الاثنين، 15 ديسمبر 2025

(حول القصة القصيرة) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 (حول القصة القصيرة)

تشجيع المبدعين..تأسيسا لأجيال تقرأ..


-إن كتابة القصة القصيرة الناجحة صعبة جداً لأنه مطلوب من الكاتب أن يقبض على العالم في بضع جمل،أن ينفذ إلى قلب وعقل المتلقي ببضع جمل،أن يوصل حالة سردية في أقل عدد من الكلمات..(الكاتب)


-"مهما كان القصر فسيحا نحتاج إلى نافذة نطلّ منها على الخارج"


ثمة انشغال كبير بمصطلح "القصة القصيرة "ما بين متحمس لها،داع لكتابتها،وبين رافض لهذا الجنس الهجين الذي يراوغ بين جماليات الشعر والسرد،وخاصة بعد صدور مجموعات قصصية كثيرة في الآونة الأخيرة،بل وعقدت لقاءات نقدية تناقش هذا الجنس الأدبي الذي برز فجأة واستشرى بين الكتّاب..


لكن ورغم ذلك يظل هناك غياب حقيقي للتأريخ له،متى بدأ؟ وهل تعود جذوره لقصيدة النثر أم أنها تعود للقصة الومضة وقصة اللحظة،التي نظّر لها يوسف إدريس كثيراً؟


هل لهذا الجنس الهجين سمات وجماليات خاصة؟ وما هي التحديات التي تقابله؟


إن النقّاد اختلفوا حول هذا الجنس الأدبي،فمنهم من رحّب به وتحمّس له،ولهؤلاء النقّاد منطقهم، فهم يعتقدون أن الحياة في راهنيتها سريعة ومتلاحقة ولا تترك الفرصة والوقت الكافيين لكتابة النص الطويل أو حتى قراءته،وأننا لابد لنا أن نبحث عن وسيلة للتعبير جديدة،وأن للقصة القصيرة جداً مناسبة لهذا الظرف،لأنها تختزل العالم بمشاكله وتناقضاته وتعبّر عن هذه الحياة بشكل مكثف يخضع لكل هذه المواصفات.وهناك فئة أخرى ترى عكس ذلك،حيث رفضت هذا الجنس الأدبي جملة وتفصيلًا،واعتبرته مستنسخاً عن أجناس أدبية أخرى،واعتبروا كذلك أن كل من يكتب في هذا المجال،إنما يستسهل الكتابة الأدبية،التي تحتاج في حقيقة الأمر إلى مجهود فكري ولغوي وقدرة عالية على الإبداع الفني والجمالي،وأن هذا الجنس الأدبي إنما يختزل الأحداث ولا يهتم بالشخوص بالشكل المطلوب في كل عمل قصصي،مما يساهم في تمييعها.وأنها لا تقدم ملامح واضحة تميّزها عن غيرها من الأجناس الأدبية،فهي ليست بالشعر ولا بالنثر. 


إن هذا الاختلاف وهذا الجدل الطويل حول القصة القصيرة جداً،وهذا الغموض التي يكتنفها يطرح كثيراً من الأسئلة،وتحوم حولها كثيراً من الشكوك.لكنني شخصياً لا أنشغل كثيراً بهذا الحماس أو الرفض،إن الفيصل الوحيد الذي يحكم ذائقتي-كناقد-هو مدى ما تقدمه هذه النصوص من الخصائص السردية لفن القصة،هل يتوفر لهذا النص ما يجعلني أقول إنه نص سردي اختزل العالم وكتب بلغة تراهن على فكرة النسيج السردي،وابتعد عن المباشرة،وقدم اللحظة القصصية في كثافة وعمق،أم مجرد بوح لغوي لا يعرف من السردية إلا الإسم.


إن كتابة القصة القصيرة الناجحة صعبة جداً لأنه مطلوب من الكاتب أن يقبض على العالم في بضع جمل،أن ينفذ إلى قلب وعقل المتلقي ببضع جمل،أن يوصل حالة سردية في أقل عدد من الكلمات.


ما أريد أن أقول..؟


أردت القول أن القصة القصيرة جداً تواجه تحديات تتمثّل في مدى صمودها واستمرارها كنوع أدبي من بين أنواع كثيرة،علاوة على مدى تقبّلها من قبل القرّاء لتخلد في ذاكرتهم كجنس سرديّ مختلف.


وبناء على ذلك لا بدّ لها من أن تتميّز بمقوّماتها لاسيّما من حيث عناصر: الحكائيّة والتّكثيف والإيجاز واللّغة المخصوصة،التي تميل إلى لغة الشّعر،والدّهشة والإرباك والصّدمة والمراوغة،وهي الخصائص التي تسم القفلة عادة. هذا إلى جانب التّنويع في الشّكل والاستفادة من روافد أخرى كالفنون البصريّة والسمعيّة ومختلف الأجناس الأدبيّة المجاورة.غير أن المشهد الحالي للقصة القصيرة يحمل الكثير من الصعوبات والمعوقات،من ذلك أن جانباً هاماً مما يكتب تحت هذا العنوان يتسم بالغموض والنمطية،وعدم وضوح الفكرة،والاختزال الشديد جداً إلى حد يضيع معه القارئ،فلا يكاد يمسك بشيء غير الأفكار المطلقة والاستيهامات الجوفاء واللغة المشبعة بالمجاز،فلا يجد بذلك العناصر الأساسية الجالبة والمكونة للقصة القصيرة جداً.كذلك فإن التحدي الأكبر في المستقبل القريب والبعيد سيكون منحصراً في مدى جاذبية هذا النوع الأدبي،وما يمكن أن يطرحه من موضوعات لا بد أن تكون منتجة ومتفاعلة مع انتظارات المتقبل وحاجياته وهمومه وذوقه.


وهو أمر ممكن على اعتبار أن القصة القصيرة تواكب عصر السرعة لكونها كبسولة سردية تغني عن الإطالة والحشو والثرثرة والتفاصيل المملة،لتقدم الجوهر والمختصر والمفيد بتحلية لغوية تستفيد من الشعر،وبشيء من التنويع في الشكل وتقنيات السرد.


ومن جهة مغايرة فإن الرهان أو التحدي الآخر هو ضرورة إشاعة وترويج هذا الفن في صفوف القراء وبخاصة الناشئة ليترسخ كنوع أدبي،ويتعايش مع أنواع أخرى،ويجد له مكانة على صعيد النشر والتوزيع.


وهنا أقول:


ثمة قولة قرأتها مرّة وعلى خلاف عادتي لم أنسها «مهما كان القصر فسيحا نحتاج إلى نافذة نطلّ منها على الخارج»،تبدو النافذة ضرورية لنفهم أين نحن وما الذي يحيط بنا،ويبدو أنني لم أستطع نسيان هذه المقولة الجميلة لأنّني أشعر فعلا أنّي لست في قصر فخم وفسيح،بل في بلاد لكنها ضيّقة مثل قفص وصغيرة مثل علبة كبريت..


وهنا أضيف: أشعر أنّ المشهد الثقافي في تونس محدود جدّا،أينما رميت بصري أصطدم بمعوقات كثيرة،فتصبح الكتابة مهمّة شاقّة ومستحيلة كأنّك تسحب فيلا من ثقب إبرة،لا أحد يقدّر حبر روحك المنساب على الورقة،هكذا أصبحت وسائل الاتصال الافتراضية نافذة حقيقية لديّ ومكّنتني أن أرى العالم من حولي وأن أتعرّف على كتّاب ونصوص أخرى مختلفة..ثقافية.


لا شك أن كل مبدع لا يكون منقطعًا بأي حال عن بيئته ووطنه وعصره،لأنه يستمد عناصر إبداعه من المناخ السائد في كلاهما،ولا سبيل للإبداع إلا في مناخ إبداعي يتيح له التنمية والرعاية،ويجب أن تتوفر رؤية مستقبلية للمجتمع يسعى إلى تحقيقها،لأن المبدعين هم قادة المستقبل في شتى المجالات،فبجهودهم تقدمت الأمم،وازدهرت الحضارات عبر القرون، وأعني بالمناخ الإبداعي،في معناه الواسع،الوسط المباشر،والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية.


وبالتالي يجب أن يكون هناك تكامل في الدور الفعال لتشجيع ورعاية المبدعين والمبتكرين من كافة الأطراف.


وهنا أطرح سؤالا يؤرقني :


ما الجدوى من نشر عمل إبداعيٍّ في ظل تقهقر القراءة كممارسةٍ منتظمة في المجتمع؟


وحتى لو تقلصت أمنياتُ المبدعين إلى بعض القراءات الفردية وبعض ِتداول الآراء في نطاقاتٍ ثقافيةٍ متخصصة ومحدودة جدا،فإن بلوغ ذروة الثقة بالمنتـَج الإبداعي بما يفضي إلى النشر لا يأتي إلا بعد أعوام ٍمن التأمل والمراجعة والتمحيص،بحيث أن الكاتبَ يمرُّ بدرجاتٍ من التصعيد تجعله في حالة ترقب شديدة لما سيأتي به نتاجُه من ردود فعل لدى القراء أو الناقدين.فينشرليجد صمتا ولا شيء غيره.وما لم يدفع بالعمل إلى يدي كاتبٍ أوناقد ليبدي رأيه فيه على متن أحد الملحقات الثقافية فإن العمل يبقى في الظلام.وحتى لو تداوله النقاد وحاز على جائزة هنا أو هناك،فإن التقدير الحقيقي للعمل يبقى محصورا في فئة النقاد وقلة من القائمين على صناعة الأدب،وليس في من يستهدفهم العمل الأدبي فعلا،وهم الناس عامة.ويذهب جهدُ أعوام ٍمن التأمل والإتقان الأدبي سدى.


أنا لا أقلل من شأن الحملات الوطنية لتشجيع المبدعين،وليس هناك ما يمنع من قبول نشر كل ما يتقدم به الكتّاب.لكن علينا ألا نلبس أهدافنا بوسائلنا.والتشجيع في اتجاه التقدم بالإبداع يجب أن توازيه قنوات للتوجيه والتقييم حتى لا تبور تجارة المبدعين الحقيقيين في محاولة لاثبات الوجود في ساحة تزخر بالأسماء بلا دلالات راسخة على إبداعها.


المبدع العربيّ واقعيّ ومطلعٌ على حال الثقافة في عصرنا،فلن تذهب به الأحلام إلى أن يجعل من إبداعه مهنة،أو أن تكون إبداعاته سببا للشهرة أو مصدرا للدخل.حاشى لله-بل أن جل ما يريده هو التقدير..فقط. أن يعترف العالم بموهبته،وبأنها تخلق فيه تفردا لا يظهر للعين.وتقدير الموهبة لن يتأتى للمبدعين الحقيقيين إن لم يكن في ساحة النشر والناشرين آلية لغربلة ما سيجلس على الرفوف بانتظار قارىء ما..


على هذا الأساس،وحتى لا أطيل على القارئ الكريم،أقترح على بعض المؤسسات الثقافية على غرار (مؤسسة الوجدان الثقافية الرائدة) تجميع بعض نصوص المبدعين ممن تألقوا في كتابة القصة القصيرة،في كتاب إلكتروني ونشره حتى نشحذ عزائمهم وندفع بالإبداع القصصي في الإتجاه الصحيح والمتميز،وذلك تحت إشراف نقاد مهرة..تأسيسا لأجيال تقرأ..


وأرجو..أن يحظى اقتراحي بالقبول.


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق