**((فشّة خلق))..
قصة قصيرة
(مصطفى الحاج حسين).
ما بوسعِ المعلّم "عدنان" أن يفعل، إذا كان بيته يَبعد كثيرًا عن المدرسة التي يُعلّم فيها؟!
وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ الدّاخلي، ثمَّ يتابع طريقه سيرًا على الأقدام، مدّة دقائق.
وماذا يفعل، إذا عَلِمنا أنّ الحافلة الأولى التي سينحشر بداخلها، لا تأتي قبل السّادسة والنصف؟
ولا يصل إلى محطّة "المنشيّة" إلّا في حدود السّابعة، ثم عليه أن ينتظرَ الحافلة الثانية.
ولا وسيلةَ نقلٍ أُخرى يمكنه استعمالها، سوى "سيارة الأجرة"، التي يعجز راتبه، بالتأكيد، عن تغطية نفقاتها.
وما بيده، إنْ حاول باستماتة، ورغم كلّ الواسطات التي لجأ إليها، أن يعيّنه المُوجّه في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنه،
لكنّ المُوجّه يعتذر، بحجّة أنّه لا شاغرَ لديه.
ثمّ نوَّه بأنَّ نقل الأستاذ "عدنان" من منطقة "عين العرب" إلى حلب، بحدِّ ذاته، شيءٌ عظيم وغير قانوني، لأنّ دفعة زملائه في التّعيين، لم يُصدر قرار نقلهم، رغم مرور أربع سنوات على غربتهم.
وما حيلته إنْ كان قد طلب من مديره أن يُعفيه من إعطاء الحصّة الأولى، كي لا يتأخّر على طلابه،
لكنّ السيّد المدير اعتذر، متذرّعًا بالبرنامج المدرسي الذي لا يمكن تغييره.
أما فكرة أن ينقل مكان سكنه إلى منطقةٍ أقرب، فمرفوضة بالتأكيد، ذلك لأنّه يقيم، مع زوجته وابنتيه الصّغيرتين، في غرفةٍ خانقةٍ وضيّقة، عند أهله.
ولا مال لديه للإيجار أو غيره، فقد تزوّج "بالتقسيط"، ولا يزال يدفع من مرتبه، ومرتب زوجته، الأقساط المترتبة على عنقيهما.
السّيد المدير غارقٌ إلى شحمة أذنيه في البيروقراطية والاستبدادية... وهو في الحقيقة، لا يصلح إلّا أن يكون محقّقًا بارعًا في الطّعن والانتقام، ممّن يتجاسرون عليه، وممّن ينصاعون إليه أيضًا.
فما من معلّمٍ خدم في مدرسته، إلّا وكتب بحقّه أكداسًا من التّقارير،
واقترح بشأنه آلاف العقوبات والإنذارات، مستعينًا بالآذن "عبد الفتّاح"، الذي أطلق العنان لأذنيه، وعينيه، ومنخاره، لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها.
فما إن يصل المعلّم "عدنان" إلى المدرسة، ويدخل الصّف، حتّى يقتحم عليه الآذن الباب، حاملاً استجوابًا خطّيًّا من السيّد المدير:
– (بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان).
كان يرتبك، ويحمرّ وجهه خجلًا أمام طلّابه،
فيجلس خلف طاولته، ليردّ على الاستجواب، ويقدّم اعتذاراته الشّديدة التّهذيب.
وكان ينسب تأخّره، بالطبع، إلى سوء تنظيم المواصلات.
لكنّ المدير، لم يكن يقبل هذه الاعتذارات، فيبادر إلى كتابة تقريرٍ مفصّل بحقّ المعلّم، ويرسله برفقة الاستجواب إلى المديريّة، مع اقتراحاتٍ عديدة، منها:
إعادة الأستاذ "عدنان" إلى الخدمة في الرّيف، إلى جانب الحسومات من راتبه.
وكان المدير، الذي يتظاهر بعشقه للنظام، يسجّل ملاحظات التّأخير في دفتر الدّوام، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه.
ضاق بمديره وتقاريره ذرعًا، وفكّر بتقديم استقالته، لكنّ دموع زوجته، ومنظر ابنتيه الصّغيرتين، منعاه من اتخاذ القرار.
فماذا يمكن له أن يعمل إن استقال؟
واليوم، وصل متأخّرًا كعادته، ويبدو منزعجًا، بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتّبه، الذي قبضه أمس.
وما كاد يدلف إلى صفّه، حتّى اقتحمه الآذن "عبد الفتّاح"، حاملاً الاستجواب الأزلي:
- (بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان).
تناول الورقة بعصبيّةٍ واضحة، ولم تُخفَ هذه الحركة على "عبد الفتّاح" بالطبع، فقد تمكّن من رصدها وحفظها.
جلس المعلّم خلف طاولته، وشرع في الإجابة، بعد أن تجرّأ وأشعل سيجارة، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه الآذن، وعلى عينيه الثعلبيّتين، فلم يعرف ما يفعل.
هل يهرع إلى السيّد المدير ويطلعه على ما يحدث؟ أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه؟
لكنّه، في النّهاية، فطن إلى ضرورة البقاء، كي لا تفوته أيّة حركة، من تعابير وجه المعلّم، الذي شرع في الرّد:
- السيّد مدير المدرسة المحترم،
نُعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم...
أيقظتني زوجتي كالعادة، كان الفطور جاهزاً إلى جواري.
ازدردتُ لقمتينِ على عجل، ثمّ أشعلتُ سيجارة لأنفثَ دخانها على رشفات الشّاي السّاخنة.
كانت زوجتي تهمُّ بارتداء ملابسها لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى.
وقعت عيناي عليها، فأثارتني. مددتُ يدي وشددتها، طوّقتها بذراعيّ.
حاولت أن تتملّص منّي، جذبتها بقوّة، فقالت:
- سنتأخّر.
قلتُ:
- طُز.
- سيقطعونَ عنّا الرّاتب!
هتفتُ:
- طُز!
صاحت:
- ومديركَ.. ومديرتي!
أجبتُ:
- طُز.
- سترتفع بنا التّقارير!
- طُز.
احتضنتها، وصراخها ينبعث:
- مديركَ يا عدنان...!
ومديرتي... لن يرحمانا اليوم!
وكنتُ أهمسُ كالمحموم:
- طُزّ منهم... واللّعنة عليهم... وعلى مدارسهم، وتقاريرهم، وآذانهم!
فليطردونا، وليقطعوا عنّا الرّاتب... بل ليقطعوا أعناقنا!
لكنّي... لن أترككِ تفلتينَ منّي.
وهكذا، يا سعادة المدير المبجّل...
أمضينا ربع ساعة من أروع لحظات العمر، استرجعنا خلالها تلكَ الأيّام الجميلة.
فأنا، يا جناب المدير، كثيراً ما كنتُ أغفو قبل أن تتفرّغ إليّ زوجتي بسبب طفلتينا.
أغفو... وأنا على جمرِ الانتظار، لأنّكَ، يا جناب المدير، سرعان ما تبرز أمامي، لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً، والاستيقاظ باكراً، لألهث خلف الحافلات.
أعترفُ، بأنّ سبب تأخّري اليوم، هو الاستهتار منّي، واستسلامي لشهوتي.
ويمكنكَ، يا جناب المدير..
أن تفعل ما تراه مناسباً،
وليس بإمكاني سوى أن أُردّد لجنابكم:
- طُز... والسّلام.
وقرأ المعلّم "عدنان" الكلمة الأخيرة بتلذّذٍ، وبنبرةٍ عالية.
ففتح الآذن "عبد الفتّاح" باب الصّفّ بقوّة، وخرج مذعوراً، مسرعاً، راكضاً، لاهثاً.
وكان الممرّ الضيّق الطّويل
، وبوّابات الصّفوف، والدّرج المؤدّي إلى الإدارة، وسائر جدران المدرسة، والمقاعد، وقطع الطّباشير، وكلّ ما في المدرسة من أثاث، يَهتفُ خلف الآذن، وبصوتٍ جماعيّ قويّ يشقُّ عنان الصّمت، تلك الكلمة التي
ارتفعت حتّى ارتطمت بعيون السيّد المدير، وهو يقرأها، فاغراً فمه على مصراعيه:
- طُز... طُز... طُز!*
مصطفى الحاج حسين.
حلب

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق