارضة وحكما رافضا ما يسميه بسياسة "الصفقات.
ما المطلوب ؟
لا بد-في تقديري دوما-من مراجعة مسار ما بعد الثورة،وإدخال إصلاحاتٍ على ما استجدّ من مؤسسات وسياسات وقوانين وممارسات... ولكن في الوقت نفسه،يتعين الإنتباه إلى حالة الخلط والاختلاط بين قوى الثورة وأعداء الثورة تحت عباءة سخط واحدة راهنة، وكذلك إلى المخاطر في هذه الحالة. كذلك يستحق الملاحظة الزخم الذي يحيط بدعوات إعادة إنتاج الأوضاع السلطوية،التي قامت عليها الثورة.
ختاما أقول :
الأجواء الملبّدة الآن في تونس توحي بمخاض آتٍ إن لم يع الفاعلون السياسيون أن مهمتهم تبدأ الآن بترميم ما فات ودونه يبقى لتونس والتونسيين أن ينهضوا لكسر تلك المغالبة التي يعيشونها منذ عشر سنوات من ثورة بزغت ذات ربيع ولم تحقق أهدافها إلى الآن.
والصورة ليست وردية بأي حال،إذ لا تزال الملفات التي تحتاج إلى حلول عديدة ومتعدّدة،منها الملف الأمني،أو الإرهاب،والاضطرابات الاجتماعية والإنماء غير المتوازن بين المناطق، والصعوبات الاقتصادية الكبيرة..إلخ
لكن..
ما يتفق عليه مهتمون عديدون بالشأن السياسي التونسي أنّ تونس تتجه إلى أن تصبح رائدة الديمقراطية في العالم العربي،لكنها،كما أسلفت،لا تزال تواجه تحديات ضخمة وفعلية.فالبلاد في أشد الحاجة للاستقرار السياسي،الذي يُعدّ الاستقرار المؤسساتي من أهم مرتكزاته..
وتبقى في الأخير الأسئلة المطروحة : ما نھاية ھذه المتاھة السیاسیة وسط كم ھائل من الأحزاب المتصارعة والمتناحرة حول كرسي السلطة؟
هل من مستقبل زاھر لتونس يلوح بنور كنور صباح الربیع المشرق،أم مستقبل مظلم كالظلمة الحالكة لیلة الشتاء..البارد؟..
وهل بإمكان-قيس سعيد-انتشال البلاد من هوة الإنهيار التي غدت منها على الشفير..؟
..وتظل هذه الأسئلة حافية..عارية تنخر شفيف الروح..
محمد المحسن