الأحد، 4 سبتمبر 2022

 فلسطين منارة علم وثقافة: قراءة في موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة بقلم الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

 فلسطين منارة علم وثقافة: قراءة في موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة

الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت


يقول وزير الثقافة د. عاطف أبو سيف في المقدمة:

"كانت البلاد في أوج إبداعها وتقدمها المعرفي والثقافي حين سرقها الغزاة ودمروا مدنها وقراها وشردوا أهلها، وكانت منارة من منارات الثقافة القليلة في المنطقة قاطبة. إذ كان مبدعوها من شعراء وروائيين وموسيقيين ومسرحيين وسينمائيين وخطاطين ورسامين يواصلون عطاءهم في حقول الثقافة والإبداع، وكانوا رواداً في تقديم بعض الأشكال الفنية الراقية، وكانت البلاد محج كل مبدع عربي، ومدنها منارات تستقطب كل فنان وكاتب".

حقاً كانت فلسطين منارة من منارات العلم والثقافة والإبداع. فالثقافة الوطنية قبل أن تتشكل خصوصيتها في أي قطر هي باختصار الانتماء إلى الوطن بكل مكوناته الحضارية والثقافية والتراثية، كما تنطلق الثقافة الوطنية من مبدأ التأكيد على المواطنة، ويأخذ المثقفون دورهم في توجيه اهتمام الناس إلى مسألة المواطنة كحق من حقوقهم، فهي التي تقوي وحدة المجتمع، وتعزز الانتماء الوطني، وتضمن تساوي الناس وعدم التمييز بينهم. وقد تشكلت الثقافة الوطنية للشعب الفلسطيني، من خلال الوعي الجمعي في عناصرها المتمثلة في الأخلاق، والتراث، والهوية، والقيم والأعراف السائدة، والعادات والتقاليد، والحكم والأمثال الشعبية، والمعارف، والفنون، والآداب، والحكايات والملاحم الشعبية، والأكلات الشعبية، والأزياء الشعبية، كما أنها الثقافة المناهضة للاحتلال ومشاريعه وتوجهاته الفكرية والثقافية. لذلك لا يمكن أن نفصل الثقافة عن المجتمع في أي مرحلة من مراحله التاريخية.

انطلاقاً من فكرة تعزيز الانتماء والرواية الفلسطينية بكل مكوناتها الحضارية والثقافية في مواجهة مشروع المحو الصهيوني، كانت "موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة" الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله 2022. كمشروع ثقافي لإحياء التراث الأدبي والثقافي والحضاري الفلسطيني قبل نكبة عام 1948، مما يؤكد أن فلسطين لم تكن يوماً أرضاً جرداء، ولم تكن فضاءً خالياً من السكان، بل كانت ذات تاريخ ثقافي وأدبي، وذات علم وثقافة وحضارة وتراث عريق راسخ الجذور.

أعتز بأنني كنت واحداً ممن ساهموا في الكتابة لهذه الموسوعة عن المكتبات والمطابع ودور النشر، والكتب والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدواوين الشعرية، والكتاب والأدباء، توزعت ضمن عناوين الموسوعة. وكانت المادة والعناوين التي كتبتها كالتالي: الكتاب والأدباء (35) عنواناً، والكتب والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدواوين الشعرية (219) عنواناً، والمطابع ودور النشر (51) عنواناً، والمكتبات (50) عنواناً.

يقدم للموسوعة الدكتور محمد اشتية رئيس الوزراء الفلسطيني قائلاً: "موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة مساهمة بحثية هامة لتعزيز مصداقية روايتنا، وتدعيم موقفنا في مواجهة الاحتلال ورواياته المزيفة عن فلسطين. إن حرصنا على تاريخنا وروايتنا هو دليل على حرصنا على مستقبل أولادنا وحرية شعبنا نحو الاستقلال وإقامة دولتنا وعاصمتنا القدس بيت الأنبياء". ويؤكد رئيس الوزراء أنه "خلال عقود، استطاعت اسرائيل من خلال ماكنتها الإعلامية الدولية الوصول إلى الرأي العام العالمي، وبث روايتها المشوهة عن فلسطين، لكن الشعب الفلسطيني اليوم يتقدم في معركة الرواية مع تآكل ميزة اسرائيل في معركة وجهات النظر عبر الإعلام الحديث، فلم يعد العالم يستقبل الأخبار مضبوطة ومخرجة من غرف التحرير الموجهة، بل لديه حرية الوصول إلى مختلف المصادر العلمية والاخبارية، بالإضافة لأنواع المحتوى الاعلامي عبر شبكات التواصل الاجتماعي". 

ويشير الدكتور عاطف أبو سيف وزير الثقافة، والمحرر والمشرف العام على الموسوعة في توطئتها إلى الرؤى والأهداف التي سعت الوزارة لإنتاج هذه الموسوعة بجهد عدد من الباحثين، ويؤكد على الدور الحضاري والثقافي لشعب فلسطين قبل النكبة، يقول: "هذه الموسوعة جزء من جهد يسعى إلى تسليط الضوء على الحياة الثقافية في البلاد خلال القرون الثلاثة الماضية حتى وقوع النكبة (الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من العشرين). لو لم تحدث النكبة لواصل الشعب الفلسطيني إبداعه وتألقه في مجالات المعرفة الحقيقية، ولواصلت المدن الفلسطينية الكبرى تحولها وتحقيقها لمكانتها الاقليمية والعالمية مستندة إلى ما يجري فيها من توسع وإبداع، ومستندة إلى تاريخ عريق من الحضارة والمدنية. يشكل الوقوف أمام تلك اللحظات محاولة للتعرف على مجمل الحياة في البلاد بقدر كونه تفنيداً للدعاية الصهيونية حول أحوالها، أي البلاد، قبل أن تتم عملية السرقة، إن هذه الموسوعة محاولة في هذا السياق". ويضيف في سياق آخر من التوطئة للحديث عن مكونات الموسوعة قائلاً: "تسعى هذه الموسوعة إلى تقديم صورة متكاملة عن الثقافة الفلسطينية قبل النكبة، صورة لا يغيب عنها أي فعل أو حدث ثقافي، أو أي مكان يقوم بتنظيم فعاليات ثقافية أو مسرح لمثل تلك الفعاليات من مؤسسات وأندية وفرق وجمعيات ومدارس، أو أي شخصية ساهمت في الحراك الثقافي والمعرفي في البلاد سواء عبر التأليف من شعر وقصة ورواية أو كتابة صحفية أو تأليف موسيقى أو تصوير وتخطيط أو تمثيل مسرحي أو سينمائي، بجانب كل ما يرتبط بالفعل الثقافي من موروث وفن وعادات وملبس". 

جاءت موسوعة الثقافة في مجلد واحد يقع في (521) صفحة من القطع الكبير، والصفحة مقسمة على عمودين لاستيعاب المادة التي لو وزعت على مساحة الصفحة لاحتاجت أكثر من مجلد، والمادة مرتبة حسب الحروف الأبجدية، توزعت على عناوين كبيرة: كالمطابع، والمكتبات، والكتاب والمؤلفين والشعراء والروائيين والصحفيين والإذاعيين والمترجمين، والكتب التي صدرت من رواية ومجموعة قصصية ومسرحية وديوان شعر وكتب أدبية، والممثلين والمخرجين في المسرح والسينما، والمصورين والموسيقيين والتشكيليين، والتربويين والأطباء والنقابيين، والمجلات والصحف والجرائد، والمقاهي الثقافية، والفرق المسرحية والموسيقية والكشفية، والأزياء الشعبية والتراثية، وأسماء دور السينما والأفلام التي أنتجت وعرضت، والأندية والجمعيات والمراكز الثقافية، والمواسم الشعبية.

كانت هذه هي العناوين الكبيرة التي تناولتها الموسوعة ولكن تحت كل عنوان كانت تفريعات بالمواد التي تعبر عن العنوان الكبير، مثلاً المطابع، ذكرت الموسوعة أسماء كل المطابع التي كانت في فلسطين قبل النكبة مع ذكر مؤسسها وتاريخ انشائها وموقعها، والمواد التي طبعتها. وكذلك المكتبات، وفي جانب الكتاب والمؤلفين سردت حياتهم وانجازاتهم الأدبية والثقافية. وأيضاً في جميع المجالات التي تناولتها الموسوعة.   

وفي تحليل مكونات المادة التي ضمتها الموسوعة نؤكد على حيوية الحياة الثقافية والأدبية في فلسطين قبل النكبة، بما لا يقل أبداً عن حيوية الحياة الثقافية في الحاضرات العربية المجاورة كمصر ولبنان. جاء في الموسوعة في مجال التراث كل العناصر التراثية من الأزياء الشعبية وأسماء الثوب الفلسطيني إلى الحرف والمشغولات اليدوية، بالإضافة إلى المواسم الشعبية. وفي مجال المظاهر الحضارية والثقافية عبرت عنها الموسوعة من خلال دراسات أو مقالات موسعة، مثل: الإذاعة، والأوركسترا، والتصوير، وأدب الأطفال، والاسطوانات، والأندية الثقافية، ودائرة الآثار الفلسطينية، ما يزيد عن ثلاثين عنواناً ضمت الموسوعة في هذا المجال. وفي مجال الصحف والمجلات والنشرات ذكرت الموسوعة نحو (116) عنواناً موزعة تلك الصحف والمجلات على المراكز المدنية الأساسية للثقافة وهي القدس وحيفا ويافا. أما في أسماء الكتاب والمؤلفين والتربويين والأطباء والفنانين والموسيقيين والإذاعيين والصحفيين والإعلاميين والممثلين والخطاطين والشعراء وشخصيات عامة وسياسية ونقابية ونشطاء مجتمعيين ومخرجين سينمائيين ومسرحيين، فقد ضمت الموسوعة أكثر من (500) شخصية تتناول سيرتها وانجازاتها وعملها. وفي مجال المطابع ودور النشر والمكتبات كان هناك نحو (115) عنواناً مع ذكر تفاصيل كل مطبعة ومكتبة من حيث منشئها وسنة الانشاء ومكانها ونشاطها. 

كما جاء في الموسوعة أسماء النوادي والجمعيات والمراكز الثقافية، بالإضافة إلى الأندية الرياضية والفنية والمقاهي التي كانت متفاعلة في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، وتلعب دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والأدبية، وتقدم عروضا فنية، وداخل قاعاتها استقبلت العديد من الكتاب والأدباء والمثقفين من البلدان العربية، فقد ذكرت أسماء (72) عنواناً. وفي مجالي المسرح والسينما قدمت الموسوعة أسماء الممثلين والمخرجين، وأسماء المسارح ودور السينما التي كانت ناشطة قبل 48 وفي قاعاتها قدمت العديد من الأفلام ذكرت الموسوعة أسماءها، وكذلك المسرحيات أشارت الموسوعة إلى أسمائها. كما كتبت الموسوعة عن أشهر المصورين ومحلات التصوير في فلسطين قبل نكبتها.

كان للإبداع الثقافي والأدبي في فلسطين مكانة متميزة بين جمهور القراء، وقد ذكرت الموسوعة أسماء الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدواوين الشعرية والكتب والمؤلفات التي صدرت قبل النكبة، مع ذكر مؤلفيها وتاريخ نشرها ومكان نشرها ونبذه عن كل كتاب ومؤلف أدبي، وقد تجاوزت قائمة الذي رصدته الموسوعة ال(250) مؤلفاً منذ بدايات عصر المطبعة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان ثمة العديد من الكتب المترجمة في هذه الفترة فلم تذكرها الموسوعة إنما اقتصرت على المؤلفات الفلسطينية، ولكنها ذكرت أسماء المترجمين وسيرتهم ومؤلفاتهم وترجماتهم.    

إن جهد الموسوعة جهد كبير وشامل نفتخر بوجوده بيننا. لقد أكدت الموسوعة بما احتوته من مواد ثقافية وحضارية روايتنا الحقيقة التي نستطيع بها أن نتحدى زيف الرواية الاسرائيلية أمام العالم، ونؤكد لهم أن فلسطين منذ فجر تاريخها وهي تنتج حضارة وثقافة، وأنها كانت آهلة بالسكان المستقرين على أرضهم، ولم يرحلوا ويشردوا إلا في عام 1948 بفعل الهجمة الصهيونية على أرضنا وشعبنا، وكل ما تقوله وما قالته الروايات الصهيونية هي زائفة وكاذبة، وهذا دليلنا لكل المروجين لتلك الروايات الزائفة.

إن الدعم الذي لاقته الموسوعة من سيادة الرئيس محمود عباس، ومن رئيس الوزراء د. محمد اشتية، كانت مساهمة كبيرة في اخراج الموسوعة إلى النور، لذلك لا يسعنا المجال إلا تقديم الشكر الكبير لوزارة الثقافة وعلى رأسها الوزير الصديق د. عاطف أبو سيف الذي تبنى المشروع وواصل بنفسه الاتصالات مع الكتاب والذين ساهموا في الموسوعة، والشكر أيضاً للأخوة في دائرة الآداب بالوزارة على جهدهم في إخراج الموسوعة وعلى رأسهم الصديق الشاعر عبد السلام العطاري، والشكر موصول لكل الباحثين الذي ساهموا في كتابة مادة الموسوعة. 

وفي الختام اقترح على وزير الثقافة أن يهدي نسخة من هذه الموسوعة لكل سفاراتنا في الخارج، وأن يهدي كل ضيف يأتي إلى الأراضي الفلسطينية من عرب وأجانب نسخة من هذه الموسوعة. لكي نؤكد لهم وللعالم أن فلسطين قبل نكبتها كانت منارة ثقافية وأدبية يهتدى بها الأخرون ويفدون إليها طلباً للعلم والمشاركة في الحياة الثقافية الفاعلة التي كانت تزدهر فيها. وبهذا الاهداء نؤكد بأننا نعتز بموروثنا الثقافي الذي أبداعه أجدادنا ونريد أن نحافظ عليه ونريد للأجيال القادمة أن تقرأه وتعتز به وتبدع كما أبدع أسلافهم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق