قراءة في مجموعة الشاعر التونسي القدير جلال باباي «ركض خلف صهيل الريح»
تصدير: ليس الشعر أن تقول كل شيء، لا أن تحلم النفس بكل شيء (سانت بوف.)
القصيدة تطرح أسئلتها،وتنفتح عند تفاصيل الدهشة حيث النص يخترق الذاكرة،ويلملم الحلم والغياب في مشهد يتشكل كلوحة يتوغل فيها السحر والمعنى والاحتفال..
هذه القضية تفتح نوافذ الشاعر (جلال باباي) على مساحات سرية تقفل رؤيا الشاعر على قراءة الرمز والحلم بين تراكيب لغوية مكثفة يتشيأ فيها (النص) أحيانا كوحدات قلقة..
يفتض عوالمه المشبعة بالحلم والاتساع..أو بين (تهويمات) غنائية،يسعى فيها الشاعر الى استبطان الداخل اللغوي المشبع بسرد انتقائي،يحاول أن ينفذ منه الى حيز آخر، يحيل فيه النص الى علاقة وصفية / رؤيوية...تمزج بين اتساع الحلم ومحدودية اللغة.
في مجموعته الشعرية (ركض خلف سهيل الريح) يتمثل الى هذه المحاولة القلقة القائمة على مساحة من التأمل والانفعال باللغة والمعنى... واغواءات الحلم، حيث يحتال بالانفعال في تتبع لغة تخرج من ثقوب ذاكرة غائمة متعبة،أثقلتها الخيبات والمواجع،كي تكتب فاتحة الرؤيا للحلم الذي يملك سر الكلمة والبراءة: يقول الشاعر في ص 84: كنا نرفل بعطر الألوان / على هضاب اللوحة / ورصاص القلم / يكتسح أفئدتنا الخجولة / تتسع الرؤى... والمرسم / يستجمع شتات الفصول المتوحشة / ثم... تمتد مساحة الحلم / عند نقاط الهروب.
إن مسعى الشاعر الى اقتفاء تضاريس النص، هو محاولة إيقاف حركة زمنه الشعري عبر محاولة استقراء حلمه،في رؤيا تستبطن كشوفاته،وتشكل تواصلا مضادا إزاء زمنه المجهض المغمور بالغرابة والتماس المعنى الشمولي عبر وعي اشكالي يمكنه ان يكشف جوهر هذا الزمن بكل ما يحمله من اضطراب وغياب... وموت...
انه زمن خام..قلق..غير مبرر احيانا يتوخى فيه الشاعر فكرة الجوهري / الشعري المشرع على احتمالات التأويل والمبني على (الهمس والتلمس والحس) وهذا الزمن الذي يحاول قراءته الشاعر يحيل حتما الى محاولة كشف استبطانات اللغة التي تعتبر الشعر ضرورة كما يقول جان كوكتو في استحضار الحلم والرؤيا والاحتفال.."وكم بعثرتك / أجنحة الحلم رقصة السحب / هذه النجمة شعلة القلب أحملها / وشوشاتا لقاع الصمت / لهذا الفتى / عرى الحقيقة / ولكم سائر ما تبقى / من تمتمات الكذب.."
انه حلم تقيم الدهشة والغرابة طقوسه التي تحيل اللغة احتفالا له طابع هلامي يتوغل أحيانا عبر الذاكرة المفزوعة بالخراب والفوضى وذكريات الراحلين .
إن قصائد مجموعة «ركض خلف صهيل الريح» لا تذهب بعيدا عن محاولة إعارة النص بعض التفاصيل التي تشبع الحلم بسرد انتقائي..يلتمس تفاصيله الشاعر عبر شبكة من العلاقات اللغوية / الصورية التي تستبطن (معنى) قائما سلفا،حيث تلج المرأة تضاعيف الذاكرة: الآن... يكتوي القلب / بعصير الزنبقة / مدفئة البيت يا حبيبتي / ترتعش / وحطب الذاكرة ركام من أريج الوشق ص 50.
وتمور الذكريات الأليمة في وجدان أرهقته المواجع: القلب كان إضيق من فسحة المدى / والصدى ذبيح على شفتي المتحجرة / من قاد الرجل الى ربوة الدهشة / الى أين تمضي..يا..ظله برمضاء القصيدة؟ ص111.
ليستمرئ الشاعر لحظتئذ وقع حلمه...إزاء زمن ملغوم بالدهشة والغرابة..
انه زمن (الخارج) الذي يهزم فيه..ويحاول عبر حلمه إيغال الرؤيا في تفاصيل تجعل النص الشعري احتفالا ما،يبهج الشاعر أو يؤلمه عند تخوم العطب...
ولصياغة فضائه الشعربي إزاء هذا الحلم يبدأ الشاعر بالكشف عن تراكيب تندغم فيها الصور سريعة مقطوعة،بمساحات صورية أخرى...بطيئة تحتال باللغة وتتورط معها في استطرادات تثقل النص احيانا بالتجريد والتعمية المقصودة..
وهذه التراكيب الصورية التي تشكل فضاء النص تبرر الى حد ما وعي الشاعر إزاء تركيبة النص الحداثي..فالنص المفتوح على الاحتمال والمعنى تكشف فيه الرؤيا عن عوالم متراكبة مأخوذة بالاستطراد كإشكال لغوي وبالتوالد كإشكال بنيوي..
انه يأخذ في قصيدة (أنثى الخريف ص 107) مثلا إيقاعا شكليا متفاوتا يمزج بين (نثرية) المعنى والخطوط الحلم التي لا تفتأ أن تكون إيقاعا آخرا يتلجلج بشعريته وسط متون متفاوتة في شدها واتساعها،بحيث لا يخشى الشاعر إزاءها فراغات النص..وبياضه..
انه يقترح فضاءا مفتوحا ومبررا حيث تستحيل فيه اللغة الى حلم او خطاب يستبطن الوجد الطاهر في تجلياته الخلاقة...
إن المناخ الشعري الذي تبرعمت في ظلاله أشعار جلال باباي يتسم في مجمله بالتفاعل الخلاق مع الجانب الحداثوي وهذا ما أعطى قصائده تحديثا شديد الألفة، من خلال لغته التخييلية المشكلة تشكيلا عضويا ساعد على خلق معادل فني تلعب الذات دورا بارزا في أساسيات نموه وبالتالي تحوله الى وحدة تكوينية تجمع بين تشكيلاتها المتناهية الدقة كل ما هو متنافر ومتضاد حيث تؤدي هذه الأضداد وظيفتها في إنجاز الهيكلية الهندسية للصورة الشعرية المتوافقة مع إيقاع حركة الواقع والمتعارضة معه. عندما يحاول ذلك الواقع أن يفرض منطقا عقلانيا يتعارض والفضاء التخييلي للغة الشعر.
إن هذا البناء اللغوي،سوى في خاماته الأولية او المنتقاة لا ينسحب على القصيدة الحديثة فحسب بل يتعداه الى التجارب التي اتخذت من قصيدة النثر وعاء تصب فيه ما يترشح من عملية التغطية التي تتعرض لها ذات الشاعر..
ومن هناك فان شعرية قصائد المجموعة،تمثل خطوة أخرى باتجاه قراءة النص الآخر الذي بدأ يشكل خطواته في مسار القصيدة العربية وهي تتململ اليوم بكل اختزاناتها وسحرها وقلقها للخروج الى برية الاتساع حيث الشكل يمسك لذة الحلم،وحيث الحلم يفور في مسارب المعنى..والشاعر يقيم طقوسه على تفاصيل الاشياء..حالما او كاشفا او قائما وسط حرائقه وحرائق الآخرين، يفتش عن أشياء اخرى بلون الجمر او لون النساء او لون الحرية..
وهذه القصائد لا تخرج عن محاولات الشاعر جلال باباي في التماس بنية نصه الحداثي المجبول على كشوفات الرؤيا وتكثيف الايقاع في تركيبة تزاوج بين شكل (تقطيع) وسردية حلمية تتكرر دائما كما وجدنا ذلك في مجموعته الأخرى (شطحت على إيقاع العشق) التي سبق وان عرضنا لها...
ان قصيدة الحلم تظل عصية..والشاعر يظل قاسيا مأخوذا ومقموعا بالنص يلم جسده واحزانه ويسافر غاويا وسط ايقاعات يتداعى فيها كل شيء..يخرج من ذاكرة تكتب النص كتاريخ..انها ذاكرة الآخر الذي مازال يقيم وسط الأشياء حادا وطاغيا..يكتب للآتين في موكب الآتي الجليل..ولعل هذه جدوى أخرى تضاف لمجموعة جلال باباي التي تلتمس بصدق وجدية الخروج الى الجمال والحلم والاتساع.
على سبيل الخاتمة
إن الشاعر جلال باباي وهو يسابق الزمن في ركض محموم خلف الكلمة الشعرية المشبعة بالسحر والجلال، انما نراه يحاول من خلال تشكيل شعري يصل في كثير من تكويناته الى درجة من الشفافية والعفوية،أن يحقق القدرة على التوفيق بين أداته «اللغة داخل الشعر» وبين ترويض تلك الأصوات الضاجة في داخله الذي تمارس استمرارية طقس الاحتراق.
ومن هنا فهو يتموقع بين نزاعين يتطاحن فيهما الوعي واللاوعي،اليقظة والغياب،واختيارات لا حد لها،لعل من أشقها ان يختار المواصلة او النكوص،الا ان «الدهشة الشعرية» تتغلب في الأخير على حوار المنطق العقلاني لتمسك بدفة القارب الشعري في محاولة للعبور نحو الضفاف المبتغاة..
وأخيراً،لقد استطاع الشاعر التونسي الكبير جلال باباي بفضل موهبته الفنية،وثقافته الواسعة ومقدرته اللغوية وبأسلوبه الأصيل والمتميز أن يصقل ويطور أدواته الشعرية الفنية،ويسمو بها نحو الإبداع والتجديد ليلائم مقتضيات التطور والحداثة في المسيرة الشعرية المعاصرة.
وهذا ما سيمهد السبيل الى أرض «معطاء» تليق ببذار الديوان القادم على مهل..
محمد المحسن
*ملحوظة :
لا بد للناقد الأدبي من منهج ينطلق منه،دون أن يكون مقيدًا به حتى لا يقع في خطأ قراءة منحازة ذاتية فيفقد مصداقيته.
من هذا المنطلق،رأيت ألاّ أخوض في مغامرة نقدية شاملة لديوان "ركض خلف صهيل الريح" للشاعر التونسي الألمعي جلال باباي قد لا تعطي هذا العمل قيمته الأدبية،واكتفيت بالتعليق على هذا الديوان بصورة بانورامية شاملة.
* نبذة عن سيرة الشاعر التونسي:
جلال باباي
من مواليد مدينة أكودة في ٣٠ جانفي ١٩٦٤ .
أستاذ مميز للشباب.
عضو باتحاد الكتاب التونسيين منذ سنة 2000 .
رئيس ومؤسس الصالون الثقافى " الشجرة" بأكودة.(سوسة).
صدر للشاعر:
١- شطحات على إيقاع العشق / سنة ٢٠٠٠
٢- ركض خلف صهيل الريح/سنة ٢٠٠٣
٣- مسرٌات وحصار/سنة ٢٠٠٦
٤- الأصوات تنفذ إلى مآقي الماء/سنة٢٠٠٩ الذي ترجم إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية.
٥- المتلألأة برحيق الخزامى(شعر)
٦- عيد خرافي .. خريف الغياب(شعر) ٢٠١٧
٧- عزلة(شعر) سنة ٢٠١٩
عضو الموقع الافتراضي poetas delmundo
* متحصل على الصنف الرابع من وسام الاستحقاق الثقافي(تونس). سنة ٧..٢ .
* له تحت الطبع مجموعة شعرية بعنوان:" قلق حامض" / تقديم الشاعرة التونسية: آمال موسى، ستصدر له قريبا عن دار ميسكيلياني للنشر والتوزيع تونس.
* يفكر في إصدار مجموع الكتابات النقدية والمقاربات التي كتبت في شأن تجربته الشعرية.
* يشرف على تنشيط وتسيير مجلس" اتيكودا" الأدبي بدار الشباب أكودة ، منذ سنة ٢٠١٦ .
* نائب رئيس فرع اتحاد الكتاب التونسيين سوسة.
* عضو مؤسسة الوجدان الثقافية.
* عضو ديوان العرب للنشر والتوزيع - وطن العرب - على الفايسبوك.
*عضو المنتدى العربي علي الدوعاجي للأدب والفكر.
*نشرت هذه المقاربة بصحيفة الشروق التونسية سنة 2005 وأعدنا نشرها اليوم تكريما للشاعر الفذ جلال باباي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق