قراءة نقدية كونية–إنسانية لنص الشاعرة سامية خليفة بعنوان الندم، قراءة تستلهم المنظور الإنساني الكوني الذي يربط الجماليات باللغة، والأخلاق بالخيال، والذات بالعالم، وتضع النص في أفقه الوجودي والكوني والإنساني، دون أن تفقده خصوصيته الشعرية.
قراءة نقدية كونية–إنسانية لقصيدة "الندم"
1. مقدّمة: الشعر حين يتحوّل إلى شهادة كونية
قصيدة "الندم" نصّ ينتمي إلى الأدب الإنساني المقاوم، حيث يتحوّل الوجدان الفردي إلى ضمير جمعي يشهد على الألم، ويعيد كتابة المأساة بلغة تتجاوز المحلي لتلامس الوجودي والإنساني الكوني.
النص ليس رثاءً سياسياً، بل رثاء للإنسان في لحظة سقوط القيم، حيث يصبح الإبداع نفسه متّهماً: هل يمكن للفن أن يظل بريئاً حين يسقط الأطفال؟
بهذا السؤال تُدخلنا الشاعرة في محنة الضمير: الندم ليس شعوراً، بل موقف وجودي، وفضاء أخلاقي، ووجه آخر للحقيقة.
2. البنية الشعورية: من السماء المكفهرة إلى الإنسان المكسور
يفتتح النص بمشهد كوني متوتر:
السماء مكفهرة
البحر غاضب
الطيور كئيبة
هذه العناصر ليست ديكوراً، بل معادل موضوعي لحالة الضمير. الطبيعة هنا تتضامن مع المأساة، وتصبح مرآة داخلية للذات الساردة.
في القراءة الكونية، الطبيعة ليست خلفية بل شريكاً في الألم؛ إنها تشهد على جريمة واسعة بحجم العالم.
بهذا المعنى، تبدأ القصيدة من الأعلى (السماء) وتنحدر تدريجياً نحو الداخل (القلب)، ومن العالم إلى الذات، في حركة جمالية تشبه انكسار موجة على صخرة الوعي.
3. الندم كمعضلة أخلاقية–فنية: تأنيب الشاعر وخيانة الجمال
أقوى لحظة في النص هي لحظة مواجهة الذات:
«أعرف كم ابتعدت
عن مشهد المجازر…
كيف بريشة فنان جمّلت الموت بالألوان
كيف بقلم شاعر… غطّيت الجثث بالكلمات»
هنا يكشف النص سؤالاً عميقاً في أخلاقيات الكتابة:
هل يمكن للكلمة أن تظل جميلة في عالم يقف على حافة الخراب؟
وهل يصبح الفن خيانة حين يضع للموت إطاراً فنياً يحوّله إلى لوحة جميلة؟
وفق القراءة الكونية–الإنسانية، هذه اللحظة ليست نقداً للذات فقط، بل نقداً لكل مثقف وفنان وشاعر حوّل المأساة إلى مادة جمالية، أو اكتفى بوصفها دون أن يقف في وجهها.
إنّه سؤال عالمي موجّه إلى الإنسان الحديث:
هل أصبح الإبداع عزاءً يجمّل الجريمة بدل أن يفضحها؟
4. اللغة ككفن: حين تتحوّل الكلمات إلى غطاء للجثث
من أجمل وأقسى لحظات النص قولها:
«غطّيت الجثث بالكلمات»
في القراءة الإنسانية، هذا الاعتراف هو ذروة الوعي الأخلاقي.
الكلمة هنا تُعامل كنسيج، كقماش، ككفن، ما يجعل الشعر يدخل في منطقة حدودية بين الوظيفة الجمالية والوظيفة الأخلاقية.
اللغة، التي وُجدت للقول، تصبح أحياناً شريكة في الصمت.
وهذا ما يجعل الندم في القصيدة ندمًا كونيًا:
هو ندم لغة، وندم ثقافة، وندم إنسان وقف متأخراً أمام مشهد الألم.
5. الزمن الممزق: طولٌ لا يكبر إلا على الخراب
القصيدة تُقدم رؤية وجودية للزمن:
الليل يطول
الأخبار تطول
الفيلم الأميركي يطول
كل شيء يطول…
إلا عمر أطفال غزة
هذه المفارقة هي قلب النص.
هنا ينتصر البعد الإنساني الكوني: الزمن في مناطق الرفاه ينتفخ ويتمدّد بلا معنى، بينما الزمن في وجه القصف يُختصر إلى لحظات.
إنه نقد حضاري ووجودي في آن:
العالم يزداد طولاً، ولكن الإنسانية نفسها تقصر.
6. الشكل الفني: انكسار الجملة كتجلٍّ لانكسار الذات
القصيدة تعتمد على:
الجملة القصيرة المتقطعة
التوتر الإيقاعي
تتابع الصور
بناء مشاهد بصرية–وجدانية
هذا التفكك ليس ضعفاً بنيوياً بل مقصود، إذ يعكس تفكك الذات و تشظي الضمير.
القصيدة مكتوبة مثل أنفاس متقطعة، تشبه نحيباً أو اعترافاً في غرفة مظلمة.
7. البعد الكوني–الإنساني: غزة كمرآة العالم
تبلغ القصيدة ذروتها حين تحوّل المأساة الجزئية إلى إنذار كوني:
«عدا أعمار أطفال غزة
كم كانت قصيرة»
في القراءة الكونية، المكان لا يُقرأ كموقع جغرافي، بل كرمز:
غزة هي تمثيل للبراءة المطلقة المذبوحة، والإنسان المهدَّد، والضمير العالمي المنهار.
النص هنا لا يتحدث عن صراع سياسي، بل عن امتحان الإنسانية:
هل ما زال العالم يحتمل وجود أطفال يموتون بلا سبب؟
وهل يمكن للضمير أن يبقى سليماً بعد ذلك؟
8. خاتمة: القصيدة كنداء العودة إلى الإنسان
"الندم" ليست قصيدة في الندم فقط، بل في استعادة إنسانيتنا المفقودة.
إنها دعوة إلى العودة إلى الثوابت الأولى:
الصدق، الشهادة، مواجهة الذات، ومواجهة العالم.
ووفق القراءة الكونية–الإنسانية، القصيدة ليست مجرد نصّ، بل وثيقة أخلاقية تقول لنا:
الفن يجب أن يكون مع الإنسان، لا فوقه.
والشعر يجب أن يفضح الألم، لا أن يجمّله.
والضمير – مهما تأخر – يظل آخر حصون النجاة.
بقلم ابراهيم عثمان
النص
الندم
السماء مكفهرة
تشهد وقع المصاب
البحر غاضب
لا يستطيع أن
يتمالك صخب الهدير
الطيور كئيبة
تحمل معها فتات الأحزان
وتهاجر
القلوب تتحطم
الآن أسمعُ النشيج
فقلبي عاتب على ذاتي
يحترق ندما
أعتنقُ الوحدةَ ملاذا ومهربا
اليومَ اجثو على ركبتي الندم
ذليلا كسير الفؤاد
أتلظى بجمر العذاب
أعرف كم ابتعدت
عن مشهد المجازر
أعرف كيف بيدين باردتين
رسمت سورا يداري قسوة الأحداث
كيف بريشة فنان جمّلت الموت بالألوان
كيف بقلم شاعر يبحث عن المجاز
بالخيال
ألبست القصائد استعارات
غطّيت الجثث بالكلمات
غطيت بها وجه المساغب
وبالأحمر أشبعت اللوحات
ثقلا فلسفيا
زينة تتدرج بالألون
يناديني الندم
بصوت مكتوم الصرخة
يحول الصوت إلى قصيدة
مبتورة
من يسمع الآن انفجار صوت الندم
كم الليل معه يطول
كم الغربة معه تكبر
كم المكان معه ينمحي
يتقوقع
يأخذ شكل جنين
سجين
والسجن لوم كبير
ينوح كما
الأم الثّكلى
الليل لا ينتهي
نشرة الأخبار تطول
تنافس بطولها
الفيلم الأميركي
كل شيء يطول
ويكبر
عدا أعمار
أطفال غزة
!كم كانت قصيرة
سامية خليفة/ لبنان

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق