لست أدري من ذا الذي قال :
الشاعر الحقّ من صَحّتْ نواياهُ * ومدّت الحُبَ والإحسان كفّاهُ **
تَرى مُحيّاهُ حيّاً في قصائدهِ * وتقرأُ الشعر عذباً في مُحيّاهُ
ولكني أقول :
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن من أبرز الخصائص المميزة للعمل الفني عموما والملفوظ الشعري خصوصا انه عمل يستفز المتلقي ويحمله على التفكير والتامل في كل حرف وكل كلمة بل يجعله يبحث عما خلف السطور وخلف الكلمات.
ومن هنا يمكننا القول أن الجمالية في الشعر جماليتان : هما جمالية الكتابة وجمالية التلقي .
فالطاقة الشعرية تتسع كلما اتسعت دائرة القرّاء لان كل واحد سيتناول النص من منظوره الخاص ويرى فيه ما لا يرى غيره .
ولا يفوتنا الإشارة الى أنه من شروط جمالية النص الشعري أن تكون المعاني والصور متمنعة مستفزة لا تسلم نفسها للمتلقي بيسر بل تحمله على أعمال فكره وقراءة القصيدة بترو،وبذلك يمكننا الإقرار بكثير من الإطمئنان أن النص الشعري نصان: نص مكتوب على ضوء رؤية صاحبه،ونص مقروء حسب رؤية المتلقي .
شعرية النص لدى الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي:
هنا نستحضر قول تودوروف ”ان النظرة إلى الحدث الواحد من زاويتين مختلفتين يجعله حدثين منفصلين.."
وقد لا أجانب الصواب إذا قلت للشعرية أساليبها البليغة،ومؤثراتها المهمة في تفعيل الرؤية الشعرية في القصائد الحداثية المعاصرة،لاسيما حين تمتلك قوة الدلالة المكتسبة من شعرية الأساليب وتنوعها وغناها الجمالي بالتقنيات الفنية المعاصرة،فالشعرية -بالتأكيد- تثيرها الأساليب الشعرية المتطورة،ومحفزاتها الإبداعية الفاعلة في تكثيف الرؤية الشعرية،وتعميق منتوجها الإيحائي المؤثر.
في هذا السياق بالتحديد،تتجلى الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي ترتقي بالنسق الشعري،وترقى بمستويات مؤشراته الجمالية للشاعر التونسي الكبير طاهر مشي،الذي أوحت لي قصائده التي اطلعت على عدد كبير منها وأبهرتني حبكة وأسلوبا،شكلا ومضمونا..
وهنا أقول للقارئات الفضليات والقراء الأفاضل:لا ترتقي الرؤيا الجمالية إلا بمنتوج جمالي، وشكل جمالي جذاب؛وهذا التفاعل والتضافر بين الإحساس الجمالي والشكل الجمالي هو الذي يرقى بالحدث الشعري،ومثيراته الجمالية..
وهذا ما تجلى بوضوح لا تخطئ العين نوره وإشعاعه في جل قصائد د-طاهر مشي.
ما أريد أن أقول؟
أردت القول أن الشاعر المبدع يستثير القارئ بجمالية بناء قصائده لتبدو متجانسة،متماسكة في إيقاعها اللغوي والدلالي، لاسيما عندما تفيض القصيدة بدلالاتها الجديدة ومبتكراتها التشكيلية الخلاقة التي تشي بموهبة فذة ولذة جمالية في التشكيل النصي.
ومن يطلع على قصائد الشاعر التونسي الفذ طاهر مشي يدرك أن قصائده تجري بفاعلية جمالية في تشكيلها وإحساسها الجمالي،لأنها تنطوي على فهم عميق لمثيرات الشعرية ومواطن تحقيق اللذة الجمالية في ثناياها،فالموهبة الفذة والقدرة الجمالية على توليف الكلمات في أنساق شعرية متوازنة تشي بالعمق والفاعلية والإيحاء.
واللافت أن التنسيق بالمعجم في قصائد طاهر مشي يؤدي قيماً جمالية في النص بمفاعلة قارئه وجذبه إلى دائرة إبداعه؛إذ يزيد التنسيق المعجمي من تلاحم النص،وتأمين تماسكه هذا من جهة،ومن جهة ثانية يفتح مجالاً أكثر انفتاحاً للمتلقي في ليشاركه في لعبة التوقع والتأويل؛ فالقارئ قد يشارك أحياناً في ملء فراغ البيت،بتوقعه الوحدات المعجمية في الشطر الأول،وهذا يزيد من ثم من فاعلية النصوص الشعرية،لأنها تجذب المتلقي إلى المشاركة في اكتشاف دلالاتها،وتوقع الوحدات المعجمية المؤطرة لبنيتها،وهذا ينمي من ثم من فاعلية التأثر والتأثير في قصائد شاعرنا القدير طاهر مشي،لتبدو أكثر إثارة وانفتاحاً للتأويل لجذب المتلقي والقارئ على السواء للمشاركة في إعادة بنائها من جديد.
وهنا،لابد من الإشارة بداية إلى أن التنسيق بالمعجم-في قصائد طاهر مشي-يتمثل في انسجام الصيغ الصرفية في الكثير من المواقع البنائية في القافية،لتبرز كقيم صوتية متجانسة تخلق نغمها الشعري الآسر الذي ينساب مع حركة الأشطر وتناغمها وإيقاعها الصوتي المموسق،ولو دقق القارئ ملياً- في أبيات قصيدته المذهلة :"الشعر قارب نجاة المحبين "- لوجد أن القافية تفرض نفسها على الفور،وترسخ من تلقاء ذاتها وفي ذاتها المعنى العميق الذي يُراد التعبير عنه،نظراً إلى الدقة والانسجام في اختيارها،على نحو ما نلحظه في القوافي التالية (أشواق- طباق-مشتاق-سبّاق-إحراق-رقراق-اشفاق-احقاق..)
إن هذا لائتلاف والتلاحم بين الوحدات المعجمية تارة،وبين القوافي وتموضعها في سياق الأبيات تارة أخرى،يتيح للسامع أن يستنبط وحدات الشطر المعجمية من السطر الآخر،فلا يجد القارئ أدنى صعوبة في فهم مسار النص،نظراً إلى تلاحم عناصره وتكامل وحداته المعجمية المترادفة.
وهذا دليل أن الأداء الفني الجيد يمثل تجسيداً موضوعياً لقدرة صاحبه على تشكيل رؤيته الإبداعية الإبداعية؛ووسيلته إلى ذلك بناء لغوي يتيح للمتلقي أيضاً أن يعيد تشكيل البناء بواسطة إعمال خياله ووجدانه،وهنا يستطيع القارئ أن يستشعر أبعاداً أخرى تلوح داخل التشكيل اللغوي نفسه.
وإذن؟
يخطئ إذا،من يظن أن التفاعل خاصية بعيدة عن عالم الشعر،فالشعر لا أهمية له أن لم يحقق التفاعل على مستواه الباطني وتفاعله على المستوى الخارجي،وقد سبق أن أشرنا في دراسات سابقة إلى أن خاصية التفاعل خاصية مهمة في لغة الشعر، إذ"تعد من الخواص الشعرية المهمة التي تسهم- بشكل واضح-في إكساب العمل الشعري قيمته الجمالية؛ فلا يمكن للنص الشعري أن يحقق أية قيمة جمالية بمعزل عن رؤاه وتطلعاته وأيديولوجيته،وأبعاده الفكرية،ومؤشراته الدلالية،فالنص هو شحنة متفاعلة مؤلفة من كتلة من هذه العناصر مجتمعة فهي كل متكامل،تتفاعل الجزئيات فيما بينها،ابتداءً من أدنى مستوياتها (الحرف والكلمة) وانتهاء بأعلى مستوياتها: الجمل والتراكيب الشعرية الطويلة،وهذه الجزئيات على اختلاف علاقاتها وروابطها-ليست منفصلة بعضها عن بعض بكيفية جذرية،بل إن هناك تفاعلاً وارتباطاً بين الذات الشاعرة وبين الواقع المحيط، فكما أن الرؤية الشعرية- هي بالأساس- شرارة أيقظتها الأحداث والمشاهد في الواقع العياني المشاهد،فإن نقلها وصياغتها صياغة شعرية تتطلب من المنتج قدرة فنية عالية تكشف عن خبايا الذات وأسرارها وارتباطها بهذا العالم من قريب أو من بعيد.
وصفوة القول: أن التكامل الجمالي على مستوى الجمل في قصائد طاهر مشي (قصيدة : الشعر قارب المحبين نموذجا) يحقق قيمة جمالية ترتقي في النسق الشعري،وهذا ما يضمن شعريتها وتفاعلها النصي.
ختاما أقول:
إن الكلمة الشعرية- في قصائد الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي-تتأسس بالأساس على مغريات الحدث الشعري،وفاعلية الصورة وموسقتها الضمنية،مما يجعل الكلمة تستحوذ على جماليتها الخلاقة ضمن نسقها الشعري المتآلف ومعناها الشاعري العميق،فللكلمة نبرتها الصوتية وإيقاعها الشاعري المموسق،وحياكتها النصية،وإيقاعاتها البليغة في استجرار الدلالات العميقة والمعاني البعيدة.
إن قيمة التقنية الجمالية في قصائد طاهر مشي تعتمد على مدى تفعيلها للمعنى والرؤيا والدلالات،وربط الرؤى والأفكار بانسجام وفاعلية جمالية خلاقة.
قبعتي يا طاهر..يا شاعرنا الفذ.
وهذه واحدة من قصائده المدهشة..فأضبطوا أنفاسكم قليلا و سأترك لكم حرية التفاعل مع هذه اللوحة الإبداعية التي نحتتها بمهارة واقتدار أنامل شاعرنا الكبير:
: