الاثنين، 15 ديسمبر 2025

أرصفة الشّتاء بقلم الكاتب رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس

 أرصفة الشّتاء

في كلّ شتاء يولد في المدينة سرّ جديد، كأنّ السّماء تعيد ترتيب البيوت فيها.

يأتي الشّتاء فتبتلّ الأرصفة، وتثقل أغصان الأشجار بماء الأمطار، وتظلّ المقاعد خالية ممّن كان يجلس عليها؛ إمّا للرّاحة، أو للنّوم لمن لا ملجأ لهم في اللّيل. فتخال المدينة قد طردت أهلها ليسكنوا مدنا أخرى أو أنّها أتت بغيرهم لا نراهم ليسكنوها.

وفي الحقيقة، لقد أخصب المطر الأرض لتحمل في أحشائها الكثير من الخير، وأمّا النّاس فقد غابوا ليستعدّوا لمواليدهم الجديدة؛ من رحم الأرض ومن أرحامهم. الأرصفة نفسها اغتسلت بماء المطر لتستعيد بهاءها وجمالها، ولتستقبل فيما بعد المارّين عليها. والمقاعد تجمّلت بمساحيق الشّتاء كأنّها عروس ستذهب إلى بيت زوجها. 

ننتبه بعد ذلك أنّ الشّتاء معزوفة خفيّة تجمع أرواح المدينة في نغمة واحدة، حتّى وإن بدت الشّوارع صامتة.

على هذه المقاعد نبتت حكايات غرام وحبّ، وأرسيت قواعد للعيش بين اثنين. لم تخل الأرصفة ولا مقاعدها من النّاس؛ بل كأنّك حين تمرّ بها تسمع حكايات من هنا وهناك، أو ضحكات تصدح من ذلك المقعد أو من تحت تلك الشّجرة، فكم جمعت من قصص وحكايات صارت فيما بعد واقعا تلمسه في ديار جمعت بين حبيبين أو أخوين.

الشّتاء يجمع ولا يفرّق؛ يجمع العائلة حول مدفأة واحدة، وحكاية واحدة، ونكتة وضحكة مشتركة.

وهكذا، كلّما نزل المطر، تذكّرت المدينة أنّها لا تعيش وحدها؛ فثمّة قلوب تتّسع لها كلّما ضاق بها البرد.

رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق